انتهى الحوار الوطني دون أن تضع الحرب أوزارها في أي مكان باليمن بل تكاثرت المواجهات المسلحة وتعددت منذ بدء الحوار حتى آلان، بما يعني إن الحوار لم يقلل من مشاكل اليمن ولا انتهائه قد يحلها. هنا لن أحمل الحوار اكثر مما يحتمل، كما فعل عندما اخذ على عاتقه مهام كتابة الدستور وصياغة أسس جديدة للدولة وحل القضية الجنوبية وحروب صعده، هذا كله في اجواء تهيئة ضعيفة ومحبطة وربما سلبية وإطار تنظيمي يعاني من اختلالات عديدة وكذلك انقطاع كلي عن المجتمع، بسبب ضعف اداء منظمات المجتمع المدني ومراكز استطلاع رأي التي ينبغي لها القيام بهذا الدور، بل وتعرض مؤتمر الحوار لنقد كيدي واضح منذ أول يوم سعى لتقويض ثقة الناس فيه وكانت مجريات المؤتمر مساهم لنجاح هذه النقد الكيدي وازدهاره، وهو ما ألقى بظلاله السلبية على المتحاورين ومنع الكثيرين منهم من سماع النقد الموجه لهم، ولم يساعد الناس على استيضاح الأمر بل زاد إلتباسهم بين موجة دعاية تضليلية للحوار الذي سيحل المشاكل أو النقد الذي يحمل الحوار كل المشاكل.
فالحوار في نهاية الأمر هو عبارة عن محاولة لإنجاز إطار نظري توافقي في حالة نجاحه، وهذه خطوة صغيره غير ذات قيمة لو لم يبنى عليها. الحوار الوطني لم يكن بمقدوره حل كل هذه القضايا دون السقوط بالتفاصيل بشكل تتعثر فيه القضايا الكبرى، وهكذا سقطت القضية الجنوبية وتوقف فريقها وهي القضية الأساسية في الحوار لتصبح مئات المخرجات مجرد مبادئ نظرية في ظل غياب أي تصور واضح للمشكلة التي قد تقوض أسس الدولة اليمنية بتداعياتها.
بالطبع كان هناك بعض المنجزات النظرية الجيدة مثل تلك المتعلقة بقضية صعده والقضايا الحقوقية، لكن هذا لا يقلل من حقيقة إنها مجرد مخرجات نظرية قد تنضم لكثير من الأوراق المنسية في أدراج الدولة العاجزة عن التنفيذ، لهذا سعى البعض لتعليق آمال على وثيقة ضمانات الحوار.
وثيقة ضمانات الحوار ظهرت فيها إختلالات تجعل من هذه الآمال معلقة على هوى في النفس وليس شئ محتمل الحدوث، فالوثيقة مقسمة على مرحلتين لفترة زمنية تصل لعام واحد: المرحلة الأولى هي مرحلة الإستفتاء على الدستور، وهي بدورها تنقسم إلى قسمين قسم حزمة المهام الإجرائية التي تتعلق بالتحضير للإستفتاء و حزمة أخرى للتهيئة الشعبية وتذكر فيها نقطتين عن وقف النزاعات المسلحة، أحدهما تكتفي بكلمة وقف النزاعات المسلحة والأخرى تشير لضمان عدم تكرار العنف، إضافة للمطالبة الأزلية بتنفيذ النقاط العشرين والنقاط الأحد عشر.
المحطة الثانية من رحلة العام حسب الوثيقة هي مرحلة تأسيس الدولة وإجراء الإنتخابات، وفيها اجراءت بخصوص الإنتخابات وتحول الدولة للنظام الفيدرالي وبعض الأمور المتعلقة بالسلطة القضائية والحكم الرشيد وحقوق الإنسان وهيكلة الجيش ومرة أخرى وقف النزاعات المسلحة.
من الناحية النظرية لا غبار على أهمية كل النقاط، أما والورقة تتحدث عن ضمانات مطلوب تنفيذها فهي ورقة منقوصة تفتقد لتوضيح الآليات التنفيذية لتطبيق هذه الضمانات وكذلك جدول زمني مفصل لهذه المهام الجسيمة ودون حتى ذكر لأولويات، مع الوضع بالإعتبار صعوبة ربما استحالة تحقيق جزء ولو بسيط من هذه النقاط بسبب شدة ضعف فاعلية الدولة وإدائها، هكذا المسألة تتحول لبيان سياسي يقع في باب التمني أو رفع العتب وليس ورقة مهام مطلوبة وملحة للتنفيذ.
