المعلمون الأوائل واللاحقون هم صنّاع الحياة، الحياة التي تنساهم واحداً بعد الآخر. وإننا - بصدق - لم نعد طيبين وتنقصنا كثيراً فضيلة الإعتراف والإمتنان لكل اولئك الذين وقفوا إلى جوار السبورة طويلاً، ونسخر أحياناً من بضعة وقفات لمدرس كان يعاني - مثلاً - من انزلاق في العمود الفقري، لكنه رغم كل هذا وقف حاملاً الطباشير وهموم جيل جالساً فوق الكراسي أشعر بمايشبه صوت الأذان خاشعاً يهتف داخل روحي كلما صادفت أحد اساتذتي من الابتدائية إلى الإعدادية والثانوية وإلى الجامعة أيضاً. طابور من نبوءة الطباشير تحتشد داخل ذهني كلما مررت من أمام سور مدرسة كنت أحد طلابها «المداليز» أو كلما صادفت مدير مدرسة تهيبته مراراً لدرجة كنت حيال وجوههم الغاضبة من تقصيري أو مشاغبتي أنسى ملامح وجه أبي. وأكاد أن أطلب العون من العفاريت لتلهمني جواباً يخارجني من عصا المدير.. أقصد مدير المدرسة.. أو توبيخه. ليتنا نمتلك جرأة فضيلة التقدير على أصولها، ونقبّل رأس كل مدّرس ومدّرسة كانوا يوماً ما ذخيرتنا الآن. مرة هرولت أقبل رأس أحد اساتذتي.. كان وسيماً وشعره كمالو أنه زجاجة حبر، تمنيت لو أن عيوني خانتني وأنا أراه الآن - لحظة وددت تقبيل رأسه - متعباً، غيمي الشعر حد البياض. لكنه كان مبتسماً ولم تزل رائحة الطباشير في جيبه. جيبه المتواضع، الوقور، الخال منذ الحصة الأولى إلى الآن. إننا تافهون جداً، وبلا مروءة، ولانستحق الاحترام ان لم نتذكر - وبامتنان - فضل اولئك الذين كبرنا بفضلهم وعلى حسابهم، ثم لم نعد نعطي أحدهم بالاً الآن، أو نقيم لعبورهم المتعب في الشارع حساباً !؟