على الرغم من الاختلافات البارزة بين ظرفيتي الانتخابات التي جرت مؤخراً في العراق والسودان، فإنهما تتفقان في سمة مشتركة جلية، هي أن الاستحقاقين نظما على خلفية أزمتين سياسيتين داخليتين حادتين، وأنيط بهما إخراج البلدين من وضعية احتقان قائمة . وبخلاف هذه الحالة، تشكل اللحظة الانتخابية في الأنظمة الديمقراطية المستقرة مناسبة لتوطيد الممارسة التعددية وتجديد الطبقة السياسية ومحاسبة الفئة الحاكمة، وليست مرحلة لحسم الصراعات الجوهرية حول شكل الدولة أو كيانها أو طبيعة نظامها السياسي (باعتبارها ثوابت محسومة سلفاً دستورياً وقانونياً). يمكن القول إذن إن حركية الانتخابات التي تسارعت وتيرتها في الساحة العربية خلال الأعوام الأخيرة تتخذ أشكالاً ثلاثة رئيسية: - شكل التسوية السياسية لصراع داخلي محتدم، كما هو شأن الانتخابات التي نظمت مؤخراً في العراق والسودان. - صيغة تجديد الثقة في النظام السياسي القائم من خلال استحقاق تتويجي يُراد له التأقلم مع الضوابط الدولية في الاقتراع وإدارة المنافسة التعددية (كما هو شأن عموم الأنظمة الرئاسية العربية). - نمط توسيع المشاركة المتاحة للنخب الاجتماعية والتجارية والزعامات القبلية والأهلية في دوائر التشاور والقرار، كما هو الشأن في الملكيات الوراثية العربية، التي شهدت ديناميكية انفتاح في السنوات الأخيرة. وليس من همنا الوقوف عند نواقص وثغرات التجربة الديمقراطية العربية التي كتب حولها الكثير، ونُظر إليها دوماً كحالة استثنائية عصية في حقبة التوسع الديمقراطي العالمي، الذي طال حتى البلدان الأفريقية والأميركية اللاتينية، التي مرت بأوضاع سياسية مماثلة للأوضاع العربية قبل أن تقوم فيها تجارب ديمقراطية واعدة. في هذا السياق، نرفض بشدة المقاربة الثقافوية culturalist، التي تفسر الحالة السياسية العربية بأسباب ذات صلة بالتركيبة الثقافية (الدينية القيمية) أو الاجتماعية (شكل البنية العصبية أو الأبوية) المتمنعة على التحديث وفكر الاختلاف والتعددية. لقد بين الفيلسوف والاقتصادي الهندي المعروف "أمارتيا سن" في كتابه "ديمقراطية الآخرين "زيف الأطروحة العنصرية التي تربط الديمقراطية بنسق حضاري بعينه، مبرزاً أن الثقافة الإسلامية – كغيرها من المنظومات الثقافية الكبرى – تحتوي قيم التعددية والتسامح التي هي الأرضية النظرية والمعيارية للديمقراطية التعددية. كما أنه من الخلف إرجاع أزمة الديمقراطية في العالم العربي إلى عامل التآمر الأجنبي والتدخل الخارجي أو "الجينة الاستبدادية" في الضابط العربي- الانقلابي. إن الخلل في المقاربات السائدة حول أزمة التحول السياسي في الساحة العربية يتمثل في اختزال النظام الديمقراطي في المقياس الانتخابي، الذي لا شك أنه معيار إجرائي حاسم في قياس الحالة الديمقراطية، إلا أنه عنصر جزئي في نسق مؤسسي كامل لا يمكن انتزاعه منه. فماذا لو كان المأزق السياسي العربي ناتجا قبل كل شيء عن خلل في الأدوات والنظم المؤسسية وليس في مدى وطبيعة تطبيق إجراءات وآليات المنافسة التعددية المعتمدة دستورياً وقانونياً؟ فأغلب البلدان العربية استنسخت تقريباً أحدث الدساتير الأوروبية وأكثرها ليبرالية، كما أنها تعرف تعددية حزبية حقيقية، وتنظم فيها استحقاقات انتخابية دورية ليس من الصحيح أنها دوماً مزورة ومزيفة. ففي ظل الموازين الموضوعية القائمة، لا تحتاج الأحزاب الحاكمة إلى تزوير الانتخابات، بالنظر إلى هشاشة وضعف التشكيلات المعارضة التي لا تستند في الغالب إلى أرضية اجتماعية أو طبقية صلبة. فاللحظة الانتخابية إذن لا تؤدي أي دور إيجابي صحي في المسار السياسي، بل عادة ما تكون مناسبة لتأجيج الصراع وزيادة الاحتقان، (خصوصاً في البلدان التي تشهد صراعاً حول الهوية أو فتنة أهلية أو عرقية). فهل يقتضي الحال إذن تعليق التجارب الديمقراطية المحتشمة والبدائية القائمة عربياً اتقاء للفتنة وانتظارا لقيام شروط موضوعية للتعددية السلمية؟ لا نجد مسوغاً لهذا الرأي، ما دامت الحالة الأحادية الاستثنائية تضعف الرباط الاجتماعي الكلي وتقوض بنيان الدولة ذاته. بل المطلوب هو العمل على بلورة النظم المؤسسية الكفيلة بضمان الأهداف الثلاثة المطلوبة في أي حكم ديمقراطي وهي: حرية الرأي والتعبير غير المقيدة والتناوب السلمي على السلطة وسيادة القانون كإطار لتنظيم الحقل العمومي. فهذه الغايات الثلاث ليست مربوطة سلفاً بأي نظام مؤسسي بعينه، ولا بد من إبداع الآليات الدستورية والإجرائية الكفيلة ببلوغها بحسب الخصوصيات العربية، بدل استنساخ نظم جاهزة سرعان ما تتحول بسهولة إلى أدوات تحكم وهيمنة في صراع سياسي عاجز عن احتواء معضلة الشرعية السياسية. فالنموذج الانتخابي يتكامل مع نموذجين آخرين يتداخلان معه هما النموذج التشاركي الذي يتعلق بدمج الهويات الخصوصية ضمن النسق التعددي بدل إقصائها بمنطق الأغلبية، والنموذج التداولي الذي يرسم الإطار الحواري والنقاشي المستمر حول الخيارات المجتمعية الكبرى بدل توهم حسمها في نصوص دستورية وقانونية مستمدة ميكانيكياً من مرجعيات خارجية. من هذا المنظور لا بد من مراجعة زمنية الاستحقاق الانتخابي، لكي يلائم طبيعة الزمن السياسي العربي المتسارع المختلف عن السياق الأوروبي، كما لا بد من تنويع وتوسيع أطره الإدماجية لكبح الاتجاه إلى توظيفه الاقصائي، الذي من شأنه تأجيج الأزمات الداخلية بدل حسمها. كما يتعين بلورة التصورات النظرية والإجرائية لتأمين مشاركة الهويات الجماعية (الطوائف، القوميات، العشائر...) في مجتمعات تختلف عن السياقات الغربية التي ظهر فيها معيار الإرادة الفردية الحرة كضابط وحيد للمشاركة السياسية. كما يتعين البقاء على حالة الحوار المفتوح حول المقومات الجوهرية للنظام السياسي والاجتماعي، التي هي مادة الحوار العمومي في بلدان لا تزال تبحث عن هويتها، وتتلمس سبل ترتيب العلاقة بتراثها وحاضرها. فالبنية الدستورية المغلقة لا تلائم مثل هذه المجتمعات المتوترة. ينتج عن هذا الرأي إخراج الجدل حول النموذج الديمقراطي العربي من السجل القانوني الشكلي، لإبرازه في أبعاده النظرية والفكرية المتشعبة والإشكالية، التي هي أبعاد تأسيسية بنيوية عميقة، وليست مسألة خيارات دستورية جاهزة. يأتي دور العقل القانوني لاحقاً، بصياغة الأدوات الإجرائية الملائمة للمثال التصوري المنشود.