شاب يمني يساعد على دعم عملية السلام في السودان    تدشيين بازار تسويقي لمنتجات معيلات الأسر ضمن برنامج "استلحاق تعليم الفتاة"0    الليغا ... برشلونة يقترب من حسم الوصافة    أعظم صيغ الصلاة على النبي يوم الجمعة وليلتها.. كررها 500 مرة تكن من السعداء    "عبدالملك الحوثي هبة آلهية لليمن"..."الحوثيون يثيرون غضب الطلاب في جامعة إب"    شاهد.. أول ظهور للفنان الكويتي عبد الله الرويشد في ألمانيا بعد تماثله للشفاء    علي ناصر محمد يفجر مفاجأة مدوية: الحوثيون وافقوا على تسليم السلاح وقطع علاقتهم بإيران وحماية حدود السعودية! (فيديو)    الخليج يُقارع الاتحاد ويخطف نقطة ثمينة في الدوري السعودي!    خلية حوثية إرهابية في قفص الاتهام في عدن.    "هل تصبح مصر وجهة صعبة المنال لليمنيين؟ ارتفاع أسعار موافقات الدخول"    مبابي عرض تمثاله الشمعي في باريس    شاهد الصور الأولية من الانفجارات التي هزت مارب.. هجوم بصواريخ باليستية وطيران مسير    اختتام التدريب المشترك على مستوى المحافظة لأعضاء اللجان المجتمعية بالعاصمة عدن    مأرب تحدد مهلة 72 ساعة لإغلاق محطات الغاز غير القانونية    عودة الثنائي الذهبي: كانتي ومبابي يقودان فرنسا لحصد لقب يورو 2024    لحج.. محكمة الحوطة الابتدائية تبدأ جلسات محاكمة المتهمين بقتل الشيخ محسن الرشيدي ورفاقه    قيادي حوثي يسطو على منزل مواطن في محافظة إب    اللجنة العليا للاختبارات بوزارة التربية تناقش إجراءات الاعداد والتهيئة لاختبارات شهادة الثانوية العامة    لا صافرة بعد الأذان: أوامر ملكية سعودية تُنظم مباريات كرة القدم وفقاً لأوقات الصلاة    العليمي يؤكد موقف اليمن بشأن القضية الفلسطينية ويحذر من الخطر الإيراني على المنطقة مميز    انكماش اقتصاد اليابان في الربع الأول من العام الجاري 2024    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا لكرة القدم للمرة ال15 في تاريخه    النقد الدولي: الذكاء الاصطناعي يضرب سوق العمل وسيؤثر على 60 % من الوظائف    تحذيرات أُممية من مخاطر الأعاصير في خليج عدن والبحر العربي خلال الأيام القادمة مميز    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    رئيس مجلس القيادة يدعو القادة العرب الى التصدي لمشروع استهداف الدولة الوطنية    وعود الهلآّس بن مبارك ستلحق بصيف بن دغر البارد إن لم يقرنها بالعمل الجاد    600 ألف دولار تسرق يوميا من وقود كهرباء عدن تساوي = 220 مليون سنويا(وثائق)    انطلاق أسبوع النزال لبطولة "أبوظبي إكستريم" (ADXC 4) في باريس    تغاريد حرة.. عن الانتظار الذي يستنزف الروح    قيادي حوثي يسطو على منزل مواطن في محافظة إب    المملكة المتحدة تعلن عن تعزيز تمويل المساعدات الغذائية لليمن    ترحيل أكثر من 16 ألف مغترب يمني من السعودية    وفاة طفل غرقا في إب بعد يومين من وفاة أربع فتيات بحادثة مماثلة    انهيار جنوني .. لريال اليمني يصل إلى أدنى مستوى منذ سنوات وقفزة خيالية للدولار والريال السعودي    سرّ السعادة الأبدية: مفتاح الجنة بانتظارك في 30 ثانية فقط!    نهاية مأساوية لطبيبة سعودية بعد مناوبة في عملها لمدة 24 ساعة (الاسم والصور)    600 ألف فلسطيني نزحوا من رفح منذ تكثيف الهجوم الإسرائيلي    شاهد: مفاجأة من العصر الذهبي! رئيس يمني سابق كان ممثلا في المسرح وبدور إمراة    ظلام دامس يلف عدن: مشروع الكهرباء التجارية يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت وطأة الأزمة!    البريمييرليغ: اليونايتد يتفوق على نيوكاسل    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    استقرار اسعار الذهب مع ترقب بيانات التضخم الأميركية    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 35 ألفا و233 منذ 7 أكتوبر    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    هل الشاعرُ شاعرٌ دائما؟ وهل غيرُ الشاعرِ شاعر أحيانا؟    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    قطع الطريق المؤدي إلى ''يافع''.. ومناشدات بتدخل عاجل    قصص مدهشة وخواطر عجيبة تسر الخاطر وتسعد الناظر    وداعاً للمعاصي! خطوات سهلة وبسيطة تُقربك من الله.    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    دموع "صنعاء القديمة"    اشتراكي المضاربة يعقد اجتماعه الدوري    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الليبرالية …. لميلتون فريدمان

مع صعود نجم الولايات المتحدة الأمريكية بسقوط الإتحاد السوفييتي وتفككه، أصبحت الليبرالية ذات شعبية طاغية في مختلف دول العالم. ويعتبر ميلتون فريدمان أحد أهم منظري الليبرالية الخالصة إن لم يكن أهمهم على الإطلاق وهي الليبرالية التي ترفض اي تدخل واسع للدولة في الاقتصاد، وتركز على الفرد تضعه في المقام الاعلى؛ وهي من الناحية الاقتصادية اساس التاتشرية في بريطانيا والريجانية في الولايات المتحدة وكلاهما كانت لهما نجاحاتهم اخفاقاتهما، قد اعقبتهما اتجاهات سمت نفسها الطريق الثالث في بريطانيا على يد توني بلير وان ظل شعار العالم الثالث فارغا من المحتى ومجرد رجعة الى الكينزية التي تقول بالتدخل الواسع للدلة في الاقتصاد عبر الانفاق على المشرعات العامة التقديمات الاجتماعية (دولة الرفاه). ومقالة فريدمان هذه، التي ترجمتها لكم عن الانجليزية ، تعد من كلاسيكيات الفكر الليبرالي، وهي بمنطقها الواضح وحججها البسيطة الآسرة تقدم أفضل صورة عن الفكر الليبرالي. (المترجم)..
