يمثل الاستبداد السياسي العدو الأول للثقافة والأدب، وتتجلى حقيقة المقولة في الأدب الصيني على وجه الدقة، ذلك أن الأدب الصيني بعراقته ظل فترة طويلة أدباً مغموراً لا يدري عنه أحد، وعاش في عزلة كبيرة إلى أن كسر حاجز عزلته منذ الفترة القريبة، ونال عدد من أدبائه الجوائز الأدبية ومنها جائزة نوبل التي نالها الروائي الأديب الصيني ( جاوشين جيان ) في العام 2000م عن روايته ( جبل الروح )، حينها اهتم الأوربيون والغربيون عموماً بهذا الأدب وأولوه عناية كبيرة، في سعيهم الدؤوب لاستكشاف ثقافات الشعوب الأخرى والإفادة منها ومعرفة طريقة تفكيرها، بينما ظللنا نحن العرب نتفرج ونقف من بعيد على استحياء مترقبين ما ستسفر عنه هذه الاكتشافات الأدبية . رواية " بلزاك والخيّاطة الصينية الصغيرة " من الروايات الصينية التي صدرت في العام 2000م و قد حازت اهتماماً كبيراً في أوروبا وبالأخص في فرنسا على وجه التحديد، حيث أخذها القارئ الفرنسي متلهفاً رغم أن الرواية تُعدّ الأولى لمؤلفها الصيني ( دي سيجي ) حسب قول المترجم، وقد نقل الأستاذ محمد أحمد عثمان هذه الرواية إلى العربية وترجمها بأسلوب جميل وأخاذ، وراجعها جساس أنعم، وأصدرتها دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع وتجري أحداثها في أحد الأرياف النائية في إقليم ( سيشوان ) وهو إقليم بعيد جداً عن العاصمة بكين وفيها يُرسل السارد مع صديقه ( لو ) من أجل إعادة التأهيل وهي الدعوة التي أُطلقت في الصين الحمراء في العام 1968م من قبل الزعيم والقائد الأعلى للثورة ( ماو تسي تونج ) وتستهدف ( الشبيبة المثقفة ) أي الطلاب الذين أنهوا الدراسة الثانوية، حيث يتم إرسالهم وعددهم بالملايين إلى الريف لكي يُعاد تأهيلهم تحت إشراف الفلاحين الفقراء . خضع الشابان لأعمال شاقة ومضنية للغاية وذاقا أصناف التعب جراء عملهما وقاما بالعديد من المغامرات الخطيرة، ليس أهمهما علاقتهما بالخياطة الصغيرة، واقتحامهما لقراءة مؤلفات ( بلزاك ) التي تعتبر من المحرمات في ذلك الوقت من قبل السلطة السياسية الحاكمة . يحاول السارد وصديقه مقاومة الواقع الذي تسيطر عليه شعارات الجماعة المتسلطة لكن ينتهي بهما المطاف للانكسار، يقول المترجم في خاتم مقدمته عن الرواية ( تستدعي الرواية موضوعات عالجها الأدب الغربي من قبيل ( المعركة الفردية ضد العالم أجمع )، ولأن هذه المعركة تجري هنا في سياق اجتماعي تاريخي مغاير حيث لم تعد الجماعة التي يواجهها الفرد مجرد جماعات تتجاذبها أهواء ومصالح متباينة، وإنما مجتمع يخضع أفراده لهيمنة سياسية وأيديولوجية منظمة تجعل من شعار مصلحة الجماعة مبررها لإخضاع الفرد ونفي فرديته، مستثمرة في ذلك تاريخاً طويلاً من غياب تقاليد الحرية الفردية، فإنه يستحيل على الفرد المنطوي في إطار هكذا مجتمع الحفاظ على استقلاليته، ويكون مصير الفرد المقاوم اليأس والانكسار كما حدث للسارد وصديقه ( لو )، أو الهروب كما حدث للخياطة الصغيرة ) .