ليس ثمة من ينكر أن المجتمع الحضرمي يتمتع بعمق حضاري تاريخي ينعكس في سلوكه وموسيقاه وعمرانه وأزيائه وفلكلوره وحنكته الاقتصادية.. إلخ غير أن العمق التاريخي لحضرموت الذي لا ينازع فيه أحد شيء، والتحولات السياسية التي تمر بها لأسباب معروفة شيء آخر، فهنالك وعي اللحظة (الوعي المرحلي) وهناك الوعي التاريخي الثابت أو المتأصل وجوديا في الإنسان والأرض اللذين لا يمكن الخلط بينهما، وعليه لا تعني علاقة حضرموت بالجنوب انتهاء حضرموت أو ابتلاعها من قبل الجنوب كما يحلو للبعض أن يردد، ولكن الإشكالية تكمن إما في نظر بعض الحضارمة العاطفي إلى التاريخ، أي النظر من زاوية محددة وإهمال معطيات اللحظة الراهنة بكل تحدياتها وما قد تخبئه من مفاجآت، وإما النظر إلى الآمور السياسية نفسيا بصورة متضخمة إلى حد ما نظرا لما عانوه وعانته معهم أسرهم وحقوقهم، وهو أمر وارد. ولكن المهم الآن-في ما يبدو لي- الاستبصار في فهم حركة التاريخ وحركة الواقع بوعي جدلي كبير أو النظر إلى حركة التاريخ ومسار الأحداث المعاصرة في وقت واحد معا. وعليه فإن الحركة السياسية الراهنة للمطالبة باستعادة دولة الجنوب من قبل كثير من الحضارم هي في اتصال تلقائي مع العمق التاريخي لحضرموت بكل أبعاده حتى لئن لم تبد هذه المسألة واضحة لدى الكثير، فاللحظة الواقعية لا تلغي التاريخ، ولا تستطيع، وكثيرا ما مر تاريخ حضرموت بعدد من التحولات الظرفية المرحلية من غير أن تفقد حضرموت وجودها. لعل إشكالية حضرموت السابقة مع الجنوب تمثلت في تبعية كثير من المسؤولين الحضارم في ذلك الوقت لمسؤولي الجنوب، لأسباب منها أن عدن كانت مرتكزا للاستعمار البريطاني، ومن ثم رمزا للتحرر منه امتد أثره إلى تحرير كل الجنوب بما في ذلك حضرموت في إطار الاندفاع نحو المشروع القومي الكبير حينئذ، فنشأ عن تلك التبعية وما ترتب عليها من سلبيات موقف مضاد لدى بعض الحضارم تمثل في رد خطر الجنوب عن حضرموت الذي لم يكن بارزا قبل عام 1997م وإنما برز في ثنايا رفض كثير منهم لمشروع الوحدة في إطار الجمهورية اليمنية ورفع شعار الاحتلال اليمني جماهيريا بصورة متصاعدة لاسيما منذ عام 2007م لينشأ بعد ذلك عند بعض النخب ما يسمى بالاحتلال الجنوبي، بينما تستطيع حضرموت مستقبلا بكل عمقها الجغرافي والبشري والثقافي والاقتصادي أن تكون فاعلة وبقوة في الجنوب لو وعى قادتها ذلك من أول الخطوات، ومن غير أن تخسر الجنوب كعمق استراتيجي، ومن غير أن تضعه في خط أعدائها، بغض النظر عما ساد من تصرفات سابقة وحماقات هيأ لها الظرف التاريخي الذي سار على تلك الشاكلة من الأفعال الثورية غير المبررة. إن الدافع الرئيس وراء نفور الحضارم -وهم مجتمع مدني مسالم- من السلطات الجنوبية والشمالية على حد سواء هو القمع والتسلط العنيف، غير أن العنف يمكن أن يأتي لهم حتى من أبنائهم لو استقلت حضرموت بمفردها، فالمسألة مسألة وعي ومسك بزمام الأمور بعناية ودراية منذ البداية قبل أن تنفلت، مما لم يكن الحضارم يهتمون به كثيرا في ما مضى انشغالا بمصالحهم التجارية الخاصة وسعيا وراء سعادتهم المدنية المسالمة، فضلا عن الهجرات التي ضخت بكثير من طاقاتهم البشرية نحو الخارج، فهل أمر إثبات الحضارم أنفسهم في إطار الجنوب مستصعب عليهم في ظل انكشاف كثير من الأمور بصورة واضحة ومن جراء التجارب السابقة؟ لا أظن، لاسيما أنهم يتمتعون بسمعة حسنة وحنكة وحسن إدارة للأمور وقانونية عالية تجعلهم محط تقدير كبير من الجميع.