النص:
إن الليبرالية كما تطورت في القرنين السابع والثامن عشر وكما ازدهرت في القرن التاسع عشر تركز على حرية الأفراد في السيطرة على مصائرهم. والفردية في جوهرها معادية للشمولية والطغيان.
وقد وجدت الدولة لحماية الأفراد من استبداد الأفراد أو المجموعات الأخرى ولتوسيع المجال الذي يتيح للأفراد ممارسة حرياتهم، فالدولة أداتية أو وسيلة وليست لها قيمة لذاتها أو فيها غير ذلك. أما المجتمع فهو مجموعة من الأفراد وليس الكل فيه بأعظم من أجزائه. إن القيم القصوى هي قيم الأفراد الذين يشكلون المجتمع فليست هناك قيم تخص شخصاً متميزاً أو قيم ذات نهايات مغلقة. والأمم قد تكون وحدات إدارية جيدة. ويعتبرمفهوم الوطنية في الأمم مفهوماً دخيلاً وفي السياسة تعبر الليبرالية عن نفسها باعتبارها حركة مضادة للأنظمة المتسلطة. ويفضل الليبراليون الحد من الحقوق الموروثة للحكام وتأسيس برلمانات ديمقراطية وتوسيع حق التصويت وضمان الحقوق المدنية. ويفضل الليبراليون هذين الإجرائين لقيمتهما الذاتية وكوسيلة للتعبير عن الحريات السياسية الأساسية وكوسيلة لتنظيم تطبيق الإجراءات الاقتصادية الليبرالية.
وفي السياسة الاقتصادية تعتبر الليبرالية كردة فعل ضد التدخل الحكومي في الشؤون الاقتصادية ويفضل الليبراليون المنافسة الحرة في الداخل والتجارة الحرة بين الأمم. وهم يعتبرون أن تنظيم النشاط الاقتصادي من خلال المؤسسات الحرة التي تعمل في سوق تنافسية تعبيراً مباشراً عن الحريات الاقتصادية، كما يعتبرون المنافسة الحرة ضرورية للحفاظ على الحريات السياسية.
وقد اعتبر الليبراليون التجارة الحرة بين الأمم وسيلة للقضاء على النزاعات التي لولاها ستؤدي إلى الحرب فكما يقوم الأفراد الذين يحرصون على مصالحهم تحت ضغط المنافسة بحماية مصالح المجموع بصورة غير مباشرة في الداخل، فإن الأمر كذلك بين الأمم حيث تقوم الدول التي تتابع مصالحها الخاصة في سوق حرة بإعلاء شأن وحماية مصالح العالم بأسره. وتقوم التجارة الحرة بنظم العالم كله في نسيج لمجتمع اقتصادي وحيد بإتاحة الوصول الحر إلى السلع والخدمات والمصادر تحت نفس الشروط للكل.
لقد أصبح لليبرالية مفهوم مختلف جداً في القرن العشرين وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية. ويوجد أقل مقدار من الاختلاف في نوعية الأنظمة السياسية المفضلة. فليبرالية القرن التاسع عشر والقرن العشرين تفضلان الأشكال البرلمانية والتصويت الحر لكل الراشدين وحماية الحريات المدنية. ولكن على الرغم من هذا الإتفاق بينهما في السياسة هناك بعض الاختلافات غير المهمة: ففي أي قضية يتم فيها الاختيار بين مركزة ولامركزة المسؤوليات السياسية، كان ليبراليو القرن التاسع عشر سيزيلون كل شك في أهمية تقوية الحكومات المحلية على حساب الحكومة المركزية؛ فبالنسبة لليبراليي القرن التاسع عشر تكمن المسألة الأساسية في تقوية الدفاع ضد التحكم الحكومي الاعتباطي وحماية حريات الأفراد بأكبر قدر ممكن، بينما سيفضل ليبراليو القرن العشرين زيادة سلطات الحكومة المركزية على حساب الحكومات المحلية، ذلك أنهم يرون أن القضية الأساسية تكمن في تقوية قدرة الحكومة على تقديم الخير لجميع الناس.
ويظهر الاختلاف بحدة أكبر في السياسة الاقتصادية حيث تقف الليبرالية اليوم في موقف نقيض لمعناها بالأمس. فليبرالية القرن التاسع عشر كانت تفضل المؤسسات الخاصة وتدخلاً حكومياً أقل. بينما لا تثق ليبرالية القرن العشرين في تعبيرات ومظاهر السوق كلها وتفضل تدخلاً حكومياً أوسع في السيطرة على الشأن الاقتصادي. وليبرالية القرن التاسع عشر كانت تفضل الوسائل الفردية لتشجيع تطوير أهداف أفرادها. في الوقت الذي تفضل فيه ليبرالية القرن العشرين الوسائل الجماعية فيما يتعلق بتطوير الأهداف الفردية. وتبدو أهدافها فردية بشكل مختلف، فقضيتها المركزية هي الرفاه وليست الحرية، فكما قال الاقتصادي النمساوي الأمريكي جوزيف شامتر: "انها نجحت بشكل كبير وإن لم يكن مقصوداً في تعزيز أعداء المؤسسة الحرة وإن تحت لافتات مزورة" وبقية هذه المقالة مكرسة كلياً لليبرالية بمعناها الأصلي، وسيتم استخدام المفردة خلالها بهذا المعنى.
