تراهم يقفون أمام البوابة الرئيسية للأهرامات في الإتجاه المقابل لفندق "مينا هاوس" الذي شهد مفاوضات السلام بين مصر وإسرائيل في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، وكلهم أمل أن تقف حافلة ضخمة ويخرج منها المئات من السيّاح الأجانب، ويطلبون الدخول للأهرامات، ولكن طال إنتظارهم منذ اندلاع الثورة في 25 يناير الماضي، فقد تدهورت أحوال السياحة، وانخفض أعداد القادمين إلى مصر بشكل كبير، مما أثر عليهم سلبياً، وتسبب في تدهور أحوالهم المعيشية، بل تدهورت أحوال حيواناتهم، فنفق بعضها، من شدة الجوع، بينما يقف البعض الآخر يصارع من أجل البقاء، فيما حول البعض منهم مسار حيواناته إلى مهنة أخرى هي جر العربات. هؤلاء هم أصحاب الخيول والجمال في الأهرامات.
15 ألف شخص فقدوا أعمالهم
ورغم ضيق الحال، إلا أنهم يخشون الشكوى أو الحديث للصحافة، إعتقاداً منهم أنها تتربص بهم منذ موقعة الجمل الشهيرة في 2 شباط (فبراير) الماضي، حيث يتهمون بأن بلطجية أو من فلول النظام السابق.
وبصعوبة تحدثنا إلى كبيرهم ويدعى عتريس علي عتريس من منطقة نزلة السمان، وقال إن الأحوال تدهورت بشكل غير مسبوق، منذ الأيام الأولى للثورة، وبعد أن كان يعمل في هذه المهنة ما يتراوح بين 10 و15 ألف شخص، ويعولون أسرهم التي لا يقل عدد أفراد الأسرة الواحدة عن أربعة، أصبح عددهم الان يقدر بنحو 200 فقط.
وأضاف عتريس ل"إيلاف": هناك الآلاف منا تركوا المهنة وعملوا في مهن أخرى، مثل نقل مخلفات الهدم والبناء، بعد أن إشتروا عربات، ولكن أيضاً الرزق شحيح، لأن سوق المعمار حاله واقف، ولا أحد يبني الآن."
وتابع: "كنا في مثل هذا الوقت من كل عام نعمل بشكل جيد، وكان عدد الاجانب لا ينقطع عن مصر أبداً، وكان الشخص منا يحصل على حوالي 500 جنيه في اليوم، حيث تترواح تكلفة ركوب السائح والتجول في الهرم ما بين 50 و200 جنيه، أما الآن فلا يوجد شيئاً من هذا. المصريون فقط هم من يحضرون لزيارة الأهرامات، وبأعداد قليلة، وهم جميعاً من البسطاء سواء الموظفين أو أصحاب المهن الحرة، ولا يمنحون صاحب الحصان أو الجمل سوى ما يتراوح بين 3 و5 جنيهات".
الخيول والجمال جائعة!
ويزيد غلاء أسعار المواد الغذائية للحيوانات من بؤس الخيول والجمال في نزلة السمان القريبة من الأهرامات، ويزيد من بؤس أصحابها أيضاً، ويقول عتريس: "أسعار طعام الخيول والجمال ارتفعت بشكل كبير، لذلك فهي تتضور جوعاً، بعضها نفق لعدم قدرة أصحابه على إطعامه، كيلو الذرة أصبح ب 5 جنيهات، والحيوان يحتاج إلى أكثر من عشرة كيلو يومياً، وقيراط البرسيم أصبح 200 جنيه، وهو يكفي لإطعام الحيوان نحو أسبوع، وحمل التبن ب400 جنيه، وفي المقابل ليس هناك أي دخل معقول يكفي لهذه النفقات".
النفوق أو الجر
"صاحب الخيول أو الجمال أصبح بين خيارين كلاهما مر، لكن لا مفر" هكذا يتحدث عتريس إما أن يطعم أولاده أو يطعم حيواناته، ولا يكون أمامه سوى الإهتمام بأبنائه على حساب حيواناته، ونتج عن ذلك نفوق بعضها، لاسيما أن الحصان الذي كان سعره يترواح بين 10 إلى 15 ألف أصبح صار ثمنه لا يتعدى 200 جنيه. والبعض باع خيوله وجماله في الأسواق بعد أن عجز عن إطعامها.
ويبدو أن جمعيات الرفق بالحيوان في مصر تنبهت إلى المأساة التي تعاني منها الحيوانات، وأصبحت تمنح أصحابها معونة أسبوعية حسبما يقول عتريس وتقدم لكل حصان أو جمل سبعة كيلو ذرة إسبوعياً، لكن عتريس يرى أنها غير كافية لأن أستهلاك الحصان أكبر من ذلك بكثير.
