"الأدب الإلكتروني" مصطلح بدأ الترويج له في الفترة الأخيرة، خاصة بعد ظهور عدد من المدونات الأدبية، المطبوعة في شكل كتب تزاوج بين أشكال إبداعية مختلفة، وقد لاقت هذه "المدونات" رواجاً بين جمهور المتلقين . فهل يمكن اعتبار هذا الشكل من الكتابة إبداعاً جديداً؟ وما هي الحدود والمعايير التي من الممكن أن يُقيّم من خلالها؟ وهل يستطيع هذا الشكل في ظل اللحظة الراهنة أن يشكل حالة خاصة؟ وما مدى قابلية النقد له وتعامله معه؟ هنا مواجهة بين ناقدين من جيلين مختلفين هما الدكتور الطاهر أحمد مكي والدكتورة منى طلبة . د . الطاهر أحمد مكي: لا ترقى إلى مستوى الفن الجيد يرى د . الطاهر أحمد مكي، أستاذ الأدب الإسباني في جامعة القاهرة وشيخ النقاد والمترجمين المصريين، أن الفضاء الإلكتروني لم ينتج حتى الآن أدباً حقيقياً يمكن أن يعول عليه، حتى يمكن للناقد الجاد أن يتابعه، فما عرف ب "أدب المدونات" لا يرقى من وجهة نظره إلى معايير الجودة التي يتطلبها العمل الفني . ما رأيك في الأدب الإلكتروني؟ كل كلام أو كتابة تتحقق فيهما شروط العمل الجيد يعدان أدباً سواء نشر أو لم ينشر، فأنت لو كتبت مذكرة أو قصيدة أو قصة ولم تتهيأ لك وسائل النشر وتوافرت فيها التقنيات الفنية الخاصة بالأدب التي تم التعارف عليها عبر قرون طويلة فهي أدب، فالحكم على الأدب لا يتوقف على الطريقة التي ينشر بها، وإنما على العناصر الجمالية للعمل من حيث اللغة وحرفية التعبير والتزام قواعد الفن . هل ترى أن كثيراً مما ينشر يحمل معايير الجودة اللازمة للأدب؟ دعني أقل بصراحة إن سهولة النشر الآن جعلت الكثير من الكتاب يستسهلون الأمر، فالكتب نشرها الآن أصبح سهلاً وميسوراً عن السابق، والسوق يمتلئ بالمطبوعات، لكنها مطبوعات لا تحمل من شروط الجودة إلا القليل، فعلى كثرة ما يزدحم به السوق من منتجات إبداعية وما تمتلئ به المطابع فلا توجد تجارب فارقة، فمعظم ما ينشر كلام لا معنى له ولا ضابط، وهذا ينسحب كذلك على ما ينشر على "الإنترنت" تحت مسمى "أدب"، فالعبرة ليست بالمكان الذي يوجد فيه النص الأدبي، ولا بالطريقة التي ينشر بها، وإنما العبرة كما أسلفنا باحتوائه على عناصر الجودة المقررة نقدياً ومنهجياً، وأنا هنا أؤكد أن الكثرة لا تدل على جودة العمل الفني والأدبي، وإنما تدل فقط على سير النثر وسهولته، في ما ينشر تحت اسم "مدونات أدبية" معظمه لا يرقى إلى مستوى الفن الجيد، لأن أصحابها غير متمرسين إبداعياً، وينقصهم الكثير، فمعظم هذه التجارب مازال في البدايات، يمكن أن نطلق عليها "خواطر" لم تكتمل ملامحها بعد، ينتهي تأثيرها بنشرها على الموقع، لكنها لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تحفر مجرى إبداعياً خاصاً بها، فكثير منها تعليق على الأحداث، أو تأخذ منحى التأثر السريع بالأحداث . أما الإبداع الحقيقي فيحتاج حالة من الاختمار والاختزان، حتى يخرج في صورة راقية منمقة، فالانفعال السريع لا يصنع أدباً إنما يصنع شعارات، ولذلك يمكن اعتبار ما يكتب على "الإنترنت" بمتنفس وقتي، أما الكتابة الإبداعية فتدوم لأجيال، تصلح للقراءة الآن، كما تصلح للقراءة مستقبلاً . وكيف ترى دور الجامعة "وأقسام النقد" المتخصصة بها في تقييم هذه التجارب؟ الجامعات المصرية الآن في حالة تدهور عام، فالمسائل قديماً كانت قائمة على المعرفة والتذوق، أما الآن فقد انتفى هذان الشرطان، وعلينا أن نعلم أن الحضارة إذا تدهورت فإن كل شيء يأخذ طريقه إلى القاع، فكثير من الرسائل الجامعية الخاصة بنقد الأدب الآن لا تستحق الورق الذي تنشر عليه . الجامعة الآن ليست بمنجاة عما يحدث في الحياة السياسية والاجتماعية، فهي تعاني، فهناك تراجع في المناهج النقدية والأدبية والفكرية، المسألة قائمة على الحفظ والتلقين، ولجان الترقيات أصابها العبث، وهذا بالتالي أصاب العملية النقدية في مقتل، فقديما كانت الجامعة تكون الناقد والقارئ وتمد المجتمع بالثقافة . وهذا ما عشناه نحن، حيث تتلمذنا على يد أساتذة عظام أمثال د . طه حسين ود . سهير القلماوي ومحمد مندور، أما الآن فالجامعة لم يعد فيها مثل تلك الرموز الأدبية والنقدية، والتي كانت تساعد في عملية الحراك الثقافي والاجتماعي بل والسياسي أيضاً . وقديماً كان الطالب يقبل على ما يجيد، وما يحسن، فمثلاً في كلية دار العلوم كان يلتحق بها من عنده موهبة في الشعر والقصة، أما الآن فكثير من الطلاب لم يتعودوا على قراءة الشعر، و"من جهل شيئاً عاداه"، كما تقول الكلمة المأثورة . ومع ذلك هناك قلة قليلة، نلمحهم ونرى فيهم أملاً، لذا نحاول أن نرعاهم وننمي موهبتهم، ونأمل أن يكون منهم الشاعر والناقد . إن ما جر الجامعة إلى هذه الحالة من التدهور هو الفساد الذي استشرى في كل مكان، والفساد كما نعرف يحطم أي كفاءة وأي عبقرية . ولكن البعض يؤكد أن النقاد لعبوا دوراً سلبياً في عدم مواكبتهم للتجارب الجديدة التي من الممكن أن تضيف للحياة الثقافية؟ لماذا دائماً نتصور أن الناقد عليه أن يقرأ العمل الإبداعي ويقول فيه قوله، ثم يبدأ بطرق الأبواب لنشره؟ هذا أمر لا يوجد في أي بلد من العالم إلا في مصر، فالمسألة ترتبط بالشللية والمحسوبية والعلاقات الشخصية، والنقاد الذين يحترمون أنفسهم ليس باستطاعتهم طرق أبواب النشر، ولذلك ترى كثيراً من النقاد الجادين عزفوا عن المتابعة، ليس تقصيراً في حق الأجيال الجديدة، وإنما احترام لأنفسهم من الدخول في بعض الدوائر المشبوهة . د . منى طلبة: أدب مواكب للعصر تؤكد الناقدة د . منى طلبة، أستاذة النقد في الجامعة الأمريكيةبالقاهرة، أهمية التعامل مع "الأدب الإلكتروني" بوصفه نوعاً جديداً من الإبداع العربي بما يحمله من خصائص فنية جديدة، تحمل سمات التجديد من خلال مزاوجته بين الصورة والكلمة المكتوبة . وترى أن هذا النوع من الكتابة يستحق أن ينشأ له كرسي خاص في الجامعة لتدريسه . هل استطاعت "المدونات الأدبية" أن تحمل ملامح الخصوصية الفنية؟ بالفعل استطاعت "المدونات الأدبية" و"المواقع الأدبية" بشكل عام على الشبكة العنكبوتية أن تحمل سمات الخصوصية، أولها أنها "أدب" محايث للحظة ومواكب لها، ثانياً قدرته على الوصول إلى جمهور عريض، ما أكسبه تأثيراً في قاعدة جماهيرية كبيرة لها ذوقها الخاص، الذي ينتمي إلى الواقع الجديد وتطوراته، وأرى أن مادة هذه "المدونات" ليست طارئة على الأدب المصري والعربي، فحتى الآن الأدب المصري والعربي القديم منه والحديث له خصائص لم تدرس حتى الآن، مثل "أدب الفاكهة والسخرية"، وربما هذه الأنواع التي تطرق إليها الأدباء القدامى من أكثر الأشكال المستخدمة الآن على الإنترنت، نظراً لما تحمله من لغة المفارقة التي هي الأقرب إلى جيل الشباب . وهو جيل ساخر بطبعه لا يرضى بالمألوف، ثائر على التقاليد، وباحث عن ذاته وسط ركام من الفوضى، ودعني أقل لك: إن هذه العناصر الفنية موجودة منذ أيام قدماء المصريين، مروراً بالعصر الإسلامي، خاصة العصرين العباسي والمملوكي، فهناك أدباء اشتهروا بذلك مثل الجاحظ والشمقمق وأبودلامة وغيرهم، ويعد الآن انتشاره عن طريق الوسائل الإلكترونية أقرب إلى روح العصر . ولكن لكل أدب معايير فنية وتقنية في الكتابة والرؤية، إلى أي مدى يتحقق ذلك في الأدب الإلكتروني؟ نجد بعض معايير هذا الفن الجديد في كتاب "الجمهورية العالمية للأدب" للباحثة الفرنسية باسكل لغازنوفا، التي أوضحت أن هذه المعايير تتلخص في عدة نقاط منها: أن يتم الاحتفاء بهذا الأدب في موطنه المحلي، وثانياً: أن يمس قضايا إنسانية عامة، وثالثاً: أن يبتكر شيئاً جديداً يضاف إلى رصيد الأدب العالمي . وأرى أن هذه النقاط الثلاث متوافرة في "الأدب الإلكتروني"، فهناك ابتكار وعناق للصورة مع الكلمات، فهناك فنانان مزدوجان وشفرتان تلتحم كلاهما بالأخرى لتكون شفرة الصورة الأدبية، كذلك نجد هذا النوع من الكتابة يقدم مفاهيم عالمية من خلال متابعته للأحداث، فهي كتابة تدعو إلى الحرية وتقاوم الاستبداد بأشكاله كافة، وتقاوم العنف عن طريق النقد الحاد أحياناً، والسخرية ولغة المفارقة في أحيان أخرى، وهذه المعايير متفق عليها عالمياً، فهذا النوع من الأدب يمثل صرخة قوية ولغة جديدة في المقاومة . وأتذكر أنني أثناء ثورة 25 يناير كنت في زيارة إلى فرنسا فوجدت هناك بعض المثقفين يقومون بعمل صورة مصغرة لميدان التحرير، ويمسكون لافتات وتعليقات نشرت على "الإنترنت" تناصر الثورة المصرية، فهذا النوع ملهم، ويقف بشكل به كثير من المواجهة للخداع السياسي . هل من الممكن أن نجد مثل هذا النوع الفني والأدبي يدرس في الجامعة؟ هذا من المفترض، لأنه يعتبر جنساً أدبياً وفنياً جديداً، لأنه يزاوج كما قلنا سابقاً بين أشكال متعددة عبر ما يمكن أن يسمى ب "النص المفتوح"، ودعني أذكرك أنه مع ثورة يوليو 1952 بدأ التفكير في إنشاء كرسي للأدب الشعبي في جامعة القاهرة، وأنا هنا أطالب بتخصيص كرسي للأدب الإلكتروني في الجامعات، نظراً لما يحمله من خصائص فنية جديدة تقوم على عملية التواصل بين النص المكتوب والجمهور بطريقة تلقائية، لكن هناك مشكلة تقنية وهي أن هذه الكتابة بحاجة إلى جمع وتنقيح الغث من الجيد، فكثير من هذه الكتابة نصوص وليست أعمالاً أدبية كاملة بالمعنى المتعارف عليه، ولا بالشكل التقليدي الصرف، وجميعها من الممكن أن يؤهلها لأن تنشئ فصلاً جديداً في فصول الأدب في الجامعة، وللعلم فإن هناك أكثر من مؤتمر عقد في العالم حول هذه المادة وعن مدى الابتكار والتجديد فيها . وهذا يتطلب منا كأكاديميين أن نتعامل مع هذه النصوص بنظريات جديدة من البلاغة، وباستخدام شفرات جديدة من النقد بإضافة "شفرة الصورة" التي أشرت إليها سابقاً . هل عندنا نقد حقيقي لفكرة الصورة؟ فكرة اقتران الصورة بالكلمة كانت موجودة في بعض الروايات ودواوين الشعر، لكنها لم تحفر مجرى واسعاً، لكن هناك كتاباً رائعاً للدكتور عبدالغفار مكاوي هو "الصورة والكلمة"، وللدكتور شاكر عبد الحميد كتب مهمة عن استخدام الفكاهة والضحك في الأدب، وهو من النقاد الذين يولون هذا الجانب أهمية كبرى . هناك بعض الأعمال التي نشرت وتحولت بعد ذلك إلى مسلسلات تلفزيونية هل يساعد ذلك على انتشار مثل هذا النوع؟ كل ذلك يساعد على الانتشار الجماهيري بالطبع، وليس الانتشار النقدي والأدبي، فشهرة نجيب محفوظ على المستوى الجماهيري جاءت من تحويل بعض رواياته إلى أفلام سينمائية على سبيل المثال وهذا يحدث في دول العالم الثالث، التي تغلب فيها نسبة الأمية، لكن الذي يخدم هذا النوع من الكتابة أكثر هو وجود دراسة أكاديمية معمقة حول ماهيته . ما مدى استفادة أدباء الإنترنت من فضاء الحرية الموجود على الشبكة العنكبوتية؟ هم يكتبون بحرية مطلقة فلا سقف لما يكتبون، والفن الذي عاش على مدار التاريخ هو الأدب الذي نادى بالحرية، فلم يبق إلا الأعمال التي دعت للقيم الإنسانية والكرامة، أما الأدب الذي نشأ في أحضان ديكتاتوريات قامعة اختفى من ذاكرة التاريخ .