الحرية الليبرالية والاقتصاد الليبرالي مشتقان من فلسفة واحدة. وإن كانا قد اكتسبا حياة خاصة بكل منهما في التطبيق. وهو ما يغري بفحص صلتهما ببعضهما حتى في المجال النظري. فخلال القرن التاسع عشر طبقت كثير من البلدان عناصر كثيرة من الليبرالية الاقتصادية، ومع ذلك ظلت تحتفظ بأشكال سياسية لم تكن ليبرالية كما لم تكن تتجه نحو الليبرالية بأي سرعة أو شكل. فروسيا واليابان هما مثالان بارزان على ذلك. وخلال القرن العشرين كانت الدول التي حققت وحافظت على العناصر الأساسية لبرامج السياسة الليبرالية تبتعد عن الليبرالية نحو سياسات اقتصادية شمولية. فبريطانيا العظمى كانت مثالاً بارزاً على ذلك. وبالتأكيد فإنه في النصف الأول من هذا القرن كان الاتجاه العام للسياسات الاقتصادية البريطانية متجهاً نحو تدخل وسيطرة أكبر للحكومة في الشأن الاقتصادي. وهذا الاتجاه تمت مراجعته في السنوات القليلة الماضية ولكن هذا الفحص والتوقف قد يكون شأناً عابراً وهو ما ستكشف عنه الأيام. وقد أظهرت النرويج والسويد وبعدهما الولايات الأمريكية المتحدة – وإن بعد عقود – نفس التوجه.
وكما سبقت الإشارة إليه، فإن المفكرين والكتاب الليبراليين في القرن التاسع عشر اعتبروا الاصلاحات السياسية وسيلة أساسية لتحقيق الحرية الاقتصادية. فالأشكال السياسية السابقة ركزت السلطات في أيدي مجموعات كانت مصالحها مناقضة لإجراءات الليبرالية الاقتصادية وحرية التجارة. وكما قال الاقتصادي الليبرالي البريطاني جيمس ميل: لو أعطيت كل الناس حق التصويت فلن تكون هناك مصالح خاصة، ذلك أنه وببساطة عندما تكون المصلحة العامة مصلحة جميع الأفراد الذين يكونون المجتمع، فإن ذلك بدوره يتعمق أكثر وبفعالية أكبر بواسطة الحرية الاقتصادية ولذلك نتوقع من الديمقراطية أن تخلص نفسها من اليد الميتة للحكومة، وأن تعطي مجالاً أوسع لليد الخفية للمصلحة الخاصة.
وفي القرن العشرين ركزت مجموعة من المفكرين الليبراليين وخاصة الاقتصادي الأمريكي هنري سايمون والنمساوي الأصل لودفيك فونميزس ونظيره فريدريك فونهايت على أن هذه الصلة أيضاً تجري بصورة متعاكسة: ان الليبرالية الاقتصادية وسيلة لتحقيق الحرية السياسية. والليبرالية الاقتصادية وحدها لا تضمن الحرية السياسية وتشهد على ذلك تجربتا روسيا واليابان التي تمت الإشارة إليهما آنفاً. ولكن الليبرالية الاقتصادية هي أيضاً شرط مسبق لا غنى عنه للحرية السياسية. وتاريخياً ليست هناك دول تتمتع بأي قسط من الحرية السياسية دون أن تمارس مقداراً كبيراً من الليبرالية الاقتصادية. وبالاستقراء نجد أن تحقيق الحرية السياسية يتطلب الحماية ضد تركيز السلطة، إنها تتطلب وجود توزيع مستقل للقوة إلى حد كبير، بينما تميل القوة السياسية بطبيعتها إلى التمركز. أما القوة الاقتصادية فإنها يمكن أن تكون غير ممركزة إلى حد كبير إذا تم تنظيمها في نظام سوق غير مشخصن، ولذلك يمكن للقوة الاقتصادية أن تصبح معادلاً مستقلاً للقوة السياسية. أما إذا أصبحت كلتا القوتين السياسية والاقتصادية في نفس الأيدي، فإن حماية الحريات السياسية ستكمن في حسن نية من بأيديهم السلطتان، وهو مناخ ملائم للاستبداد بالنظر إلى التأثير المفسد للقوة وإلى المواهب التي تسعى للبقاء السياسي.
