تأتي رواية «فتاة قاروت» في انتقاد سلوك العرب وخاصة الحضارم في تلك الجزر الإندونيسية، ومحذرة من عواقب الأمور، ويتطلع المؤلف إلى رؤية جديدة في الطرح الأدبي منذ مايزيد على ثمانية عقود من كتابة الرواية، وبالتحديد منذ صدورها عام 1927ولهذا أتت روايته في الصفوف الأولى في كتابة الرواية في الجزيرة العربية بل هي أول رواية في الجزيرة العربية يكتبها السيد أحمد عبدالله السقاف في أرض المهجر كغيره من أدباء المهجر العرب ك جبران خليل جبران وميخائيل نعيمه وإيليا أبو ماضي في نيويورك في عشرينيات القرن الماضي وليس من المصادفة أن يكون هناك عربي آخر وفي السنة نفسها التي وجد فيها أدباء المهجر في نيويورك يكون هناك شخص من حضرموت يكتب رواية في إندونيسيا محاولاً كسر الجمود الفكري. وفي هذه الفترة وماقبلها شهدت إندونيسيا حركة ثقافية وأدبية من قبل العرب وخاصة من أغلبيتهم الحضارم بحيث أسسوا الصحف الناطقة باللغة العربية مثل صحيفة «العرب» وصحيفة «السلام»…إلخ. فالأديب أحمد عبدالله السقاف يسعى إلى التجديد قبل سبعة وثمانين عاماً تقريبا، لما رأى من ركود فكري وأدبي في حياة بني قومه داخل حضرموت وخارجها بحيث نرى بعض النقد موجها إلى عبدالقادر أخي عبدالله بطل رواية «فتاة قاروت» في كيفية كتابة الرسالة التي لا تحمل أي أسلوب جديد، وهذا النقد للرسالة مثلا دليل على روح المؤلف الساعية إلى الجديد في الكتابة والطرح الأدبي كما جاء في رواية «فتاة قاروت» ونجد بطل الرواية عبدالله ناقداً أسلوب أخيه في كتابه الرسالة الأتية من حضرموت إلى قاروت في إندونيسيا «ليس الأسلوب الذى جرى عليه في كتابه هذا أسلوب اختاره من جملة أساليب، ولكنه أسلوب شائع ومتبع أباً عن جد عند الخاص والعام من أمثاله. يكتبون به لكل من أرادوا من صغير وكبير وعالم جاهل وشريف ووضيع، وفي أي موضوع كان ما سوى التعزية والتهنئة بالعيد فإن لهما أسلوبين آخرين كذلك. ولو فرضنا أننا عثرنا على رسالة كتبها عبدالقادر منذ عشرين سنة وقابلنا بينها وبين هذه لوجدنا صدرها هو هذا بنصه وفصه وشكله ونقطه لا يزيد حرفا ولا ينقص حرفا وهات عدة رسائل ممن هم على شاكلته كتبوها لغيرهم في أوقات مختلفة تجدها نسخا متعددة من رسالة عبدالقادر كأنهم ينقلون عنها. أتدري لماذا؟ لانهم يعدون الخروج عن المألوف وإن كان أحسن منه ضربا من التنطع ونوعاً من الصلف. يقولون هكذا والحقيقة أنهم عاجزون عن تغيير ذلك الأسلوب». فخروج أحمد عبدالله السقاف عن قومه وأقرانه في كتابة الرواية، الأدب الجديد لدى العرب وخاصة لدى أبناء الجزيرة العربية، يعد نقلة نوعية وفريدة قام بها السقاف في زمنه ويريد أن يحاكي أخوانه العرب في مصر الذين سبقوه في هذا الفن وخاصة في كتابة الرواية، وربما كان متأثرا بهم وبهذا النوع الجديد في الطرح الأدبي، وربما يدل على روحه الشغوفة بما هو جديد وفريد في الأدب. وأحداث الرواية تدور في قاروت إحدى مناطق إندونيسيا وكتبت في تلك البلاد بحروف