يصعب عليك أن تكون مدنياً في مجتمع يقدِّس القوة والسلاح، وفي ظلِّ نظام أكثر من رخو، ومجتمع مدني مُنهك، ومنظومة قيم لا تدري كيف يمكنك أن تسميها.. لكنك "هنا والآن".. كنتُ أمام خيارين، إما أن أستعين بالقبيلة، وحينها سأسترد حقي وأنام بهدوءٍ جوار ضحكة راسيل، لكني حينها سأخذل كلَّ الكتب التي قرأتها، وإما أن أراهن على المجتمع المدني وأتحمَّل النتائج.. ليس لضعف القيم المدنية في حد ذاتها، ولكن لضعف المجتمع المدني في بلدي.. وفي السياق الاجتماعي السياسي ذاته. أنتمي- كمعظم اليمنيين الذين ولدوا في القرى بالتحديد- إلى قبيلةٍ ما زالت تفكِّر فيك على أساس أنك واحد من أبنائها، ومن العار- وفقاً لقيمها- أن تتخلى عنك.. وشعرت القبيلة بوجوب أن تحميني وتحل قضيتي، لكني رفضت ذلك بأدب كبيرٍ وراهنت على المجتمع المدني.. لم أدخل حتى إخوتي في القضية، وتلقى أخي الأكبر- وهو رجل أعمال- تهديداتٍ واتصل بي ولم أكن قد أخبرته بما حدث، وتواصلت القبيلة معه ومعي.. وكانوا مستعدين لحمايتي ولاسترداد حقي من الجامعة بقوة السلاح.. وبالفعل عرضوا عليَّ ذلك، قال أحدهم أنت ضعيف إن لم ندخل لرئيس الجامعة إلى مكتبه بالسلاح ونسترد حقك.. ونقول لقبائل رداع أن لدينا أسلحة وقدرة على القتل أيضاً. كنت أعرف أنني سأُدخل القبيلة في صدام مع قبائل رداع على الأقل، والتقيت بأخي الأكبر وتوصلت معه إلى حلٍّ بسيط ومقنع قلت له (قبيلتي المجتمع المدني والأكاديميين والصحافة)، أعطاني قيمة التذاكر وحجزت لي صديقتي بالهاتف.. والتقيت بابن عمي لقضاء مشاويري الأخيرة في صنعاء بسيارته ثم توجهت إلى منزل صديقي المجاور لمطار صنعاء وانتظرت الرحلة. المكان الآمن هو أن تعود إلى القرية، وسيارة مسلحة مجهزة الآن في منزل الشيخ ستأتي لنقلك إلى القرية، وأجرى الشيخ اتصالاته بقادة المناطق العسكرية في ذمارورداع بخصوص القاعدة، هكذا قال ابن "الشيخ بازل عرام" في الهاتف وهو يحدثني وقلت له: فليكن، الصباح سأخبركم أين أنا لأنتقل إلى القرية، وبعد أن انتهت المكالمة غادرت منزل صديقي إلى مطار صنعاء.. لست نادماً على ذلك، لكني أضعكم في الصورة، لقد راهنتُ على المجتمع المدني وما زلتُ أراهن عليه، ولم ولن يكون لي خيار آخر، ذلك أنها فضيحة كبيرة أن تشتغل في مشروعك الكتابي ورؤيتك ضد نسق القبيلة ثم تلجأ إليها.. كنت سأشعر حينها بالعار، وأنا لا أحتمل ذلك.. المسألة ليست أقل من تكريس قيم أنت تؤمن بها وعليك أن لا تقوم بما يناقضها وأن تجسدها في ممارستك وإلا فلست سوى زيف كبير. لكن المجتمع المدني قد يتركك وحيداً، لستُ أكثر من عبدالإله حيدر وغيره من المخذولين، غير أني طليقٌ في الخارج، ويمكنني أن أقاتل وحيداً وسأنتصر، وعلى المجتمع المدني فقط أن يشعر بالعار.