ويمكن لأمثلة قليلة أن توضح العلاقة القوية بين الحرية الاقتصادية والسياسية وإن كانت لا تستطيع بالطبع أن تعرضها. فمن خصائص المجتمعات الحرة سياسياً أن يسمح للمطالبين بإحداث تغييرات راديكالية في بنية المجتمع بالتعبير عن وجهات نظرهم، وأن يسمح لهم بمحاولة التأثير على المواطنين. ويشهد للحرية في الولايات المتحدة الأمريكية أن المجلات والصحف الشيوعية تطبع فيها. ولو افترضنا مجتمعاً ذا نظام اقتصادي شمولي، تسيطر فيه الحكومة على معظم النشاط الاقتصادي، فكيف يمكن لمروجي الدعوات للعودة إلى الرأسمالية أن يؤمنوا الموارد التي يتمكنون بواسطتها من طباعة مجلة يعبرون عن وجهات نظرهم من خلالها؟ هل سيقومون بذلك من خلال تمويل حكومي خاص للمعارضين؟ أو عن طريق جمع مبالغ بسيطة من ملايين الموظفين الحكوميين؟ ولو حصلوا على هذا في شكل تمويل ما الذي يضمن لهم أن تبيع الحكومة لهم الأوراق بنفس الشروط التي تبيعها بها للآخرين؟ أما في مجتمع حر اقتصادياً فإن من الممكن أن يحصل الإنسان على مصادر عامة تمكنه من نشر وجهات نظر معارضة سواءً من خلال رعاية عدد قليل من الأفراد أو عن طريق بيع المجلة أو أية مطبوعة أخرى إلى عدد كبير من الناس. وإذا كانت هناك فرصة معقولة لقيام أناس كثيرين بشراء مجلة تعبر عن وجهات نظر الأقلية بحيث يمكن أن تصبح مربحة، فعندها يمكن حتى لأولئك الذين لا يوافقون أساساً على وجهات النظر تلك أن يقوموا بتمويل مثل تلك المطبوعة سعياً وراء تحقيق منفعة ذاتية. وفي الواقع فإن هناك الآلاف بل الملايين من مراكز القوى المستقلة التي ستقرر إذا ما كانت الفكرة تستحق الترويج لها من قبلهم بدلاً من المجموعة الصغيرة أو الفرد الواحد في البنية السياسية. وفيما يتعلق بالموارد العامة ليست هناك عقبات إضافية. ففي سوق حرة تماماً لا يدري بائعو الصحف إذا ما كانت الصحيفة ذاهبة إلى عمال المياومة أو إلى مؤسسات العلوم الاقتصادية. وربما أمكن للاشخصانية مماثلة أن تقدم ضمانات لحرية التعبير لوجهات النظر المخالفة بصورة التزام مصطنع في مجتمع شمولي. وبالتأكيد فإنه لم يقم أي من أنصار هذه المجتمعات الشمولية باقتراح تدبير كهذا أو التصدي لهذه المشكلة بصورة جادة.
وكمثال آخر هناك حالة أولئك الذين فقدوا وظائفهم في الحكومة الأمريكية أو استقالوا منها في السنين الماضية بسبب اتهامهم بأنهم شيوعيون أو بأنهم كانوا كذلك فعلاً. إن الوظيفة الحكومية في مجتمعنا ليست حقاً من الحقوق الفردية، ومن المناسب أن تكون بعض الوظائف الحكومية على الأقل غير مفتوحة لشيوعيين فعليين أو مفترضين. كما يمكن التفكير بسهولة أن رأياً عاماً قوياً يمكن أن يقود إلى إغلاق الوظائف الحكومية كلها أمام الشيوعيين، ومع ذلك فإن صيانة الحرية السياسية يتطلب بالتأكيد أن يكون الناس أحراراً ليس في الاعتقاد فحسب بل وفي الدفاع عن الشيوعية. وأولئك الذين يكرهون الشيوعية من بيننا إنما يفعلون ذلك جزئياً على الأقل بسبب معرفتهم بأن الشيوعية لن تسمح لنا بحرية التعبير عن وجهات النظر المخالفة، إن دفاعنا ضد الشيوعية إنما يتم عن طريق إقناع المواطنين بشرورها وليس بالضغط على مناصريها. ولكن إذا كانت الحكومة هي رب العمل الوحيد في المجتمع، فإن حرية التعبير عن وجهة النظر المخالفة ستتحول إلى نوع من الخداع. ممارسة هذه الحرية سيكون له ثمن غالٍ جداً وهو الحرمان من وسائل العيش. وبالمقارنة ففي مثل مجتمعنا فإن أولئك الذين تركوا وظائفهم الحكومية لديهم طائفة واسعة كاملة من الفرص البديلة. والطريقة التي يحمي بها السوق الحر تلك الفرص تكشف عن نفسها بوضوح عندما نعتبر أن فرداً ما يعمل في الزراعة وينتج القمح مثلاً فإن أحداً لن يعرف أن ذلك القمح المنتج أنتجه شيوعي أو فاشي أو رجل أبيض أو أسود. وحتى لو أراد أحد ما التأكد من ذلك فإن الأمر سيكون في منتهى الصعوبة. وبهذا الأسلوب تقوم المنافسة في السوق بالفصل بين النشاط الاقتصادي وبين النشاط السياسي والثقافي، وكلما كانت السوق أكثر تنافسية كلما كان ذلك الفصل أكثر دقة. ومن المفارقات أن الأقليات التي استفادت من هذا المجتمع التنافسي قد تمكنت من المساهمة بأعداد كبيرة في المراتب الخاصة بخصومها.
فسر كثير من الكتاب عندما يركزون على أهمية الليبرالية الاقتصادية كشرط أساسي للحرية السياسية الميل في اتجاه الشمولية في العقود الحالية بأنه علامة على شكل من القنانة السياسية، وربما كانوا على حق. ومهما يكن فإن العلاقة التي يشيرون إليها قد أظهرت نفسها حتى الآن بشكل مختلف جداً، وبالذات في أن الميل نحو الشمولية قد أصبح ماثلاً بسبب النزوع إلى التدخل في الحريات السياسية والمدنية. وعندما يكون التعارض واضحاً بجلاء، فإن الطريق تكون قد أفسحت للسياسة الشمولية. وربما كانت التجربة البريطانية أكثر الأمثلة بروزاً على ذلك، في التحديد الإجباري لعدد العمال. فالتفكير الاشتراكي بعد فترة الحرب دعا إلى التعيين الإجباري للعمال بغرض تحقيق الأولويات الوطنية عن طريق إدخال إجراءات قسرية يدعمها القانون. ومع ذلك فإنها لم تستخدم مطلقاً. ذلك أن تلك القوى القسرية في حد ذاتها قد سمح لها بأن تتلاشى دون استخدام؛ لأن شكل السياسة الاقتصادية المزمعة كان سيتغير بشكل كبير بسبب التعيين القسري للعمال، وهو ما يتعارض بصورة واضحة مع تقاليد الحقوق المدنية المتجذرة بعمق.
