مرَّةً أخرى يتحتم علينا أن نقع فريسة لما ندرك سلفاً أنه فخ آخر ناعم اسمه "الحوار الوطني" على غرار عشرات الفخاخ السابقة التي بدا- دائماً- ألَّا حيلة لنا سوى الوقوع فيها، فرحين أو مقسورين... مضاعفاً وعاتياً يعاودني القرف القديم الذي لم يكن قد غادرني، وتزحلقني نشوة أوراق القات في وحل نقاشات العام 2006 العقيمة والمحلقة خارج الغلاف الجوي للواقع.. تلك الحزمة من الهذيانات التي دشَّنها "المشترك" حينها ب "برنامج إصلاح سياسي واقتصادي شامل" نظري وفضفاض، تضاءل ليصبح قصاصة "اتفاق مبادئ" أفضت إلى جولة اقتراع ديكوري، حسمتها تسوية انفرادية برعاية دولية في الظل، لا تشوبها شائبة المصلحة العامة للبلد والناس.. إنهم يدحرجون الآن –مهللِّين- بيض أحلامهم إلى فقَّاسة وهم آخر، لكنني خسرت تماماً سذاجة ذلك المراهق الذي كنته، والذي هلَّل بإتساع شدقيه لحظة الظهور الشعبي الأول لعَلَم الوحدة، طازجاً ومختلجاً على زجاج سيارة عابرة في طريقه إلى المدرسة الثانوية عام 1990م.. خسرت سذاجتي ولم أربح شيئاً ويبدو أنه كان من الحكمة أن أتشبث بها.. هذا بلد تحكمه حتميات الخناق الإقليمي والدولي القابض على قوتنا وثرواتنا وفقرنا ورفاهنا وترابنا ورقابنا كأنه "الرزَّاق ذو القوة المتين"؛ يقلبِّنا بين يدي أطماعه ومحاذيره كيف يشاء وأنَّى يشاء؛ ويسمَّي حكامنا ومعارضينا وأصدقاءنا وأعداءنا ويفصِّل دساتيرنا ويهيكل جيوشنا، ويقول لنا كونوا فنكون، ملكيين وجمهوريين، علمانيين ورجال دين، ليبراليين وإرهابيين، ديمقراطيين ومستبدين.. إن اليد التي تتصدق علينا بالبندقية، هي وحدها من يحدد مسار الرصاصة ووجهة التصويب، وحقول القمح الأمريكية لا تخصب وتنمو إلا بقحط حقولنا ويباسها.. نحن واقعون تحت احتلال مباشر وغير معلن، ولسنا في كل ما نحلم به ونريده إلا صدىً فارغاً لدويِّ صوت المحتل وانعكاساً لما يحلم به ويريده.. إنها حقيقة تبعث على الألم وعلى الأمل لدى آخرين "فالوصاية الدولية المباشرة -برأيهم - تكسر استحواذ القوى التقليدية على الحكم وتفسح المجال لشراكة أوسع، على قاعدة الحوار"، وهي وجهة نظر تبدو منطقية - فقط- في حال القفز على حقيقة أن القوى المستحوذة على الحكم لم تكن لتستحوذ عليه خلال الخمسة عقود الفائتة لولا الرضا الأمريكي الذي أمدها دائماً بأسباب الغلبة والقدرة على إقصاء الآخر المغضوب عليه، باعتبارها أدوات مطواعة في يده وغطاء محلياً يُشرعن حضوره النشاز.. يُدرك المتفائلون بالوصاية الدولية، أن الرضا الأمريكي عن القوى القديمة لم يتغير، لكنهم يعتقدون أنهم – هم أنفسهم- قد تغيَّروا على النحو الذي يرفع غضب أمريكا عنهم ويجلب رضاها؛ وهو اعتقادٌ تدحضه الحميمية التي تكشَّفت عنها علاقةُ "واشنطن" ب "الإخوان المسلمين" في أجلى صورها خلال ما يسمَّى "الربيع العربي"؛ الأمر الذي جعلها تبارك بروزهم إلى واجهة الحكم كقوة ظل احتياطية بديلة ومسيطر عليها، في واقع لم تشهد شوكة توازناته أدنى رجحان لصالح آمال الغالبية