إذا كانت قوة مركز الرئيس أو أي مسؤول في الدولة، هي من قوة الدولة، ومن تعزيز هيبتها ومكانتها في المجتمع، فإن مكانة رئيس الجمهورية في أوساط شعبه تأتي من كونه معبرا عن جميع المواطنين، ومن وقوفه على مسافة متساوية من كل القوى السياسية والاجتماعية المختلفة، بما فيها تلك القوى التي تعارضه أو التي لم تنتخبه. ما يحدث في اليمن اليوم هو العكس تماما، حيث تجد رئيس الجمهورية يبدو طرفا في الصراع، بل ومنحازا لأطراف بعينها في الصراع... يحمل ضغائنها وخصوماتها الشخصية والسياسية تجاه بقية فئات وقوى المجتمع الأخرى، دون حاجته وحاجة اليمن الى ذلك، بل هي خصم من هذه الحاجة وإضعاف مباشر لها.
خلال 3 عقود أو يزيد كانت الدولة اليمنية هي الأضعف والأكثر عرضة للخصم من مكانتها وهيبتها أمام مراكز النفوذ القبلي والعسكري التي تغولت على الدولة والمجتمع معا، والتي أدت أو كادت أن تؤدي عشية ثورة فبراير الى انهيار الطرفين معا، وتحديدا حين تحول مركز السلطة الأول إلى طرف صراعي ضدا على بقية أطراف المجتمع المختلفة.
كانت تلك هي سياسة الرئيس السابق علي عبدالله صالح تجاه الدولة، وتجاه بقية فئات وقوى المجتمع المختلف، ويبدو أنها أيضا سياسة من تحالفوا معه طوال العقود التي حكم بها اليمن قبل وبعد الوحدة، ويريدون تكرارها اليوم مع من يعتبرونه حليفهم الجديد، ربما للوصول إلى نفس النتيجة، وهي إشعار الرئيس هادي أن لا أحد معه حليفا سواهم من ناحية، وتكتيل بقية فئات وقوى المجتمع المختلفة ضده من ناحية أخرى، لا بسبب موقف شخصي أو سياسي من الرئيس، بل لكون الرئيس يتبنى كل سياسات الخصوم ضدهم.
أعرف أن الذي شن حرب 1994 على الجنوب، وعلى شركاء الوحدة، لم يكن الرئيس هادي، وإن كان قد شارك فيها بهذه الدرجة أو تلك، فلأنه كان مسؤولا في ما سمي حينها "بالشرعية"، وجزء من قيادة الجيش الذي كان يأتمر بأمر صالح ورموز حكمه المقربين اجتماعيا وسياسيا وأيديولوجيا. وبالمثل لم يكن هادي مسؤولا بصورة مباشرة أو بدوافع شخصية، عن تفجير حروب صعدة ال6، وبالتالي ما كان يجب أن يتحمل الرئيس هادي اليوم الموقف نفسه الذي يتحمله صالح ورموز حكمه المقربون تجاه ضحايا أو أطراف الحروب والصراعات والخصومات السابقة التي خاضوها، سواء في الجنوب أو في صعدة، على الأقل من الناحية الشخصية والنفسية، ولكن هذا هو ما حدث للأسف.
لا أعرف إن كان رئيس الجمهورية قد أجرى اتصالا مباشراً، ولو عبر التلفون، مع الرئيس علي ناصر محمد، أو مع الأستاذ علي سالم البيض، والمهندس حيدر أبو بكر العطاس، أو أي من قيادات الحراك الجنوبي، والمرجح أنه لم يجرِ أي اتصال مباشر حتى الآن مع زعيم جماعة "أنصار الله" السيد عبدالملك الحوثي. غير أن ما أجزم به أكثر كمراقب، هو أن الرئيس هادي يتعامل مع جميع هذه الشخصيات والأطراف كخصوم سياسيين، وربما شخصيين، وليس كأطراف يمنية في عهد جديد يفترض أنه قد تخفف من كل ضغائن العهد السابق تجاه هذه الشخصيات.
ليس هذا وحسب، بل إن أحزاباً وقوى سياسية ومدنية عديدة بعضها يشارك هادي في السلطة الانتقالية، وبعضها تتمنى له وللمرحلة الصعبة أن تمر بسلام، إلا أنه كرئيس لا يزال، وبدون مبرر أو سبب، يعزل نفسه عنها، ويتحاشى الاقتراب منها أو الحوار معها في قضايا هامة وحيوية، هي من صميم اهتماماته ومسؤولياته، وبما يعزز مؤسسة الرئاسة وبقية مؤسسات الدولة والمجتمع، ويخفف عوامل التوتر والصراع، فضلا عن علاقتها المباشرة بقضايا الحوار الوطني والمرحلة الانتقالية عموما.