نعود الآن إلى اختبار أكثر تفصيلاً لمحتوى الليبرالية وبخاصة الليبرالية الاقتصادية والدور الذي تعطيه للدولة. وهذا الفحص بتعامل بادئ ذي بدء مع مبادئ تقول بأن الليبرالية تتيح الحكم على النشاط الاجتماعي. وأي مجموعة من هذه الأحكام التي تقود الليبراليين إلى تفضيلها ستتغير نتيجة للظروف الخاصة بالزمان والمكان؛ وبالنتيجة فإنها اقل أصولية وأكثر تغيراً من المبادىء ذاتها وهناك بعض الامكانية أن يكون لذلك علاقة باحترام المبادىء اكثر من احترام الافتراضات.
إن مبادئ القوانين الاجتماعية لابد أن تكون مؤسسة على كل من القيم القصوى، وعلى الفهم الواضح لطبيعة الانسان والعالم. والليبرالية في هذا الصدد تأخذ في الاعتبار حرية الفرد والعائلة باعتبارها من قيمها القصوى. وهي تنظر إلى الإنسان باعتباره فرداً مسؤولاً متمركزاً حول ذاته، ليس بمعنى أنه أناني لا يفكر إلا في ذاته، ولكن عن طريق الاعتماد على قيمه الفردية بدلاً من قيم جيرانه. وتعتبر الليبرالية أن تحقيق الحرية والمسؤولية الفردية في عالم يحتاج إلى التنسيق بين ملايين البشر في العملية الانتاجية، ويتطلب استفادة قصوى من المعرفة الحديثة والتكنولوجيا، هي أهم القضايا التي تواجهها. ويكمن التحدي في التوفيق بين الحرية الفردية والاعتماد المتبادل المنتشر على نطاق واسع.. الإجابة الليبرالية مشتقة من المبدأ الأولي الذي لم يتم إدراكه إلا قليلاً حتى اليوم، والقائل بأن طرفي أي تبادل اقتصادي يستفيدان من العملية، وأن مكسب الشاري ليس محتماً أن يكون على حساب البائع. فإذا كانت عملية التبادل طوعية ومعلناً عنها، فإن كلا الطرفين يستفيدان. فالمشتري يحصل على شيء يقدره أكثر من تقديره لما يتخلى عنه وكذلك البائع. وبالنتيجة فإن التبادل الطوعي هو طريق لتحقيق التعاون بين الأفراد دون قسر. والاعتماد على التبادل الطوعي، بمعنى آلية السوق الحرة، هو مركز العقيدة الليبرالية.. إن النموذج العملي الذي يحتوي على هذا التصور القائم على صورة مجتمع منظم عن طريق التبادل الطوعي، هو اقتصاد قائم على المؤسسة الخاصة في اقتصاد تبادلي حر. والوحدة الأساسية الأسرة أو المنزل وحدة صغيرة بالأساس عندما يتعلق الأمر بالتقنيات الحديثة للانتاج، ولذلك فإن الوحدات الانتاجية تأخذ شكل مؤسسات تشتري الخدمات المنتجة للعمال وتستخدم رأس المال وهلم جرا.. من البيوت والمؤسسات الأخرى ثم تبيع السلع أو الخدمات التي تنتجها إلى البيوت والمؤسسات الأخرى. ولا يحدث وجود مثل هذه المؤسسات أي تغيير يذكر على الطبيعة الطوعية والفردية الصارمين للتعاون على أن يتوفر شرطان: الأول أن تكون المؤسسات فردية وهذا يعني أن السلطة العليا والمسؤولية العليا هي مسؤولية فرد أو مجموعة من الأفراد، والثاني أن هؤلاء الأفراد أحرارُ في بيع أو الامتناع عن بيع خدماتهم أو شراء أو عدم شراء المنتجات من مؤسسات معينة؛ وهو ما يعني أنهم أحرار في إنشاء مؤسسات جديدة.
والنقطة النهائية تحتاج إلى تركيز أكبر بسبب سوء الفهم المنتشر حولها. فالحرية في المفهوم الليبرالي لحرية المؤسسات، تعني الحرية في تكوين وإنشاء المؤسسات وليس حرية قيام المؤسسات القائمة بفعل ما تريد. وهذه حالة خاصة من تلك الحالات المألوفة التي يتضح فيها أن الحرية المطلقة مستحيلة، ذلك أن الحرية بشكل من الأشكال تحد من حريات الآخرين. ولذلك فإن حرية المؤسسات القائمة في فعل ما تريد بما في ذلك التجمع لمنع تكون مؤسسات منافسة جديدة أو لتثبيت الأسعار واقتسام الفوائد قد يحد من حرية الآخرين في إقامة مؤسسات جديدة أو لتحقيق أفضل صفقة ممكنة. وعندما يظهر تعارض كهذا فإن التقليد الليبرالي يعتبر حرية الدخول في المنافسة حرية أساسية ولذلك فإن التدخل الحكومي لحماية حق المنافسة يكون تدخلاً مبرراً عندما تريد المؤسسات القائمة منع مؤسسات جديدة من التكون ؛ وذلك حتى يمكن خلق الظروف المساعدة على أن يكون بيع منتجات أفضل نوعية حتى بأسعار أقل أمراً ممكناً . والمشكلة العملية الأصعب في هذا المجال هي مشكلة تحدث عنها كثير من الليبراليين بلغات شتى ألا وهي تجمعات العمال أو مشكلة النقابات العمالية.
