أثناء حضوري مع مجموعة من الكتاب والناشطين الحقوقيين محاكمة الكاتب علي السعيدي بتهمة " الردة عن دين الإسلام " بسبب ما نشره في صفحته على الفيس بوك من أراء وأفكار ناتجة عن أبحاث معمقة ودراسة واسعة صُدمت من مشهد محاكمة الفكر والاعتقاد وتذكرت محاكم التفتيش الكاثوليكية في أوروبا التي نشطت في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين, وصدمت أكثر أن فكر السعيدي لم يُبح دماً أو يحرض على فتنة, فما كتبه السعيدي لم يؤد إلى إراقة قطرة دم واحدة على عكس بعض الفتاوى التي تسببت في مقتل الآلاف وتشريد مئات الآلاف ولم يحاكم أصحابها إلى اليوم, ما كتبه السعيدي استشف منه البعض خروجاً على الإسلام وأنا معهم في ذلك فقد خرج السعيدي بكتاباته عن الإسلام, لكن أي إسلام خرج عنه السعيدي؟ هذا هو السؤال. باعتقادي أن كتابات السعيدي خروج على إسلامهم هم أو على فهمهم للإسلام وليس على الإسلام السماوي, الإسلام السماوي أباح لنا حرية الاعتقاد من الأساس فكيف بالخلاف والاجتهاد داخل الإسلام نفسه.
إن ما يجري في محاكمة السعيدي جدل عقيم فالنيابة تحاول أن تفسر أقواله على أنها ردة, وتفسيراتها تلك مبنية على بعض الآراء الفقهية – وليست بناء على نصوص قانونية واضحة - المختلف عليها أصلاً منذ أكثر من 1400 عام, ولن تتمكن محكمة الصحافة من حلها في قضية السعيدي خصوصاً أن النص القانوني المجرم لحد الردة غير واضح وغير محدد بشكل دقيق, فالمادة - 259- من قانون الجرائم والعقوبات تنص على أنه : كل من ارتد عن دين الإسلام يعاقب بالإعدام بعد الاستتابة ثلاثاً وإمهاله ثلاثين يوماً ويعتبر ردة الجهر بأقوال أو أفعال تتنافى مع قواعد الإسلام وأركانه عن عمد أو إصرار فإذا لم يثبت العمد أو الإصرار وأبدى الجاني التوبة فلا عقاب).
فاذا كان هناك اتفاق حول اركان الإسلام " الشهادتان ، الصلاة ، الزكاة ، الصوم ، الحج " التي هي قواعده أيضاً - ولا أدري لم التكرار في النص؟! - فمن السهولة اتهام من أنكر إحداها أنه مرتد, وقد أعلن السعيدي إيمانه الكامل بها خلال مرافعته, لكن الإشكالية تبرز في أن النص مبهم عندما قال " تتنافى مع اركان الإسلام " فكل له تفسيراته وتأويلاته لما ينافي الأركان وهذا هو محور خلافات 14 قرناً ولو كان النص " من أنكر اركان الإسلام " لكان أوضح وأكثر تحديداً.
ما كتبه السعيدي في إطار الإسلام فلم ينكر ركناً من أركانه ولا آية من قرآنه, ومع ذلك فمن حق أي إنسان أن يعتبر أن قناعاته هي الحقيقة وأن من يخالفها أو ينكرها كافر أو مرتد وسيدخل النار وهذا حق أصيل من حقوق الإنسان لأنه مرتبط بحرية الاعتقاد, فمن اعتقد بكفر غيره أو ارتداده فهو حر في ذلك ولا نستطيع إجباره على تغيير تلك القناعات, فإيماننا بحرية التفكير توجب علينا الِإيمان بحرية التكفير.
تم تشويه كلمة كافر أو مرتد إلى درجة أنها أصبحت ترعب كل من تطلق عليه, مع أن معناها الإنكار أو عدم الإيمان بشيء محدد أو قول شيء أو فعل عمل يعتبره الغير كفراً أو ردةً, ولأن لكل قناعاته التي تختلف عن الآخرين فهو كافر أو مرتد في حدود ما أنكر من معتقداتهم, وبهذا المفهوم للكفر والردة يعتبر كل من على الأرض كافراً, فالمسلمون يعتبرون كل من لم يؤمن بدينهم كافراً والعكس صحيح, وحتى داخل الدين الواحد كل مذهب لديه ما هو معلوم من الدين بالضرورة ومن أنكر هذا المعلوم يعتبر كافراً, ونجد أغلب – إن لم يكن كل - المذاهب في حقيقتها تكفر الكثير من معتقدات وأقوال وأفعال المذاهب الأخرى وإن كان بعضها لا يصرح بذلك علناً خوفاً من الفتن.
المشكلة الحقيقية ليست في الردة بحد ذاتها, بل هي في حدها الذي لا أصل له في الإسلام السماوي, بل وعلى العكس من ذلك فعشرات الآيات القرآنية الواضحة التي لا لبس فيها تبيح حرية العقيدة سواء قبل الإسلام أو بعد الدخول فيه.
الإسلام السماوي قال لنا ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ ) وقال ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) وقال ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) وقال أيضاً ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ) هذه مشيئة الله وهذا دينه السماوي.