يكاد كثير من الصحف المحلية والعالمية يقتات على المصائب، خالد إبراهيم الشرف وعدد لا بأس به من الكتّاب يترقبون ما يمكن أن تسيل من خلاله أقلامهم بالمزيد من العبارات التي هي في ظاهرها محاربة للظلم، وفي باطنها التعصب، والدعوة إليه، ونبذ الآخر على غير صواب، إنها المادة التي ترى فيها بعض الصحف مجالا للعناوين المثيرة والتسويق، ويرى فيها بعض الكتّاب- أصلحهم الله- مجالا للمزيد من القراء، فهل يخدم ذلك المجتمع؟
استوقفني خبر في العدد 787 من صحيفة «أوان» نشر في الصفحة 27، مصدره مكتب الصحيفة في القاهرة، بعنوان «أربعة أقباط يلقون حتفهم بعد إنقاذ مسلم»، وذلك في الأسبوع عينه الذي تسابقت فيه وكالات الأنباء وعناوين الصحف للكتابة حول جريمة إطلاق النار على ستة أقباط وشرطي مسلم في نجع حمادي في محافظة قنا، تبعها ما اعتاده القارئ بشكل متكرر من دعاوى الاضطهاد، فهجوم البعض على مفاهيم الطرف الآخر أياما، وعقد الندوات، والمطالبة بحماية الأقلية، ومظاهرات في العاصمة البريطانية لأقباط المهجر، وفي الشارع توتر للمشاعر وخشية ردود الأفعال. والخلاصة، تكرار استغلال مثل هذه الحوادث في تمزيق المجتمع وإشاعة التعصب، وإقناع الأتباع بضرورة كراهية الطرف الآخر، واستخدام مشاعر الانتماء لغرس التعصب.
يتبع ذلك اجتماع للعقلاء للتأكيد على الوحدة الوطنية وتبريد الأجواء. ولست أعني هنا دينا معينا، ولا بلدا معينا، وإنما الواقع ما حدث في مصر الأسبوع الماضي أنموذج نضرب به المثل.
الخبر الإيجابي الذي لم يره كثيرون لصغر حجمه، هو اختناق عامل مسلم في قرية ميت الفرماوي التابعة لمركز ميت غمر في محافظة الدقهلية. فسقوطه بسبب استنشاق أول أكسيد الكربون، فأسرع شاب قبطي للنزول لإنقاذه فاختنق وسقط، فنزل الثلاثة لإنقاذه والعامل فاختنقوا، وأعمارهم 17و23 و24 و32 عاما. أي أن أربعة من الأقباط امتلأت عقولهم بالمفاهيم الإنسانية، وجاشت عواطفهم بحب الخير، حتى لقوا حتفهم لإنقاذ عامل مسلم حُمل إلى المستشفى حيا، بينما مات من أجله أربعة يختلفون معه في الديانة.
فالتعصب إذن صناعة بشرية، تتغافل المشاعر الإنسانية لمصلحة انتماء محدد، لشحن النفوس بالكراهية والحقد ضد الطرف الآخر، ثم اتخاذ مواقف تهدر الكرامة الإنسانية، وتتطاول على الآخرين.
تعسا للتعصب.. فقد شحن النفوس بالكراهية في لبنان حتى اشتعلت الحرب، فأحرق التطور عقدين من الزمان، وحصد الأرواح الغالية، وهدم المنازل، وأهدر الأموال، ليعود الأمر إلى ما كان عليه قبل الحرب، غير أنه ترك بعده آلاما غائرة، ونفوسا مجروحة، وبلدا متأخرا؛ بينما كان الصوت العاقل لا يُسمع بعدما شُحنت كل نفس ضد المخالف، بينما كان سلوك العقلاء على خلاف ما تبثه قنوات الإعلام، فكم حما مسلم مارونيا من القتل، وكم أمّن ماروني غذاء لمسلم في منطقة محاصرة.
حادثة نجع حمادي -كمثال مضروب على التعصب عامة- أعادت الأمور التي تطفو على السطح عادة بُعيد كل حادثة بين مسلم وقبطي في مصر، من دعاوى الاضطهاد، واتهام دين مقابل دين، حتى أشارت التحقيقات الأولية إلى أن الحادثة التي راح ضحيتها ستة أقباط وشرطي مسلم، كانت على خلفية حادثة الاغتصاب في قرية فرشوط، التي اتُّهم فيها شاب قبطي في الاعتداء الجنسي على طفلة مسلمة وتصويرها بهاتفه، وأن إطلاق النار قام به شباب طائش في صعيد مصر لا يمتّون إلى التديّن بصلة، للثأر لفتاة فرشوط حيث الثأر من العادات؛ وهكذا يتحمل الأبرياء جريرة السفهاء والأشقياء، في أي طرف، ما لم يكن هناك أخذٌ على أيديهم، ومنعهم من الانفلات.
في دول أخرى ربما يكون التعصب باتهام طائفة مقابل طائفة، أو قبيلة مقابل قبيلة، أو جنس دون جنس، بينما لا يعدو الأمر كونه تصرفا جاهلا من شقي، يُحمل على غير محمله.
مواقع الإنترنت أيضا استُغلت من المتعصبين السفهاء من حديثي السن لزرع الكراهية، وبث الحقد على أساس الانتماء، من دون وعي لعواقبها السيئة، فاستُخدمت فيها الاتهامات والسب والقذف بدلا من الحوار الهادف البنّاء، الذي يتعاون فيه الجميع على نقاط الاتفاق، بدلا من جعل الشتم دينا، والسب سبيلا للتعبير. على العقلاء دائما أن يأخذوا على أيدي الصبية، المراهقين في فهمهم للحياة، ولمعنى الانتماء، من أجل حماية المجتمع من تنامي التعصب، فالتعقّل يقهر التعصب، ويحافظ على قوة المجتمع.