إن المهام الأساسية للدولة في اقتصاد قائم على التبادل الحر بين المؤسسات، كما يتصورها الليبراليون، هي ضمان تطبيق قوانين اللعبة وذلك عن طريق الإلزام باحترام العقود وضمان تنفيذها، ومنع السخرة والإكراه، وإيجاد إطار مالي مستقر، إضافة إلى ما سبق أن ذكرناه للتو من الحفاظ على حرية الأسواق. وهناك ثلاث حالات أساسية أخرى يمكن تبرير تدخل الدولة فيها وهي:
1 – حالة الاحتكار الطبيعي أو حالات القصور المشابهة في السوق.
2 – وجود تأثير كبير على الجيران.
3 – حماية الأطفال والأشخاص فاقدي الأهلية.
يعتبر التبادل تطوعياً عندما توجد بدائل مساوية، فعندما لا يتمكن الشخص من الاختيار بين الشراء من مؤسسة معينة ومؤسسة أخرى أو أن يعمل مع مؤسسة أو أخرى فإن التبادل لا يكون طوعياً. إن الاحتكار هو غياب البدائل، وهو لذلك يفتقر إلى المنافسة التي تتميز بالتبادل الطوعي. وقد ينشأ الاحتكار بين المؤسسات نتيجة لظروف معينة على الرغم من أن المنافسة ممكنة، وكما سبق وأن أشرنا فإن التقاليد الليبرالية تبرر تدخل الدولة للحفاظ على التنافس في مثل هذه الحالات. ولكن الاحتكار يمكن أن يكون طبيعياً كما في الحالات الكلاسيكية المتمثلة على سبيل المثال في حالة وجود مصدر واحد فقط لماء الشرب، أو وجود منتج لا يمكن إنتاجه بكفاءه إلا إذا تم انتاجه على نطاق واسع يغطي كامل الطلب في السوق المعني. وفي مثل هذه الحالات تكون البدائل كلها سيئة مثل التقنين الحكومي أو ملكية الحكومة أو الاحتكار الخاص. والمشكلة المطروحة تكون في الاختيار بين أقل تلك البدائل سوءاً. وكما هو متوقع فإن الليبراليين ليس لديهم جواب قاطع في مثل هذه الحالات. وقد استنتج هنري سايمون بعد ملاحظة دقيقة لنتائج التقنين الحكومي لما سمي بالاحتكارات الطبيعية في الولايات المتحدة الأمريكية مثل السكك الحديدية: إن ملكية الدولة كانت أقل البدائل شراً عندما لا يمكن تجنب الاحتكار. وقد جادل البعض أنه في عالم ديناميكي لا بأس بالاحتكار الخاص محتجين بحالة تقنين المواصلات في الولايات المتحدة الأمريكية كمثال رئيسي. فقد تم تشكيل لجنة التجارة الداخلية لحماية الجمهور ضد احتكار السكك الحديدية عندما كانت تمثل السكك الحديدية احتكاراً طبيعياً. ولكن التطور الذي حدث في الطرق السريعة وفي النقل الجوي قد حد كثيراً من عنصر الاحتكار الطبيعي في السكك الحديدة، ومع ذلك فإنه بدلاً من إلغاء لجنة التجارة الداخلية فقد تم توسيع نطاق السيطرة الحكومية إلى وسيطي النقل الأخيرين هذين، وتحولت اللجنة إلى وسيلة لمنع منافسة الشاحنات للسكك الحديدية بدلاً من حماية الجمهور من غياب المنافسة. ومن حسن حظ المجتمع الليبرالي أن المجالات التي تكون فيها الاحتكارات الطبيعية مشكلة حقيقية محدودة جداً، الأمر الذي لا يوجب مقداراً كبيراً من التدخل الحكومي في هذا المجال. إن دعوى الاحتكار الطبيعي هي في الغالب ذريعة للتدخل مدفوعة بدوافع أخرى لا علاقة لها بذريعة التدخل الأصلية.
وهناك شكل آخر من التهديد للتبادل الطوعي وينشأ عما يسمى بتأثير الجوار. ويحدث هذا عندما يؤدي تصرف شخص ما إلى خسارة مادية مهمة لأشخاص آخرين إلى درجة يتعذر فيها عليه تعويضهم بأي شكل والمثال البسيط على هذا هو حالة الشخص الذي يقوم بتلويث مجرىً مائي، فهو قد قام في الواقع بإجبار أشخاص آخرين في أسفل المجرى باستبدال ماءً صالح بماء غير صالح، ولعلهم كانوا سيقبلون بذلك لو تلقوا مقابلاً عليه، ولكن لا جدوى من جعل هذا التبادل مجالاً لاتفاق طوعي. مثال آخر ويتعلق في هذه المرة بالتعليم فتعليم الطفل يعتبر مفيداً ليس للطفل ووالديه فحسب، ولكن لأعضاء المجتمع الآخرين أيضاً طالما أن مقداراً معيناً من التعليم شرط أساسي لقيام مجتمع ديمقراطي مستقر. ومع ذلك فلا يمكن تحديد الأشخاص الذين استفادوا من تعليم أي طفل، كما لا يمكن أيضاً تحديد المبلغ الذي يمثل قيمة لتلك الفائدة ولذلك وبالنتيجة: فإنه من أجل تحديد قيمة الخدمة المقدمة فإن هناك مبرراً من وجهة نظر ليبرالية لقيام الدولة بفرض ضرورة تقديم حد أدنى من التعليم لكل الأطفال حتى ولو كان مقدار هذا التعليم أعلى مما أراد الآباء منحه لأطفالهم، ولقيام الحكومة أيضاً بتحمل جزء من تكلفة التعليم من أموال الضرائب المفروضة على أعضاء المجتمع كلهم.