عربية، وكان الكاتب مخاطباً العرب داخل قاروت وخاصة الحضارم منهم في إندونيسيا أو خارجها. فالرواية تكشف جزءا من حياة الحضارم في «جاوة» (كحمل البقشة) متنقلين بها من مكان إلى آخر طلبا للرزق، وهذه المشاهدات تذهب بالقارئ إلى رواية «أميركا» لربيع جابر الكاتب اللبناني المعروف الحائزعلى جائزة البوكر العربية لروايته «دروز بلغراد حكاية حنا يعقوب» – ففي رواية «أميركا» ينقل لنا الروائي حياة اللبنانيين الذين غادروا وطنهم إلى أمريكا وكيف يتنقلون «بالبقشة» أو «الكشة» من ولاية إلى ولاية أمريكية أخرى من أجل الرزق كما قال عنهم ميخائيل نعيمة الذي يعد شاهد عيان لما قام به العرب وخاصة اللبنانيين الذين عاش بينهم في المهجر حيث وصفهم كحوانيت متنقلة «نتلفت أنا وقلبي إلى قوافل المهاجرين الأول الذين اقتحموا بحاراً ماسمعوا من قبل بأسمائها. وبلداناً ماعرفوا حرفاُ من لغاتها، أو طقساً من طقوسها، أو عادة من عاداتها، أو حداً من حدودها. فكانوا حوانيت نقالة من دسكرة إلى دسكرة، ومن بيت إلى بيت». وفي الحالة نفسها نجد الروائي اللبناني ربيع جابر واصفاً قومه المهاجرين في أمريكا في القرن العشرين مقاربا لما قاله ميخائيل نعيمة، ويسترسل الكاتب اللبناني ربيع جابر في روايته «أميركا» كاشفاً حالة العرب وخاصة اللبنانيين الذين هاجروا إلى أمريكا للعمل، وكيف كان حال بعضهم متنقلا من مكان إلى آخر «بكشته» أو صندوقه أو «بقشته» على ظهره، حيث يقول في روايته «أنا وأبي مشينا على الأقدام من نيويورك إلى هنا. أنتِ أتيتِ بالقطار لكن عندما جئنا إلى هنا لم تكن هذه السكة موجودة. وصلنا قبل السكة. كنت أتعب من السير فيحملني أبي مع الكشة. الصندوق على ظهره، والصندوق الآخر الأصغر على صدره». وفي الجانب الآخر نجد عرب إندونيسيا، وهم الحضارم يعيشون الحالة نفسها في جزيرة أخرى من جزر إندونيسيا كما يعيش أخوانهم اللبنانيون في مهجرهم في أمريكا حيث جاء في رواية «فتاة قاروت» على لسان فان ريدك قائلا معاتبا والد نيغ «هل رأيت يوما اورباوي يدور في الحارات حاملا بقشة باتيك؟ يدور بها من زقاق إلى زقاق حافي القدمين؟». بعد كل هذه المعاناة التي عاشها المهاجرون العرب في تلك الجزر الأمريكية أو الإندونيسية وفي القرن نفسه القرن العشرين نجد أن كل من عاش تلك في الفترة يحث بني قومه للعودة للوطن من أجل النهوض به- فالغربة تأكل الإنسان وتجذبه والوطن في حاجة له ولأمواله وخبرته، ونجد الكاتب أحمد عبدالله السقاف يشجع على الرجوع إلى الأوطان وجاء ذلك الحث على لسان أحد الحضارم الذي جمعته الصدفة مع عبدالله في أحد قطارات إندونيسيا، وكان عبدالله المستمع مستغربا من هذا الرجل العامي، ولكن فكره وطني متقدم، وناقد لوضع الحضارم الذين نسوا الأوطان، وحضرموت تواجه مصيرا مجهولا بحيث شاخت البيوت عندما سافر أهلها وأشرفت أرضهم على الموت في غيابهم عنها حيث جاء في الرواية «وأيه تشوف ماهو سوى كلامي لي قلته لك يوم ذكرت العرب والله ماهو حق