يطلق الرحالة الأجانب من أنثربولوجيين ومستشرقين وغيرهم ، في كتبهم ، على الإنسان اليمني اسم : « المحاربون المصبوغون بالنيلة » ، فينظر لنا –البعض- ككائنات شبحية ،فأجسادنا العارية النحيلة الضامرة ، المحروقة المصبوغة بالنيلة الزرقاء التي تنداح من الملابس على أجسادنا ، مكونة رائحة كريهة عند الأجانب ، كل تلك الهيئة ولدت عندهم صورة كاريكاتورية - فلكلورية مطبوعة في الذهن ومتوارثة جيلاً عن جيل ؟ . صورة سوداء أخرى نوصف بها ، أننا « مقاتلو الطلح» ، هذه الصورة التي حفرت سحناتنا وطبائعنا الثقافية آتية من طبيعة البيئة المتصحرة التي تنتج اشجار الطلح الشوكية مخلفة عزلة طلحية أقصتنا عن العالم ، بل وخصبت فينا قيماً «طلحية» كالتعصب ضد الأجانب بل وضد أنفسنا ، فنحن لا ننفك نتقاتل على اللاشيء ، فتسفك الدماء على التوافه ، بل والأدهى من ذلك شهوة الانتقام التي لا تخمد، للمزيد من سفك الدم .
وصورة أخرى قاتمة نتصف بها ، وهي ثقافة الغارات القائمة على النهب فهي عقيدة «مقاتلي الطلح» أكانوا في الشمال أم في الجنوب .
لم تأتِ هذه الصورة الجلفة والمشوكة بمكوناتها من: طلح ، ونيلة ، ورصاص ، وصرخة الغارات والثارات ، من فراغ بل رسخها ويقودها امبراطور الطلح الشوكي الكبير «الشيخ» الذي يحوّل المواطنين إلى قطيع من عكفة نهابة ، تعيش في جوع دائم ، وقوتها اليومي ، الانقضاض بالقوة على أي شيء يقابلونه في طريقهم كحق لهم ، أولئك العكفة يظلون يبثون رعب الغارات وداعي الحرب في كل جرف ، ووادٍ ، وجبل ، ومخلاف وحيد وزقاق . صفة أخرى للشيخ وعكفته فهم كائنات تكره المدن ، وبالتالي يكرهون الدولة ويقوضونها ، وإن وجدت فهم البديل للدولة ، بل هم الدولة والقانون . في هذه «الصُرة /الصورة الطلحية » من هو الكائن الطلحي الذي يأتي بعد الشيخ ؟ إنه «الفقيه /القاضي» امبراطور ظلي، لا فقاري ينمو ويتمدد أفقياً يشرعن للقتل ، والجهل ، فهو المؤسسة القانونية والشرعية .. فبمقابل سلة بيض ، وقدح شعير ودجاجتين ، مستعد أن يقلب آيات الله ليجعلها تسوّغ كل مشروع نهب وقتل وزواج صغيرات بالشرع أوخارجه ( هكذا تصور مئات الحزاوي / الحكايات والأمثال الشعبية أفعالهم ) ، ولكي يظل مشروع التوحش قائماً وفتاكاً ، واقتصاداً مربحاً ، فإنهم يستثمرون في الجهل والخرافة كسلعة رائجة في كل زمان ومكان ، في بلد لا شغل لها سوى تسمين الشيخ ، والعكفي ، والجن ، ليصبح المواطن مشروع «طلح » ، للجوع المستدام الذي يعاد تدويره بالمزيد من التوحش الطلحي في الريف والحضر.
والسؤال ، هل تكسرت هذه الصورة ، وهذا الإطار الثابت في ذهنيات الخارج والزائر لنا ؟ هل غادرنا ذلك الزمن يا انجرامس ، وانصرمت معه صور التوحش والفتك ببعضنا البعض ، ومع الزمن غدونا كائنات أنيسة متمدنة مثلنا مثل تلك الأقوام المتوحشة الهمجية التي غادرت الكهف والفريسة لتؤسس دولة ، وقانوناً مدنياً ، وعقداً اجتماعياً ، وو..الخ ؟
ذهب ذلك العصر ولونه الأزرق النيلي ، يا انجرامس ، لكن مازالت الصور “الشبحية” كما تركتها ، قبل قرن تقريباً ، لقد تخفت النيلة في سحنة أخرى ، غادرنا الطلح بطلح أعنف وأشرس ، وأفتك ، ينمو ليتوغل أكثر وأعمق ..انهم «الرجال المصبوغون بالأحمر» نعم ياانجرامس «الأحمر ، والحمرة » هما عنوان اليمن أو ما يسمى « اليمن الأحمر» العربية السعيدة –سابقاً .