المقصاة ولم تتبدَّل شروطه.! لقد سحقت الإدارة الأمريكية في طريقها لمعانقة "الإخوان"؛ عظامَ التجربة الليبرالية العربية الطرية والغضة، غير آسفة ، وتأكد أن "الليبراليين" كانوا -بالنسبة إليها- لا أكثر من أطفال أنابيب تطرِّز بهم حواشي المشهد السياسي العربي الذي تحتلُّ متنَهُ سلالتُها الأصلية وذراريها العريقون الموصولون برحمها متمثلين في "الإخوان".. وقياساً عليه فإن ارتماء أحزاب اليسار الماركسي العربية في أحضان "الاشتراكية الدولية" ابتغاء وجه أمريكا الإمبريالية لا يقرِّبها زلفى ولا يشفع لها وستبقى علاقة هذه الأحزاب بقيادة العالم الرأسمالي رغم النذور والقرابين "علاقة حب من طرف واحد"، وستتلاشى هذه الأحزاب أكثر فأكثر فيما هي تعتقد بأنها تنتقل إلى مواقع متقدمة، ما دامت تجدِّف صوب "وول ستريت" لا صوب "البساتين والسيسبان ومحاوي المنبوذين وضحايا البغاء السياحي وأطفال الشوارع، وسراديب القهر الاجتماعي.." .. ذلك أحد أبرز مؤهلات "أوباما" للفوز بولاية رئاسية ثانية: الإبقاء على دفة حكم الشرق الأوسط في أيدي ممثلي مصالح الاحتكارات الغربية وتلافي وقوعها في أيدي ممثلي مصالح الشعوب.. لكن هل هؤلاء الأخيرون موجودون حقاً؟!.. في حال كانت الإجابة نفياً، فإنه ينبغي اختراعهم حتى لا تختل موازين الكون تحت وطأة الأُحادية المهيمنة والمتألِّهة..! لا يختلف الذهاب إلى مؤتمر الحوار في فبراير المقبل كثيراً عن الذهاب لانتخابات رئاسية بمرشح وحيد في فبراير الفائت ؛ كلاهما يجدد البيعة للقلة التقليدية المسلَّحة بالنفط والتوكيلات، ويبدد طاقة الغالبية العزلاء في التعويل على وهم.. أود أن أصدق بأن "الفيدرالية" كمخرج محتمل من مخرجات الحوار القادم، يمكنها أن تترعرع في مدن ترزح تحت سلطة المليشيات وكتائب الجيش البرَّاني، ولا تقع تحت طائلة لصوصية هذه السلطة! وفي مدينة كتعز على سبيل المثال فإن اليد الطولي تبقى "لآل الأحمر" المستثمرين في سوق الفوضى وزعزعة الاستقرار لتمرير إملاءاتهم على المدينة، في مقابل "شوقي هائل" الذي يحاول الاستثمار في سوق إشاعة الأمن وحفظ السكينة العامة.. لا أستطيع أن أدلكم على وصفة سحرية للخروج من هذا المأزق ؛ لكنني أستطيع تأكيد أن الوعي به وبطبيعته هو مقدمة لا غنى عنها للخلاص منه...وفي أسوأ الأحوال فإنني أفَضِّل أن أقع فريسة واعية لمشكلة مستحكمة على أن أقع فريسة لحلول تستخفُّ بي! ------------------- إلى شوقي هائل في مدينة الضباب يكفي أن غالبية الصامتين والمغلوبين على أمرهم في هذه المدينة التي يأكلها جذام الجهويات والمرتزقة والمنافقين؛تعرف أن حجم تحديات النهوض بالمحافظة أكبر من قدرتك على مواجهتها وحيداً ومُسلَّحاً بحب تعز ومترعاً بالنوايا الطيبة ؛غير أننا كنا وما نزال نراهن كثيراً على قدرتك في أن تُحْدِثَ ثغرةً في جدار الحصار...أن تضع بصمتك ثم تمضي ليحتذي الآخرون بها ويراكموا عليها...عُدْ لتحمي آخر مساحة مُعشبة في المدينة من غول المحاصصة ويباسها..!