"فتّش عن الأسرة" وأنت تقرأ سيرة الطالب النيجيري الذي شرع في تفجير طائرة "الدلتا" قبيل نزولها مطار ديترويت عشية أعياد الميلاد، لكن محاولته باءت بالفشل لسبب خارج عن إرادته، وهو سيطرة المسافرين عليه وشلّ حركته وانتهاء العملية بعدة نتائج أهمها انضمام نيجيريا إلى قائمة الدول المصدرة للإرهاب، وازدياد ظاهرة "الإسلاموفوبيا"، واتجاه المطارات الأوروبية نحو اعتماد فحص أجساد المسافرين عبر ماسحات ضوئية، فلا يبقى بعدها خصوصية ولا معنى للاحتشام . فتّش عن الأسرة لأن الإرهابي هذه المرة لم يأتِ من حي فقير أو من طبقة مسحوقة لا تحلم إلا بقصور اللؤلؤ والمرجان والحور العين، ولم يكن عاطلاً لا أفق أمامه، فهو ابن وزير سابق ومؤسس بنك، وكان طالباً مجتهداً درس في مدارس الصفوة ثم طار إلى لندن لدراسة الهندسة الميكانيكية في جامعة عريقة. وفتّش عن الأسرة لأنه ليس ابن بلد تعرض لغزو أو احتلال وأراد أن تكون عمليته صرخة احتجاج. وهو أيضاً لا ينتمي لمجتمع منغلق متعصّب، فنصف سكان بلاده مسيحيون ووثنيون. بل إن الإسلام النيجيري صوفي التوجّه لدرجة أن مفتي البلاد شيخ طريقة صوفية، وشتّان ما بين دعاة المحبة والتسامح وبين دعاة القتل والتفجير. وفتّش عن الأسرة، فهو لم يصبح إرهابياً بسبب فساد الحكم والمحسوبية والاستبداد وقمع حرية الرأي، فنيجيريا بلد ديمقراطي ذو نظام فيدرالي. ولو كانت بلاده تعاني ما تعاني، فإنه لا يتوقع أن يبالي أبناء الذوات بمثل هذه الأمور، لأن حقوقهم محفوظة، وهم أو أسرهم المستفيدون أصلاً من هذه الأجواء. وفتّش عن الأسرة، فهو لم يكن حانقاً على مجتمعه، فمن بين الأسباب التي تُساق لتبرير التطرف هو حماسة المتطرف للنصوص الدينية التي تتوعد من لا يحكم بما أمر الله، وخيبة الأمل أمام علو صوت العلمنة والتغريب، فالولايات الشمالية ذات الغالبية المسلمة في نيجيريا أعلنت عن تطبيق الشريعة سنة 2000، ورجال الحسبة باتوا يطوفون في شوارعها. بل إن الحماسة الدينية بلغت مداها مع ظهور جماعة "باكو حرام" التي رفعت السلاح في وجه الدولة لحملها على تطبيق النموذج "الطالباني" على كامل البلاد. فإذا انتفت كل تلك الأسباب في حالة عمر فاروق عبدالمطلب، لا يتبقى سوى دور الأسرة. فرغم أنه لم يكن ضحية تفكك أسري ولا سوء معاملة، إلا أنه الابن السادس عشر لوالده من زوجته الثانية اليمنية الأصل. يقول الدكتور عبدالحميد الأنصاري: "هؤلاء المفجرون الانتحاريون هم أبناء أسر حرموا من الحنان والتواصل العاطفي ودفء الأسرة المترابطة، وفي حالة عبدالمطلب: أي أب يستطيع توفير تلك التربية ل16 ولداً، وهو مشغول بتحقيق الثراء والمجد في عالمي السياسة والاقتصاد؟!". ولم تكتفِ أسرته المشغولة بالإنجاب وتكديس الثروات بإلحاقه بمدرسة داخلية تقع في عاصمة توغو المجاورة، بل أرسلته في مرحلة التشكّل إلى لندن حيث تنتشر الأصولية الدينية حتى سميت "لندستان". وهناك بقي الولد في عزلته ووجد الملاذ في الإنترنت، فأخذ يبثّ همومه وما حشي في رأسه من أفكار أصولية، حتى وجد الصدر الرحب في مواقع الإنترنت الجهادية، فصنعت منه أولاً شخصاً غير متكيّف حتى مع أسرته، ثم تطوّرت حالته وأصبح إرهابياً مستعداً لقتل 300 مسافر لا ذنب لهم سوى أنهم على متن طائرة يستقلها ابن لأسرة مهملة. من يقرأ سيرة هذا الشاب يعتقد لوهلة أنه خليجي، فهناك تشابه بين ظروفه وظروف الكثير من شباب الخليج.