المعلمون الأوائل واللاحقون هم صنّاع الحياة، الحياة التي تنساهم واحداً بعد الآخر. لم نعد طيبين، وتنقصنا - كثيراً - فضيلة الاعتراف والامتنان لكل أولئك المعلمين الذين وقفوا – طويلا - إلى جوار السبورة وكنا نجلس على الكراسي. كانوا يقفون في سبيل أن نجلس الآن على كراسي متقدمة في الحياة، ومن لؤمنا أننا كنا نسخر أحياناً من معلم كان يقف وهو يعاني من انزلاق في العمود الفقري، لكنه رغم كل ذلك الألم والتعب كان يمضي الحصص كلها وهو واقف، في يده الطبشور وفي عقله وقلبه حاملاً هموم جيل جالس فوق الكراسي! أشعر بما يشبه صوت الأذان خاشعاً يهتف داخل روحي كلما صادفت في طريقي أحد أساتذتي، وقبل أيام فقط شاهدت أحد الذين درسوني في الثانوية العامة، كان يناديني، ولما انتبهت إليه تغرغر الدمع في عيني ورحت أحضنه.. شممت في قميصه الذي يرتديه رائحة نبي خذلته الأيام وسياسة التعليم التي هتكت مهابة الأستاذ. كان وسيماً وشعره كثيف السواد كما لو أنه زجاجة حبر، غير أني لما التقية الآن تمنيت لو أن عيوني خانتني وأنا أراه لحظة وددت تقبيل رأسه، لقد وجدته متعباً، غيمي الشعر حد البياض.لكنه كان مبتسماً ولم تزل رائحة الطباشير فييديه،ولم يزل جيبه المتواضع، هو ذاك جيبه المتواضع والوقور. طابور من نبوءة الطباشير يحتشد داخل ذهني كلما مررت من أمام سور مدرسة كنت أحد طلابها «المداليز» أو كلما صادفت مدير مدرسة تهيبته مراراً لدرجة كنت حيال وجوههم الغاضبة من تقصيري أو من مشاغباتي أنسى ملامح وجه أبي وأتذكرهم خشية من التوبيخ. كان للمعلم مهابة وكان التلميذ يخاف. أحيانا كنت أكاد أطلب العون من العفاريت لتلهمني جواباً يخارجني من عصا الأستاذ إن لم أذاكر الدرس.. وأتمنى لو أنني أستطيع الاستعانة حتى بالجني الأزرق لينقذني من توبيخ مدير المدرسة لأنني نطيت من فوق السور. هذه الأيام، لم يعد الطالب لوحده هو الذي ينط من فوق السور، بل تجد بعض المدرسين أيضاً ينطون من فوق السور هاربين إلى مدارس أخرى تساعدهم على تحسين أوضاعهم، تاركين مهمة التعليم الحكومي لرواتب بالية ولصراعات حزبية قضت على طاقات الناس وقدراتهم . ليتنا نمتلك جرأة فضيلة التقدير على أصولها، ونقبّل رأس كل مدّرس ومدّرسة كانوا يوماً ما ذخيرتنا الآن. وسنكون تافهين جداً، وبلا مروءة، ولا نستحق الاحترام إن لم نتذكر - وبامتنان - فضل أولئك المعلمين الذين كبرنا بفضلهم وعلى حسابهم، ثم لم نعد نعطي أحدهم بالاً الآن، أو نقيم لعبورهم المتعب في الشارع حساباً !؟