كابوس موقعة الجمل
وتسببت موقعة الجمل في معاناة مضاعفة لأهالي نزلة السمان العاملين في هذا المجال، وصارت كابوساً يقلق حياتهم ليلاً ونهاراً، لاسيما أن الخيول والجمال التي اقتحمت ميدان التحرير يومي 2 و3 شباط (فبراير) الماضي، واعتدت على المتظاهرين كانت تنتمي إلى تلك المنطقة، وصاروا يصفون بأنهم "فلول وبلطجية"، لكن عتريس ينفي تلك التهمة عنهم، ويقول: لسنا فلول، ولم نكن ضد الثورة في موقعة الجمل، بل لم نذهب هناك من الأساس، كنا نؤيد مبارك، ولكن من أجل الإستقرار والهدوء، لأن ما عدا ذلك ضد "أكل عيشنا"، السياحة لا تنمو إلا في ظل الإستقرار، ذهبنا إلى ميدان مصطفى محمود مع الآلاف لإعلان تأييدنا لمبارك، ولما علمنا أنه غير أهل للثقة انقلبنا عليه، ولم نعد نثق فيه أو في نظام حكمه. ذهب بعضنا لميدان التحرير للتظاهر ضد زاهي حواس وزير الأثار السابق، لأنه كان يريد قطع عيشنا، فمرة يقول إن تواجدنا في الأهرامات مظهر غير حضاري، كان غضبنا موجه ضده، وليس ضد الثورة في ميدان التحرير.
مكاتب البرديات مغلقة
ويعتمد الملايين من المصريين على السياحة بشكل مباشر، ومنهم فناني البرديات، وفقدوا أعمالهم، ومنهم إبراهيم بغدادي صاحب مكتب برديات، ويقول ل"إيلاف" إنه أغلق مكتبه منذ شهر شباط (فبراير) الماضي، وأصبح يعمل بمفرده وبشكل نادر.
إحدى البرديات المصرية
وأضاف "سوق البرديات يقوم على السياحة بشكل كلي، ويعتمد عليه عشرات الآلاف في دخلهم، بدء من مزارع البرديات بمحافظة الشرقية، ومروراً بالفنانين الذين يتولون الرسم، ومطابع البرديات ومصانع الألوان وإنتهاء بالبازارات التي تعرضها للبيع".
وتابع "العمل توقف تماماً منذ ما يقارب العام، فبعد أن كان متوسط الإنتاج شهرياً نحو عشرة آلاف بردية، صار الإنتاج الآن صفر، والتحصيل صفر أيضاً، حيث كان البيع بالآجل، أي أننا نسلم البرديات لتاجر البازارات، ونحصل منه على دفعة من الأموال، ثم دفعات أخرى بعد البيع، وتوقف كذلك التصدير للخارج، لاسيما أن السيّاح هم من كانوا يتعاقدون على كميات كبيرة من البرديات، وكانت أسعار أوراق البرديات الجاهزة برسومها تتراوح ما بين 1 و10 دولارات"، وأوضح أنه يعمل في مهنة البرديات ما يتراوح بين 50 و250 ألف شخص، وفقدوا أعمالهم حالياً.
معاناة بائع برديات
ورغم أنه لم يتلق تعليماً جيداً، وتخلى عن الدراسة في الصف الخامس الإبتدائي منذ نحو 40عاماً، إلا أن محمد علام يتقن الإنكليزية وبعضاً من الفرنسية، واكتسب تلك الخبرة من تعامله مع السيّاح، حيث يعتمد في "أكل عيشه" على بيع البرديات أمام المتحف المصري، ويقول ل"إيلاف" بحسرة: "عليه العوض ومنه العوض"، وأضاف: "السياحة انضربت، منذ الثورة، ولم أبع إلا خمس برديات خلال العام الماضي، لأن المتحف دائماً مغلق، والسياح لا يحضرون إلى مصر بسبب عدم الإستقرار، وبعد أن كان عددنا نحو 15 نبيع البرديات أمام المتحف، لم يعد أي منا يعمل في هذا المجال، البعض يعمل حالياً في مقهى والبعض يعمل في مطاعم الكشري، أما أنا فصحتي لا تساعدني على العمل في مهنة أخرى، ولم أجد سوى الافتراش ببضاعة رخيصة مثل منتجات الثورة ومنها: الأعلام. وفي إنتظار الفرج".
خان الخليلي متوقف
وتأثرت محال التحف والتماثيل المقلدة أو ما يطلق عليها البازارات بتدهور أحوال السياحة في مصر، ويعتبر سوق خان الخليلي من أكبر وأهم المناطق التي تشتهر بهذا النوع من التجارة، وبعد أن كان هذا السوق مقصداً للسيّاح الأجانب، صار خالياً من المارة، ولا تكاد تلمح فيه أي سائح إلا نادراً.
ويقول ماجد محمود صاحب بازار بخان الخليلي ل"إيلاف": "الحال نايم منذ حوالي عام، لا بيع ولا شراء"، وأضاف أنه في الأحوال العادية قبل الثورة كانت تلك المنطقة مزدحمة بالسيّاح، مشيراً إلى أن البازارات تعمل في مجال التحف والتماثيل المقلدة والمشغولات النحاسية.
ووصف محمود البازرات بأنها واجهة لعشرات من المهن ومئات الآلاف من الأشخاص الذين يعملون في تلك المهن المرتبطة بها، مثل صناع التماثيل ومصانع الرخام وورش النحاس ومزارع البرديات، وهؤلاء توقفوا جميعاً بسبب توقف السياحة في مصر منذ اندلاع الثورة وحتى الآن.
ويختم محمود بأن الأوضاع لا تبشر بالخير في ظل إطلاق السلفيين العشرات من الفتاوى التي تحرم السياحة، ولاسيما زيارة المناطق الآثرية وتعبرها نوعاً من عبادة الأصنام.