ودعت البشرية قبل أيام العام 2009 بمشاعر متباينة تباين ظروف البشر، ولدرجة أن هناك من لم تتح له فرصة احتفال ولا حتى الانتباه للمناسبة، كحال الجوعى والأسرى والمشردين والمكلومين بأحبائهم، وبين هؤلاء نسبة كبيرة من العرب في غير بلد عربي في المشرق والمغرب خاصة في المشرق . المؤسي في الأمر أن التشييع الكئيب للعام المنصرم بات يسم بصورة متكررة هذه المناسبة، فلا يأتي المرء بأي جديد في رسمه لمشهد قاتم، بما لا يغري من يستشعر مسؤولية الكلمة الخوض في هذا المعمان الوجداني، والانضمام إلى من لا حصر لأعدادهم ممن يمطرون عاماً مضى بما يسعهم من لاذع اللعنات، ويندفعون لرسم آمال وردية جديدة، وهو ما يتكرر من عامٍ ميلادي إلى عامٍ آخر بصورة دورية، نمطية وروتينية . بقليل من المعاينة يلحظ المرء أن العام الماضي قد شهد مظاهر سلبية عديدة منها تفكك العمل العربي الجماعي واستشراء التغول الصهيوني وانكشاف عجز بنيوي لدى الإدارة الديمقراطية عن اجتراح مقاربات جديدة للصراع والسلم في منطقتنا . وبينما تقدمت تركيا في الاقتراب الموضوعي والفاعل من قضايا “الأمة الإسلامية" والجوار الإقليمي، فإن ما شهدته الدولة الإقليمية النافذة إيران من اضطراب وتشدد داخليين أضعف الآمال في نموذج يحتذى . وعلى الصعيد الداخلي فإن آليات التفكك والتسلط، ما فتئت تلقي بظلالها الثقيلة على عالمنا العربي، تتعرض بلدان إلى مخاطر التفكك مثل السودان واليمن، بينما تبدو الآفاق مسدودة أو مستعصية في دول أخرى، أمام انفراج سياسي داخلي بإرساء دولة الدستور والقانون وتوثيق عرى الوحدة الوطنية ومكافحة الفساد والفقر والبطالة . في واقع الأمر أن هذه الإخفاقات المتراكمة والمتراكبة، أسهمت في إشاعة حال من القنوط لدى النخب التي لم تعد تجد ما تفعله غير البحث عن خلاص شخصي وتعظيم الامتيازات الخاصة بأفرادها دون أن تنجو من حال السويداء التي ارتدت على الرأي العام بتراجع الانشغال بالهم العام والجنوح إلى نمط حياة هو مزيج من النزعة الاستهلاكية ومن نمط الحياة المحافظ مع تقطع الوشائج الإنسانية بين شرائح المجتمع وداخل الشريحة الواحدة . بهذا لم يعد الأمر يقتصر على تراجعات هنا وهناك، تدفع كثيرين إلى مقارنة حال الأمة بما كانت عليه قبل نصف قرن وأكثر، ولمصلحة الحقبة الماضية في المقارنة، إذ إننا نشهد تحولات في اضطراب النسيج الاجتماعي وفي تعاظم الوجه السلطوي للدول، مع شيوع حال من السلبية والانكفاء لا ينجو منها إلا من رحم ربك . وفي القناعة أن كبح هذه المنزلقات منوط في المقام الأول بالنخب على مختلف تياراتها الفكرية، والتي تهجس بالحريات العامة والتحرر الوطني والقومي وإعلاء شأن المواطنة . لم تتقاعس نخب كثيرة فحسب عن أداء واجباتها في الجهر بوجوب ترشيد الأداء العام للدول واخذ حقوق ومصالح الأفراد في الاعتبار، كما للحراك الاجتماعي الذي يموج في حالات عديدة تحت ضغط انفلات الغرائز والاحتكام اليها، إذ إن الأمر تعدى ذلك إلى احتواء وشراء الكثيرين من ممثلي هذه النخب، وتحول بعض هؤلاء إلى من سماهم مفكر عربي ب “كلاب حراسة" على ما في هذا النعت من قسوة، لكنها قسوة تظل أقل وطاة من واقع الحال الذي يشي بالانفصام بين هذه النخب وبين ما يئن تحت وطأته جموع الناس . يدرك المرء أن جبالاً من سوء الفهم والتربص المتبادل، تنتصب بين النخب نفسها نتيجة اختلاف منطلقاتها وتباعد رؤاها، وأن “معارك استنزاف" تدور رحاها بين هؤلاء في الخفية والعلن، باحتساب أن كل جماعة هي “الفرقة الناجية"، وأنها أوتيت دون سواها الرشد الفكري والصواب السياسي، وحُسن الإصغاء ل “نبض الشارع" وسلامة الاحتكام إلى ضمير الأمة، غير أن من لا يحسن الاستماع إلى أقرانه ونظرائه في الجامعة والحزب والنقابة والجمعية والصحيفة، لن يكون في وسعه الزعم بالإصغاء إلى جموع قلما يخالطها ويتحسس جوانب معاناتها وأوجه اجتهاداتها . في عقود خلت كانت الدعوات تنطلق للتجسير بين المثقفين والسلطات، وقد تحقق في النتيجة الكثير من هذا التجسير وربما بأكثر مما هو مطلوب، مع الأخذ في الاعتبار أن السلطات لا تقتصر على السلطة السياسية بل تشمل سلطة المال المحلي والأجنبي وسلطة الانتماءات الأولية: العائلية والطائفية وسواها، والآن وبعد الحصاد الذي انتهينا اليه، فإن الحاجة تبرز لتجسير بين النخب نفسها . هنا وهناك . النخب القومية واليسارية والليبرالية والمتدينة، في الحكم وخارج الحكم، فحين تسوء الأحوال ويشح الزاد وتضيق كوى الأمل، فإن اللوم يتجه أول ما يتجه إلى عقلاء القوم الحاضرين الغائبين، لا إلى مدبري الأحوال وحدهم .