فعلى سبيل المثال مطلب وقف النزاعات المسلحة يذكر بالمرحلة الأولى ويعاد ذكرها بالمرحلة الثانية رغم إنه من المفترض أن يكون انتهى تنفيذه في المرحلة الأولى، أو إن المرحلتين ستتمان بالتزامن فهذا لا يستدعي أيضاً تكرار هذه النقطة، والتي افترضها ليست بنقطة عادية بل أولوية مطلقة كانت تستدعي وقف الحوار من قبل ولا يمكن الحديث عن تفيذ مخرجات وإجراء انتخابات دون وقف هذه النزاعات المسلحة، فما فائدة الحوار بين اطراف سياسية في دولة تتآكل؟ إذن لا مجال للمتحاورين في ظل مناصبهم الجديدة سواء بمجلس الشورى أو صياغة الدستور أو غيرها بحجة تنفيذ مخرجات الحوار من التملص من إستحقاق وقف النزاعات المسلحة كخطوة أولى للتنفيذ، فهنا لا يمكن الإعتذار والتهرب من هذا الإستحقاق كما حدث طوال عشرة شهور هي مدة الحوار، بإن وقف هذه الحروب يتطلب الوصول لصياغة نظرية يخرج بها المتحاورون حيث يحدث كثيراً أن تتحاور اطراف القتال في وقت تستمر فيه دائرة القتال، لكن ما كان يجري في الحوار الوطني هو نوع من الفصل بين المسارين السياسي والعسكري أي الإستمرار في الحوار كتكتيك سياسي دعائي بينما العمل العسكري هو فرض واقع جديد بغض النظر عن الحوار.
وهذه حالة تختلف عن الحالات الحوارية بين اطراف مقاتلة حيث توجد جدية لدى هذه الإطراف لوقف القتال من خلال الوصول لإتفاق ضمن الحوار وحدث هذا من قبل في مفاوضات البريطانيين مع الجيش الإيرلندي في الحوار الدائر بينهم في وقت لم تتوقف فيه العمليات المسلحة، لكن الحالة اليمنية مختلفة حيث يجري التعامل مع الحوار وكأنه أمر لسقط العتب لا اكثر دون تعويل على نتائجه.
إذن لا مجال لإجراء انتخابات أو بناء دولة كما تدعي الوثيقة دون وقف هذه النزاعات المسلحة، هذا إذا اراد المتحاورون ألأ تتحول مخرجات حوارهم لأحد تمائم السياسية اليمنية وأدبياتها مثل وثيقة العهد والإتفاق والنقاط العشرون والنقاط الأحد عشر، أي مجرد توصيات نظرية لا اكثر.
وهذا لا يمكن من خلال النقاط العامة جداً المطروحة بالوثيقة ودون معرفة الأولويات التي تتصدرها وقف القتال في جميع انحاء اليمن.
وقف القتال يتطلب التحرك نحو تحقيق العدالة الإنتقالية ، مما يعطي مؤشرات جدية من الدولة لوقف القتال ويرفع الضيم عن بعض الجماعات المتقاتلة والتي تستمد وجودها من حالة المظلومية، اضافة لتطبيق نقطة هيكلة الجيش التي يفترض إنها تعرضت لمراجعة إثناء الحوار.
كذلك اداء الحكومة الردئ واستمرار الفساد على أشده اضعف ثقة المواطن اليمني بالعملية السياسية برمتها وخلق لديه الشعور بإن التغيير الذي حصل هو للاسوء، وهذا ربما يستدعينا للتوقف أمام نقطة الحكم الرشيد التي بدت شديدة العمومية كغيرها من النقاط، رغم إن البدء بها سيخلق فارق حقيقي في اداء الدولة التي تنسحب بشكل متزايد من الحياة اليومية للناس، مما يضعف من شرعيتها ويفقد هيبتها وتزيد حالة الإستهانة بها في العاصمة ناهيك عن المحافظات الأخرى.
لا يكفي المتحاورون الركون لفكرة إن هذا الممكن والمتاح ليس غيره، فمنطق الممكن والمتاح مفهوم في ابجديات السياسة لكن للتعامل معه من منطلق توسعته والتراكم عليه وليس للركون للكسل الفكري والإمتنان للحركة ضمن حدود ضيفة وكأنها أقصى ما يمكن القيام به، بذا لا يمكن للمرحلة القادمة كما الأولى أن تنجح بسبب وجود بعض الإداءات الفردية الجيدة بينما تستمر المكونات السياسية الكبيرة بذات الرداءة في الإداء، فالأطر النظرية لا تكلف شئ ولا يعجز اليمنيون دوماً عن الإتفاق نظرياً ولنا في وثيقة العهد والإتفاق مثالاً ناصعاً.
لذا ما حققه الحوار الوطني حتى آلان لا يعد إنجاز استثنائي ، والتحدي الحقيقي هو في التطبيق الذي لن ينجح إلا بتطور اداء المتحاورين والقوى السياسية ووجود خريطة زمنية واضحة لهذه المهام. إضافة لمراجعة اداء المتحاوربن والقوى السياسية، فالأمر يتطلب ضغط شعبي ودعم منظمات مجتمع مدني وحضور نقدي قوي ليس هدفه المكايده والمساجلة كما جرت العادة منذ عهد صالح ومعارضته آنذاك احزاب اللقاء المشترك، وهذه المشاركة الشعبية والمدنية لن تتم دون اجراءات عدالة انتقالية وصراعات تتوقف وخطوات أولية في اتجاه الحكم الرشيد، حتى ذلك الحين تظل مخرجات الحوار مجرد توصيات نظرية تنضم لسابقاتها النقاط العشرين والنقاط الأحد عشر وقياساً بهذه النقاط تعد كلفة الحوار الوطني باهظة جداً قباساً بمخرجاته البديهية والنظرية جداً.