والحقيقة أنه، وما عدا اللقاءات المحددة التي أجراها مع بعض رموز مشائخ القبائل، وبعض رموز رجال الدين والتيارات السلفية، عشية الحملة العسكرية على "أنصار الشريعة" في أبين، بالإضافة إلى اصطحابه القائد علي محسن في بعض زياراته الإقليمية، وبعض لقاءاته العسكرية هنا وهناك، فإنه لم يلتقِ حتى الآن -رغم مرور قرابة العام من توليه السلطة- بأي من ممثلي الفئات والقوى الاجتماعية والسياسية والمدنية اليمنية، بما فيها الأحزاب والمنظمات المدنية والحقوقيون والأدباء والصحفيون، وغيرهم من القوى الفاعلة والمتطلعة لعهد جديد ودولة مدنية لكل اليمنيين، حتى المؤتمر الشعبي العام الذي يشغل الرئيس فيه منصب الأمين العام، ظهر الرئيس وكأنه يتحاشى الاقتراب منه، فضلا عن الارتكاز على شعبيته سياسيا واجتماعيا، وهو أمر غريب ولا مبرر له أو تفسير سوى أن الرئيس يخشى بعض الأطراف النافذة من حوله، وإمكانية أن تكرر ما سبق أن عملته مع سلفه، أو أنه بالفعل قد حسم أمر التحالف مع هؤلاء بصورة جدية ونهائية، وبما يجعله طرفا في الصراع والخصومات التي يخوضونها من قبل، وحتى هذا يظل تفسيرا غير منطقي لفهم انزواء وانكفاء الرئيس تجاه بقية أطراف المجتمع وقواه السياسية والمدنية الأخرى.
لقد كان على رئيس الجمهورية أن يدرك، ومنذ توليه السلطة، أن من ذكروا آنفا من القوى والشخصيات، وبالذات رموز الحراك في الجنوب، والحركة الحوثية، هم في الأساس مواطنون يمنيون، وهو رئيسهم أيا كانت درجة الخلاف السياسي والفكري معهم، كما أنهم من ناحية أخرى أطراف كبيرة وأساسية في الحوار الوطني الذي يجري التحضير له برعاية وإشراف رئيس الجمهورية نفسه. وبقاء الوضع كما هو عليه من الناحية النفسية أمر غير منطقي بالنسبة لرجل هو المعني الأول والمباشر بإنجاح الحوار ووصوله، وبالتالي وصول اليمن الى بر الأمان، مع ملاحظة أن هذه الشخصيات والقيادات هي الأخرى معنية أيضا بالانفتاح على رئيس الجمهورية، وعلى النخبة السياسية في صنعاء، وتحرير نفسها من الضغائن الشخصية والحواجز النفسية التي تحول دون قدرتها على طرح القضايا بوضوح ومصداقية أكثر بكثير مما هي عليه الآن. يبقى أن نقول مرة أخرى بأن الحواجز النفسية المصطنعة وضرورة كسرها وإشعار كل هذه الأطراف بأن الرئيس لا يحمل حزازات وضغائن شخصية مع قياداتها، وضرورة وقوفه من الجميع موقفا إيجابيا، وعلى مسافة متساوية من الجميع، كرئيس للجميع، أمر في غاية الأهمية في حلحلة عقد الأزمة اليمنية التي يبدو أن بعضها شخصي وليس موضوعياً، أو أنها موضوعية، ولكن مدخل حلها يبدأ بكسر العقد الشخصية لأطرافها. غير انه وحتى إشعار آخر فإن المشكلة هي في انكفاء الرئيس، وفي كثرة توجساته الأمنية والسياسية، وفي طبيعة تحالفاته الضيقة، ولكونه وحتى الآن، وفي كثير من قراراته وتصرفاته، يظهر باعتباره رئيسا لطرف يمني بعينه، وبعض الأحيان لأشخاص بعينهم، كاللواء علي محسن الأحمر، واللواء غالب مطهر القمش، وحلفائهما التقليديين من نظام العهد السابق، وليس رئسا لكل اليمنيين وكل القوى الاجتماعة والسياسية اليمنية، بل ويبدو في كثير من الأحيان خصمها جميعا. دعوني أتجاهل في نهاية الحديث عن دور القوى الإقليمية في بقاء الرئيس الانتقالي مقيدا في علاقته مع معظم فئات شعبه، وفي إصرار بعض تلك الدول على بقاء وتغول بعض رموز النظام السابق، فهذه تظل دولاً مستقلة ولها مصالحها المحترمة، ولا يمكن أن تضحي بها لصالح هذا الشخص أو ذاك إذا لم تكن المشكلة هنا في اليمن، ولدى بعض من يجعلونها غطاء لعجزهم وفشلهم وعزلتهم السياسية والوطنية مع شعبهم.
تغريدة: بالله عليك يا سيادة الرئيس، ما كلفك الله تتحمل كراهية غالبية أبناء الشعب لأكثر رموز النظام السابق فسادا واستبدادا؟ ألا تعرف أن مجرد بقاء غالب مطهر القمش على رأس جهاز الأمن الوطني، يمثل -بغض النظر عن شخصه- استفزازا للآلاف من ضحايا جهازه القمعي منذ الثمانينيات وحتى اليوم، وبالذات أولئك الذين حسبوا على الحزب الاشتراكي والناصري، ولاحقا الحوثي؟