وبالطبع فإن كل تصرفات الأفراد تتضمن قدراً من التكاليف غير المدفوعة والفوائد غير المستحقة التي يستفيد منها طرف ثالث. وتظل القضية دائماً هنا في معرفة إن كان مقدارهما من العظم في أي حالة من الحالات بحيث يمكن تبرير تدخل الحكومة. وستنشغل الدولة أيضاً بالصعوبات التي ستواجهها في تحديد التكاليف والمنافع التي تمنع التبادل الطوعي، كما أن تدخل الدولة ستكون له تكلفته أيضاً بطبيعة الحال. ولذلك فإن الفلسفة الليبرالية لا تقدم رؤية واضحة لما هو مبرر أو لما هو غير مبرر في مثل هذه الحالات، ولكنها تركز على أن اتخاذ القرار في أية حالة محددة من حالات التدخل الحكومي أو تأثير الجوار يجب أن يأخذ بالاعتباردائماً ما إذا كان لتدخل الدولة أي تأثير على حرية الفرد. ويرى الليبراليون في هذا وسيلة لعرقلة أي مشروع للتدخل الحكومي حتى ولو كان لا يمثل عقبة قاتلة للمشروع، الأمر الذي يتطلب إيجاد توازن واضح وموازنة صحيحة بين المكاسب والتكاليف الأخرى قبل اتخاذ قرار بأن التدخل الحكومي في حالة معينة هو تصرف مبرر.
الحالة الثالثة التي يعتبر فيها الليبراليون التدخل الحكومي مبرراً ينشأ عن غموض الغايات القصوى، بدلاً من كونه ناشئاً من صعوبة تحقيق تبادل طوعي كامل الشروط. إن الاعتقاد الراسخ بأن الحرية حق للأشخاص المسؤولين وليس للأطفال أو المجانين لا يمكن اعتباره اعتقاداً مسؤولاً على وجه العموم، فهذه المشكلة أمكن تجنبها بالنسبة للأطفال عن طريق معاملة الأسرة باعتبارها الوحدة الأساسية للمجتمع ومن ثم اعتبار الآباء مسؤولين عن أطفالهم. ولكن هذا الإجراء يعتبر على أي حال مستنداً على السهولة أكثر مما يعتمد على المبادىء والمشكلة التي تواجهنا تكمن في تمييز حد فاصل بين الإجراء المبرر على أساس من الأبوة وبين الإجراء الذي يتعارض مع حرية الأشخاص المسؤولين، وهي مشكلة لا يمكن تقديم حل مرضٍ أو بسيط لها. وهناك أمثلة أخرى قليلة يمكن أن توضح هذه المبادىء المتعلقة بالحكم على بعض جوانب السياسة الاجتماعية. ولنعتبر مثلاً المجموعة الأولى من الاجراءات التي تتعارض مع المبادىء الليبرالية كالتعرفة، والسيطرة المباشرة على الواردات والصادرات، وضوابط التبادل والصرف، وضوابط التسعير. إن أياً من هذه لا يمكن تبريرها بناء على أيٍ من مبررات تدخل الدولة التي سبق أن وضعنا قائمة بها أعلاه. وكل منها يمثل تدخلاً في حرية الأشخاص وحقهم في الدخول في أي عملية تبادل يريدونها من النوع الذي لا يؤثر تأثيراً كبيراً على طرف ثالث، ولذلك فإن التدخل في مثل هذه الحالات يكون مساساً بالحرية الفردية. وهناك حالة متطرفة تعرض هذه الحالة بصورة متميزة وهي ما يسمى بعلاوة السائح والتي تم ادخالها في ضوابط قوانين التبادل في عدد من البلدان، وهي كما قالت عنها مجلة الإيكونومست: "إنها تضع حداً على الفترة الزمنية التي يقرر فيها شخص بريطاني يمارس النشاط الاقتصادي أن يقيم خلالها في الخارج دون طلب إذن من البيروقراطيين" وختاماً فإن كثيراً من هذه الإجراءات تمنع السوق من العمل بكفاءة وعلى سبيل المثال إذا تم تحديد سعر قانوني كحد أعلى ويقع تحت مستوى السعرالذي كان سيصل إليه دون تحديده، فإنه لابد والحال هذه من نشأة وضع من الندرة أو النقص في العرض، وهو ما سيتبع بدون شك كما في حالة البيوت التي يكون إيجارها خاضعا للتقنين. وهناك نماذج أخرى غير السوق الحرة كان عليها أن تعتاد على نظام الحصص لتقنين الكميات المتوفرة، وهكذا يؤدي تدخل حكومي أكبر إلى الحلول محل السوق.
ومثال آخر مختلف يتعلق بالطب: فكما أشرنا سالفاً فإن تأثير الجوار الكبير يبرر برنامجاً للصحة العامة تقوم به الدولة كما في حالة الحفاظ على نقاوة المياه، أو توفير خدمات مجار مناسبة، أوالسيطرة على الأمراض المعدية. وهناك قليل من التبرير أو بالأحرى لا تبرير إطلاقاً لتدخل الدولة في القطاع الصحي الخاص استناداً على المجالات المذكورة، ونعني بالقطاع الطبي الخاص رعاية وعلاج الأفراد. فحسب المبادىء الليبرالية يعتبر هذا القطاع من مهام السوق ويجب أن يظل قائماً وفعالاً وهو قادر على ذلك. أما حجة مؤيدي الرعاية الصحية العامة القائلة بأن هناك قدراً كبيراً من عدم اليقين حول تكلفة العلاج، فإن الليبرالي سيرد عليها بأن السوق قادر تماماً على توفير التأمين الصحي الخاص، فإذا كان الناس لا يريدون دفع قسط التأمين فإن ذلك سيكون اختيارهم الخاص. أما بالنسبة للحجة القائلة بأن الناس لا يحصلون على الكثير من الخدمات الصحية بالشكل الملائم لهم فإن الليبرالي سيجيب على ذلك بأن كل شخص ينبغي أن يحكم على ذلك بنفسه لا على أساس أنه بالضرورة أفضل حكم فيما يتعلق بالمسألة، ولكن لأنه يجب أن يتعلم من أخطائه الخاصة. وطالما أننا نعتقد بأنه يتخذ قرارات خاطئة فلا مانع من أن نخبره عن رأينا وأن نحاول إقناعه ولكن لا مبرر لدينا إطلاقاً لقيامنا باتخاذ القرار نيابة عنه.