تحمرنت النيلة يا انجرامس ، بلون أحمر حانٍ ، قانٍ في دمويته ، لم يعد يكفيهم الطلح وبنادق «الجرمل» والبارود في انقلاباتهم وثوراتهم وفوضاهم الدموية ، وانفلاتهم في المدينة والمدرسة ، وحضانة الأطفال والمسجد ، والرصيف ، بل انفتح الأحمر على كل تقنيات التسلح مخلفة ثقافة الاستذئاب التي لم تبارح الحيد ، والغارات على الجوار للنهب والقتل بفتاوى طلحية ب«قال الله» و«قال الرسول» .. نصدقك القول يا انجرامس : الطلح الأحمر استملك البشر والشجر والحجر وحتى السماء .
نشيج – هم يسمونه نشيداً - لما بين الزرقة التي «تحمرنت » يربض وطن مطعون بخاصره منذ أن غادرته يا انجرامس في بداية القرن العشرين ، انهكته الزرقة سابقاً وتواصل سلالتهم من الأبناء والأحفاد تقتيله بالحمرة المصبوغة بالهلاك ، إنسان مغموس بالخوف والجهل والمرض ، إنسان يتقلب مابين «حمى ضنك وحمى الحصبة »، وكأن اليمن يا انجرامس ، كتب عليها «الحصبة المزمنة » تفتك به من«شق وطرف» تحصدنا ليل نهار .. نيلة القرن المنصرم المزرقة لم تكن فاتكة بالقدر الذي تبدو عليه اليوم .
خدرونا ، يا انجرامس بسم أخضر “القات” فماهو إلا أحمر من نوع آخر ، لعاب يرغي ويلوب في فمنا المشقق بالبارود وبغبار “ شاص “الموت” ليقذف بنا نحو المجهول ، وهم اليوم يتناوبون على الفتك بنا ، فنهرب من أحمر ليترصد خطانا أحمر آخر ، يتلقفنا في الزقاق وشارع بيتنا ، في المستشفى والمدرسة ، ومكان عملنا ، و« ياهارب من الأحمر ، يا ملاقيه » . حتى عمود الكهرباء يا انجرامس ، بين « شرتين» أحمرين ينشطران ليحرقانا ، ليواصلاه في عمود آخر ، ومحطة أخرى ، وبئر نفط ،آخر واسفلت آخر ، ورغيف آخر ، وشربة ماء محاصرة بقناصة الحُمر ، وجمر طرفي الهلاك . فهل وجب علينا كفرض عين ، أن نُعلّم جباهنا بقطران الفجيعة من أن : “ الأحمر قضاء وقدر” ، كما تشيع المنابر وفقهاء الطلح واعلام “الخمير الحمر”-فرع اليمن؟.
الشعب المصبوغ بالحمرة يتآكل ، رقبته مغلولة بلون الفناء .. منذ أن تعنونت اليمن به ومن خلاله يا انجرامس .. حمرة تتضاد مع أي حمرة أخرى ، فما بالك إن دخلها لون آخر !.
ستنقضي 2012 ، ولم نمتلك حتى الساعة أي مضاد حيوي يبعد عنا شبح مجاعة الحُمرة القاتلة .. أتت ثورات ، وانقلابات ، ومؤخراً ثورة شباب الربيع ، اصطادوها ، وفي ليل حاطب وحاصب كفنوها بالأحمر. ستغادرنا 2012، وهاهم الحمر يتراكضون ويتناسلون بتحالفات الأحمر الوهابي ليواصلوا مشروع القتل والتدمير ونشر الخراب في كل مفصل وعبر (20 ) نقطة موت ، يلعبون بها في بحر بترول لا يحده سوى خراب المنازلة والمواقعة ، لمواصلة اغتيال الحلم مليون مرة ، حلم دولة مدنية حديثة ، إنهم يغتالونه بنفس الاسم:«المدنية ، الملقحة ب«تمدين القبيلة » وجامعات لتعليم «الأعراف القبلية » بختم «الهمجية حضارة وبناء».
شباب اليمن : لم يعد مجدياً النضال من «خيمة ثورية»، و«مقيل ثوري» فالمضاد الحيوي من اكتساح «البلدوزر الأحمر - المدني أبو دولة مدنية حديثة » لن يكون إلا عبر الاعتصام بألوان التعدد .. ان نفتح نوافذنا لتدخله أكثر من طيف ، وأكثر من هواء ، وأوسع من حديقة ، شباك البداية يفتح في المدرسة ، ثم المدرسة ، لتعلم «البرعم اللدن» أن اللون الواحد عقم ، جرجوف مهلك ..وأن اليمن لن تكون يمناً إلا بالحديقة . فكيف تشوفوووووووا؟
# انجرامس : سياسي بريطاني عاش في اليمن في بدايات القرن العشرين . النيلة : صبغة زرقاء كانت تصبغ بها ملابس اليمنيين .