منذ انتقاله وسريته إلى المركز الجديد طابت عيشته ، فهو ما ان ينتهي من زامه[1] حتى يتتبع الشرح ورقصات الهبيش[2] وما يكاد يعود إلا مع انتحار الليل وزواله .. يسميه الجنود بو عقلين لأنه ذكي ولماح وصاحب حيل واسعة والبعض يقول بأنه أحيانا يكون صاحب شف وعناد .. يرسل القاضي كتاب بالحضور للمشترحة[3] الملقبة بالشمعة فترفض الحضور وقد ألقت الكتاب في المرة الثانية تحت قدمها وداست عليه .. ينفجر القاضي غضبا ويصرخ بصوت مرتفع أين قائد الحرس ؟ . يحضر بو عقلين بسرعة ويؤدي التحية العسكرية : خير يا سعادة القاضي ، ما الموضوع ؟ القاضي : أريدكم تحضرون المشترحة شمعة حية أو ميتة مزقت كتابي الأخير وداست عليه من تحسب نفسها ؟! … بو عقلين : من اشتكى ضدها ؟القاضي : لقد شنّفت[4] زوجة الرجل وخلت عياله وغنمه وتبعت المشترحة ! بو عقلين : أمرك مطاع يا سعادة القاضي ، وابشر بالخير !! يشتد الأمر عليه ولا يطاوعه قلبه لتنفيذ هذا الأمر الغريب ، فيشاور جنوده في تجاوز هذه المعضلة فيشيرون إليه بضرورة مراجعة القاضي في قراره ، ويرد عليهم بان يتركوا الأمر له فهو سيتصرف . يدخل بو عقلين على القاضي بعد ان يخف غضبه ويجيبه : لو بغيتنا يا قاضي نحشر كل القبائل سنفعل ولكن إذا مسكنا حرمة سيقول الناس : الدولة تفرض قوتها على النساء وعلينا استخدام الحيلة والسياسة ، فبعد أسبوع عندنا عرس في المركز سندعو المشترحة وفرقتها لإحياء العرس وبهذه الطريقة نتجنب المشاكل وكلام الناس !! تنفرج أسارير القاضي قائلا : والله انك بو عقلين بصدق ، وهذه عشرة ربيات لرفد[5] صاحب العرس !! يصطف المشترحين في المداره إلى صفين متقابلين ويبدؤون في التصفيق لبداية الشرح فتحضر الشمعة بكامل زينتها وقد تعمدت بالهرد وكحلت عيونها وبان صفار ساقيها وبروز صدرها وحيويتها واضح للعيان ، فتشتد الصفقات ويتحمس المشترحون ، ويشرع بو عقلين يبحث عن حيلة ليحذرها من مكر القاضي وتجنيبها الحبس ولكنه لا يستطيع لأنه محاط بالناس كما ان القاضي يتابع الشرح من أعلى شرفة القصر الحكومي .. ويردد المغنيان صوت " الدان " فيقفز بو عقلين إلى داخل المداره ويقول : سريت يا ظبي الجبل وما عذرت يومك عاشق وحاب واشتقعت وديان وحسر ما تشتقع وعطيت كلا طلابه وكيف لقد السيل عمّد واردتف باتخوض غزره وجنابه ينتهي الصوت الأول من الشرح ، ويشرع المغنيان في ترديد الصوت الثاني وتدخل الشمعة المدارة وتجيب : بعد الضيق عاده يجي النفس وع يتوطى كل عالي وع يندحق مع الايام الي ما اندحق وباينوخ الهيج[6] ذو اللهى بعد انتهاء الصوت الثاني يصطحب الجنود الشمعة بكامل زينتها للقاضي ، فتمكث قدر ساعة ويفرج عنها ! يشتد الأمر على بو عقلين ويتعجب من تصرف القاضي وسقوطه في فخ الشهوة .. وهو الذي ينظر للقاضي بقدسية وانه لن يتأثر بالمغريات أبدا غير انه ينتظر إلى الصبح فيدخل إلى القاضي مخبرا إياه بأننا أحضرنا المتهمة وأفرجت عنها ؟! يتلعثم القاضي محاولا تصنع الصرامة ويقول : مسكينة .. بريئة .. ظلموها الناس … ما عندها طريق ! يدخل بو عقلين على جنوده متغير الهيئة محمر الوجه ويصيح : يا الربع قاضينا وقع ! يناشده جنوده بالسكوت والابتعاد ويطالبونه باعطاءهم وجهه وعهده بأنه سيبتعد عن المداره ولن يتكلم ، فيوافق مكرها ! في الليل يشتد الشرح ويحمى الصوت وبو عقلين يغالب نفسه في محبسه بمكتبه ويضع عمامته على أذنيه لكي لا يسمع صوت المزمار ؛ ليفي بعهده ، وفجأة يجد نفسه بالمداره وأصحابه ينظرون إليه معاتبين فيشرع يقول : شل الصوت وردد ياحسين النسب شف بالجوف لهيب ونيران والشف[7] لقد تمكّن واكتمل ما يحاسب بالعواذل والأهل والجيران وراء الوعل مفتول العجر والنشب[8] وقع النسر بشباكه والأحضان ورد[9] في عشيه طالب وهو مطلوب ضاع لبه بين الرواعي والنسوان من أفتاك يا الذيب ترعى بالطهب[10] وتساعف[11] الضباء والغزلان [1] وتعني نوبة الحراسة العسكرية وهي مأخوذة من البريطانيين وأظنها كلمة هندية . [2] وهي رقصة يعتقد أنها من الجن تقام في الغالب مع اكتمال القمر وهي عادة الحضارم في عبادتهم لإله القمر وفيها أقوال متعددة ومتناقضة . ينظر " رقصة الهبيش ذلك الحضور من عمق الغموض " للباحث صالح باشنتوف . مخطوط . [3] يسمى من يزاول تلك الرقصة مشترحين ومشترحات وتسمى المرأة التي تزاول تلك الرقصة أيضا " راعية " ينظر المرجع السابق نفسه [4] هي عادة بدوية قديمة وهي ان تترك الزوجة زوجها وترتبط برجل آخر ويدفع الرجل الجديد المهر وتعويض للرجل الأول ، وهي موجودة في أشعار الهبيش بكثرة مثل قول شاعر الهبيش زحفان " لي تحب ما شنت " ، ينظر المرجع نفسه . [5] مساعدة مالية أو معنوية تقدم للعريس من أهل المنطقة وجيرانه وأقاربه . [6] الهيج الجمل في حالة التزاوج والمقصود ان الجمل الهائج أيضا يتم ترويضه وقيادته ، واللهى هي الكيس المنتفخ الذي يخرج من الجمل في حالة الهيجان. [7] الشف العناد والتمسك بالرأي القول . [8] العجر والنشب تطلق على قرني الوعل الكبيرين . [9] رد بمعنى رجع في اللهجة البدوية . [10] صغار الضبي في لغة بعض البدو . [11] تستعمل لفظه السعف في اللهجة البدوية على علاقة الحب بين الرجل والمرأة وان كانت لها استعمالات أخرى تحدد من خلال السياق .