والمثال الثالث يتعلق بالاسكان العام. فقد تكون بعض أنماط الإسكان كالأحياء العشوائية مكلفة كثيراً من حيث تكاليف الحفاظ على الأمن وخدمات إطفاء الحرائق بحيث تشكل عبئاً على المجتمع. وتأثير الجوار الحر في هذا والذي يمكن تحديد مصدره يبرر رفع الضرائب على مثل هذه الملكيات العقارية دون غيرها من أجل مقابلة التكاليف الإضافية، ولكنه لا يبرر إطلاقاً تقديم إعانات للسكن. والحجة الأساسية فيما يتعلق بإعانات السكن من المال العام مصدرها القول بأن الناس يحتاجون أو يستحقون سكناً أفضل، وأنه من الملائم استخدام المال العام لتوفير السكن. وسيعترض الليبرالي على ذلك في مستويين. فهب أن بعض الناس ستتم إعانتهم فلماذا لا يتم توفير مبالغ الإعانة لهم حتى تكون لهم قوة شرائية أكبر ثم يتركون أحراراً في إنفاق ما حصلوا عليه؟ لماذا نقول لهم بأننا سنعطيكم هبة إذا قبلتم بأخذها على شكل سكن، أما إذا لم تقبلوا بها فلن نهبكم شيئاً؟ ألا يشكل هذا نوعاً من القصر والحد من الحرية؟ ثانياً سيسأل الليبرالي عن عملية إعادة توزيع الدخل ذاتها التي تمت هنا لتنفيذ برنامج كهذا، وبالطبع فإن أحد منافع تقديم إعانة صريحة ومحددة الإتجاه هو أنه سيؤدي إلى تحديد الفئة من السكان التي يتم تقديم الإعانة إليها. سيرحب الليبراليون بالبرامج الحكومية لمكافحة الفقر ويدعمونها وبالذات فيما يتعلق بالرعاية الأبوية لفاقدي الأهلية. ولكن هناك قدراً من عدم التمييز في عملية تحويل عشوائية للمال العام من خلال الصرف على مشاريع الإسكان الشعبية ذات النطاق الواسع. وسيعتبر الليبرالي هذا بمثابة تعدٍ على المسؤولية الفردية. وسيقول بأن السبيل إلى التقليل من عدم المساواة ليس عن طريق الشعارات المضللة حول المشاركة في الثروة، ولكن عن طريق تحسين طرائق عمل السوق وتقوية المنافسة وتوسيع الفرص للإفراد حتى يتمكنوا من تحقيق أفضل ما يمكن من النتائج اعتماداً على قدراتهم الخاصة.
وهذان المثالان الأخيران يظهران كيف أن الخصائص المركزية للمجتمع الليبرالي هي في الوقت ذاته مصدر كبير للاعتراضات: فالمجتمع الليبرالي يعطي الناس ما يريدونه بدلاً مما تعتقد فئة من المجتمع أن ما تريده هي هو الأفضل للجميع، وبذلك يصعب على الشخص الخيّر والشرير إيجاد فرصة صياغة المجتمع وأفراده في صورتيهما الخاصة. ويكمن في قلب كل حجة مناهضة للسوق انعدام الإيمان بالحرية – بالنسبة للآخرين – على الأقل.. قدم الفيلسوف الإنجليزي آدم سميث خلاصة للمناقشة الآنفة الذكر حول دور الدولة في المجتمع الليبرالي فقال: "إن لكل شخص مطلق الحرية في متابعة شؤونه الخاصة بطريقته الخاصة طالما أنه لا يخالف قوانين العدالة، وله الحق في أن ينخرط بماله وصناعته في منافسة مع أي إنسان آخر أو أي مجموعة أخرى. إن الاستقلالية تنبع بشكل كامل من الواجب، وفي هذا السياق لابد أن يتم التعرض لكثير من الأوهام، إذ أن تحقيق الأداء الأمثل عن طريق الإشراف على الخصوصيات العملية للأفراد وتوجيهها نحو تحقيق أهداف المجتمع هي مهمة تقع خارج نطاق الحكمة والمعرفة البشريتين ولا يمكن تحقيقها أبداً. وطبقاً لنظام الحرية الطبيعية فإن الشخص المستقل لديه ثلاث واجبات أساسية وهي واجبات ذات أهمية عظيمة ولكنها واضحة وقابلة للفهم من قبل الجميع: أول هذه الواجبات هي حماية المجتمع من العنف ومن غزو المجتمعات المجاورة. والثاني هو واجب حماية كل عضو من أعضاء المجتمع إلى أقصى حدٍ ممكن من ظلم وقهر أي عضو آخر في المجتمع، وذلك بتأسيس نظام مضبوط للعدالة. أما الواجب الثالث فهو بناء وإقامة مشروعات وهيئات عامة محددة لا يمكن للأفراد أو المجموعات الصغيرة منهم إقامتها والاهتمام بها ورعاية ديمومتها لأن مردودها لا يوازي مصاريفها، حتى وإن كانت مردوداتها الكلية التي ينالها المجتمع أكبر كثيراً من التكاليف."


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.