بغض مني لهم ولا هو استحقار ماحد يبغض جماعته لكن ما تخليك نفسك يالإنسان إذا شفت شي ماهو سوى ماهو واجب تسكت قياسك يوم العرب لهم سنين في جاوه وفيها تجار آل باميه وألف وآل باميتين ألف وحد معه ملايين ماسيب الصغران آل باخمسيبن ستين ألف مخلين متجرهم كله في جاوه ولو بتلو حتى نصف متجرهم ل حضرموت وعمروا بلادهم كانهم في خير وحقهم محفوظ والمساكين بيعيشون هناك». فلو نقارن ماقاله ميخائيل نعيه نجده يحث قومه على ترك الغربة والعودة إلى الوطن، وقد بدأ يحبب الآخرين لحب الوطن في مقاله «هجرت بلادي» حيث يقول : «ولماذا عدت إلى بلادي، والأرض كلها بلاد لي؟ عدت لأن بي ترابًا من تراب لبنان، فعظامي من عظام هذه الجبال ودمي من دمائها ونفسي من أنفاسها والتراب يحن أبدًا إلى ترابه، ففي التراب أمومة وبنوة مثلها في الطير والحيوان والإنسان». وهذه الكلمات الرنانة تجعلني أجلس وأتفكر فيما قاله أحد أدباء حضرموت واصفاً حالة أبناء وطنه عندما يهاجرون إلى أوطان غير أوطانهم ولا يعودونن ويحملون حالة أدباء لبنان نفسها فيما قالوه وعاشوه مع أخوانهم الحضارم في الغربة في القرن العشرين، حيث يقول علامة حضرموت ومفتيها السيد عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف في كتابه «إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت» عن حالة الحضارم الذين تفرقوا في المعمورة وتركوا البلاد تواجه مصيرها المجهول، وهو المصير الذي كان يقلق أحمد عبدالله السقاف في روايته الشهيرة «فتاة قاروات» بحيث يقول بن عبيدالله السقاف «فالقلوب تنذاب، والبين أكبر عذاب، يبعث الشجون، ويكثر الدجون، ويشبه السجون، وما لي أرى الأحباب والأولاد يذهبون ثم لا يجيئون». فعندما قرأت هذه الكلمات أتذكر الكلمة التي ألقاها الأديب الدكتور عبدالرحمن الشبيلي في غرفة جدة بمناسبة تريم عاصمة الثقافة الإسلامية وقال حينها الشبيلي ما معناه أن للحضارم دورا كبيرا في المهجر في التجارة والصحافة وغيرها ولكن بكل أسف لم يقدموا شيئا يذكر لوطنهم حضرموت إلا في السنوات الأخيرة يوجد البعض منهم ممن يسعى للنهوض بالأرض والإنسان في حضرموت. ويقول أمين معلوف في كتابه الرائع «بدايات» واصفا حاله جده بطرس وطموحه للسفر خارج لبنان «كان لابد من محاربة الجهل لتحسين أوضاع البلاد! ألا يتساوى هذا الطموح مع طموح أخيه جبرايل؟ أليست تلك المعركة مغامرة أكثر تشويقاً من السفر إلى أمريكا؟ أليس الأجدى بناء أميركا أخرى عندنا، في المشرق، في أرض الأصول، عوضاً عن الانضمام بغباء إلى تلك الموجودة أصلا». ونحن الحضارم نعيد الطرح بعد مرور ثمانية عقود على رواية «فتاة قاروت» ونقول كما قال الحضرمي العامي في القطار في إندونيسيا «ولو بتلو حتى نصف متجرهم ل حضرموت وعمروا بلادهم كانهم في خير وحقهم محفوظ والمساكين بيعيشون هناك». أي لو قسمنا نصف ما نملك لحضرموت خير لنا وحقنا محفوظ والمساكين سيعيشون هناك حياة كريمة وبناء أندونيسياوأمريكا سيكون عندنا.