خلال الأسبوعين الماضيين جرى تحكيم بعض النصوص الأدبية في كليات جامعة حضرموت، والإعلان عن نتيجتها، ومنها كلية الآداب، وكلية الهندسة، والحقيقة أنني وزملائي في كل مرة نمارس فيها عملية التحكيم تغمرنا سعادة غامرة، فلعل طاقة أدبية خلاقة (شعرية أو سردية) تتشكل لهذا البلد مستقبلا وتضيف إليه، فضلا عن أن التحكيم يتيح لنا معرفة كيف يتعامل الطلاب مع كتابة النص بوصفه يكشف عن ثقافة الطالب، وطبيعة تفكيره، وموهبته، ومزاياه الخاصة في التعامل مع اللغة الأدبية، وجوانب أخرى من مستوى استيعابه، نحن بحاجة إلى معرفتها لا يبوح بها الطالب في أثناء قاعة الدرس لالتزامه بمعطيات المحاضرة الأكاديمية وعدم خروجه عن مضمونها، ولحالة من الخجل والتردد تسيطر على طلابنا لا تسمح بانفتاح الخط كاملا بينهم وبين مدرسيهم رغم تشجيعهم لهم على السؤال والمناقشة خارج قاعة الدرس وداخلها (ولا أدري إن كان ثمة استثناءات لا أعرفها تحول بينهم وبين ذلك). غير أن ما يتكشف لنا بمرارة هو أن مفردات النظرية النقدية وإجراءاتها التطبيقية وعلوم اللغة والنحو التي يتلقاها الطلاب في دراستهم على مدى أربع سنوات تخصصية في أقسام اللغات بكلية الآداب لا تنعكس بصورة واضحة على نصوصهم إلا قليلا منها، الأمر الذي يضعنا أمام حالة من الإشكال والذهول، ما السبب في ذلك؟ هل إنهم لا يستطيعون عكس المعطيات النقدية وإجراءاتها العملية في نصوصهم رغم استيعابهم لها كما تدل دفاتر إجاباتهم؟ هل قراءاتهم في الجوانب الإبداعية محدودة؟ هل للطلاب وجهات نظر مسبقة جاؤوا يحملونها نحو الأدب حين دخلوا إلى الجامعة ومن ثم لا يرغبون في تمثله والتفاعل معه؟ وعليه نقف بين لحظتين: لحظة الفرح بما كتبوا، ولحظة الصدمة بما كتبوا، وهي لحظة حرجة، ولكن ليس أمامنا في الأخير إلا تحكيم ما قدموا من نصوص، فعملية الرفض والإقصاء لنصوصهم مستبعدة تماما، لعل الأيام تنضجهم وتأخذ التوجيهات مداها مستقبلا، مع مراعاة أننا لا نقبل ما كان ضعيفا ومخلا بالشروط الأدبية. ويبقى اللافت في كتاباتهم إجادتهم للشعر العامي، هذا شيء رائع!! لكن الشعر العامي جانب واحد من جوانب العملية الإبداعية، وفي أثنائه ثمة شعر عامي نبطي يجيد طلابنا كتابته بمهارة ربما فاقت مهارتهم في قول الشعر العامي الحضرمي رغم أنهم لم يغادروا حضرموت! ولا يمكننا أن نصادر على أحد في ما يختار لنفسه لاسيما أن المؤثرات متنوعة وتأتي بوسائط متعددة، وعليه نتساءل: أي تجربة أدبية تتشكل؟ وكيف يمكن قراءة كنهها في المستقبل؟ (ربما كانت إجابة هذا السؤالين مشروع قراءة واسعة يسهم فيها كثير من المختصين والمهتمين) مع الإشارة إلى أن بعض من تخرجوا في الجامعة يواصلون خطوهم الأدبي باقتدار كالشاعر أبي بكر محمود باجابر والقاصين أحمد جعفر الحبشي، ووجدان الشاذلي باراس، وثمة مواهب أخرى تتشكل بمهارة لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة في كل كليات جامعة حضرموت. وهنا أوجه عددا من الملاحظات للطلاب الذين يمارسون الكتابة الأدبية ويسهمون في المسابقات: أولا: أهمية الفصل بين الوعي الايديولوجي والوعي الفني، ذلك لأن الرغبة في تسييد الايديولوجيا أيا كانت تعرقل النص الشعري، فالمهم أن تعرف كمبدع كيف تجيد الصناعة الأدبية بحيث لا تزيد الفكرة على الفن في القصيدة. ثانيا: إن لم تكن تشعر برغبة جامحة في أن تقرأ كثيرا من الكتابات القديمة والحديثة مما يتعلق بالفن الإبداعي الذي تمارسه فضلا عن قراءات أخرى متنوعة، فإنك لن تتطور، حتى لو كتبت يوميا عشرة نصوص، لأنك واقف في مكانك لا تتزحزح، ومقياس موهبتك ليس أن تكتب، بل أن تشعر برغبة جادة في القراءة لتطوير ما تكتب. ثالثا: أهمية التفاعل بين مجموعة المبدعين في ما يكتبون، داخل الجامعة وخارجها، لأن التفاعل يثاقف الوعي، وليست التجربة الإبداعية إلا حالا من الحركة والتواصل إرسالا واستقبالا.