كما بدَّد الفيلسوف الألماني "نيتشه" سنوات عمره الأزهى والأثمن في البحث عن الإنسان الكامل والتبشير به، أجدني باللهفة والشغف ذاتهما، أبحث خلافاً له عن المرأة الكاملة لا عن الرجل الكامل.. فَكَمَالُ الرجل برأيي هو بلوغه مطلق الاستبداد والجبروت والعَتَه.. فيما كمال المرأة هو بلوغ المجتمع مطلق الإنسانية والحضارة والثورة في مصافها الأبهى. في تاريخنا المتخم بالذكورة حدَّ التكرُّش، كيمنيين، توجد حقبتان نستطيع أن نباهي بهما شعوب الدنيا.. حقبتان فقط ؛ سَلَكَ خلالهما التاريخ منحنىً مغايراً وسَلَّم زمامه لامرأتين؛ لا ندري على أي نحو وبأية مشيئة ؛ لكن ذلك حدث يقيناً وقشعريرة المهابة تصعق مساماتنا اليوم وتحقنها بجرعة هائلة من الكبرياء والآدمية كلما استحضرنا هاتين الحقبتين المعجونتين بأنفاسٍ أُنثوية باذخة السموّ.. أستطيع أن أصغي لصوت هذا الجرس الأزلي وهو يَطْرُق مقاصير حريم القرن الحادي والعشرين في اليمن، محرِّضاً الضفائر المستكينة الذاوية والمستسلمة لمشيئة فراش ديك العشيرة، على الثورة.. هذا الجرس الأنثوي هو وحي بلقيس وأروى الباحث عن نبيَّات بكواهل صلبة تنهض بشرف الرسالة الحضارية التي لا تصمد كواهل الذكور المثقلة بشحم الفحولة الزائفة، لحملها. لا محطات زاهية في تاريخنا القديم والحديث عدا تلك التي عمَّدَتْها أناملُ الإناث، من بلقيس إلى أروى، إلى رؤوفة حسن التي نَهَشَ صَخَبُ "حراج المحاصصة" رَجْعَ قيثارة ذكرى رحيلها ؛.. فلا صوت يعلو فوق صوت الرجال المشهود لهم بالقدرة الفذة على تأبيد تعاسة البلد وجَرِّه إلى سحيق هاوية الهوان كلما حاول الخروج منها ! كل هراء التربية الوطنية والتاريخ ومذكرات "المناضلين مجازاً"لم تكن قادرة على إقناعي"طفلاً ويافعاً" بأن ثورة قد حدثت في سبتمبر 62م، كما فَعَلَ وجهُ رؤوفة.. وجهها البهي وحجابها المميز وابتسامتها المرهفة الواثقة وطلاقتها وكبرياء نبرتها.. كل هذا الحضور الغامر والكثيف لامرأة اسمها رؤوفة حسن كان هو الثورة بالنسبة لوعيي كطفل.. ولا ثورة خارج ملامح رؤوفة وأمة العليم السوسوة وعنفوان فادية كامل وهي تغني "ثورة اليمن السعيد.. ثورة الشعب المجيد".! هذا الرتل البديع من النوارس الذي بَرعم مَتْنَ حياتنا كيمنيين، لا ينبغي أن يذوي على الهامش.. نحن بحاجة مصيرية لضمان استمراره دافقاً في صُوَرِ نساء أخريات من سلالة بلقيس ورؤوفة.. نساء لا يتحرجن من ملامحهن كما لو كانت خطيئة.. نساء يخلعن خرافة "عجز الضلع الأعوج" ويذهبن إلى أقصى احتمالات الحياة والإبداع.. نساء لا يعشن لِرَتْقِ جوارب الرجال، بل يفكرن جدِّياً في رَتْق "ثقب الأوزون". وحدها المرأة المؤمنة بذاتها والتي تلفظ حليب الوصايا كما تلفظ ثاني أكسيد الكربون، قادرة على أن تُصيب سلطة "البطريركات والتوابيت" في مقتل.. وحدها قادرة على أن تجعل من ضفائرها حبال نجاة لبلد يغرق.. هذه الضفائر التي جعل منها شهريارات السلطة مشانق لها ولبنات جنسها. إن المجتمع الذي لا يستطيع رجاله أن يكونوا فحولاً أتقياء وَرِعِيْن إلاَّ بشطب وجوه نسائه، هو مجتمع بائس ويُوارب قدراً هائلاً من الضآلة، خلف شوارب ضخمة وعنتريات فارغة تتهاوى تحت تَكَّةِ كعب. إن كل القيود والتحصينات والأسوار المضروبة على المرأة تبرهن – عكس الشائع – على كم أن النساء مخيفات وقويات في مقابل هَوَانِ الرجال وهزالهم، وإذنْ فإن تحدي الرقيِّ والنهوض في مجتمع كهذا مرهون بعدد النساء الجريئات اللواتي يحفرن بأظافرهن جدران الزنازين، ويدفعن ضريبة الهواء الطلق باهظةً.. إنهن بذلك لا يحررن أنفسهن فحسب، بل ويحررن الرجال أيضاً – من مخاوف عريقة غادروا الكهف ولم تغادرهم.. ليس صحيحاً أن امرأة منقبة يمكن أن تكون امرأة حرَّة وأن انتقابها لا يحول دون مزاولة حقوقها.. فالنقاب هو بيان الإذعان الذي تتملق من خلاله المرأة مخاوف الرجل وتقول له: "اطمئن لست شيئاً ولن أكون سوى مملوكتك الأزلية الوديعة الموجودة بك ولك، وفي سبيلك أَفْعَلُ كلَّ ما أفعلُه.. فأنا لست سوى أنت وصدى رغباتك". إن عمل المرأة المنقَّبة يشبه عمل سجين محكوم بالأشغال الشاقة، ليس أكثر من عقوبة، مهما حصدت عليه أجراً.. لا أستطيع أن أتصور إنساناً كاملاً بلا رأس، لكنني أستطيع أن أتصوره بلا قدمين أو يدين ولا قيمة لهذه في غياب الرأس. إن النقاب هو عورة المرأة، وأقذع شتيمة للمنطق والفضيلة والأخلاق وللسماء هو القول "إن وجهَهَا عورتُها".. ولا نهوض لبلد يتوكأ على هذا المنطق الأعرج وترضخ له نساؤه باعتباره ديناً.