البحر, والمسجد في مدينة المكلا القديمة , أو الأصيلة , مفردتان تحكيان قصة الطهر والعبادة, وتحمل دلالات واسعة كالهواء, سرمدية كالبحر,عميقة كالإيمان…وبعيدا عن سور البر وسدته ,وحصن الجبل وأكواته , فإن مدينة المكلا العاشقة للسلام ترحب بالقادمين إلى سواحلها من أعالي البحار, لا يصدهم صاد, فهاهي مآذنها ترسل نداء المحبة وكلمات الفلاح,وهاهي مساجدها أول من يحتضن من لحلح إليها ولاح. وتشكل مساجد ضفتي لسان مدينة المكلا طوقا من إيمان يحميها من وساوس الشيطان, وتصونها من غدر الجبان, فإذا انطلقنا بقارب من ساحل البحر فأول ما سنشاهده في اللسان الشرقي مسجد (محيشوكة) أو نور البلاد, وقريبا منه مسجد (بازراره), وبالقرب من رأس المكلا وبالتحديد في بداية اللسان الشرقي سنشاهد مسجد (جامع البلاد), ويتوسط مسجد (علي حبيب) بينه وبين مسجد(الغالبي) الذي يقع في آخر اللسان باتجاه الجبل, وتلامس هذه المساجد ساحل البحر في دورة طُهر خالدة خلود حركة الأمواج وذلك قبل تشييد ما يسمى بكورنيش المكلا. وإذا غادرنا منطقة اللسان واتجهنا غربا سنجد قصة البحر والمسجد تتكرر مع مسجد (الروضة) وشيء من ذلك نجده مع جامع السلطان (عمر) ومسجدي (المشهور وبازرعة) الكائنين في منطقة برع السدة . وفي هذه البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه اعتكف المكلاويون فيها بالصلاة عمروها , وبالدعاء نوروها, وبالذكر أحيوها, واحتل القرآن عندهم كما هو حال المسلمين في كل مكان أهمية كبيرة, ويتلى في هذه المساجد آناء الليل وأطراف النهار, وتبارك الأحياء بتلاوته ثم استحسنوا إهداء التلاوة إلى أرواح موتاهم عسى الأجر يصل إليهم والثواب . فختم المسلم للقرآن يعد احتفالاً روحياً بين العبد وربه, ويتلذذ خاتم القرآن بدعاء الختم الشهير, والمناجاة الروحانية التي تطمئن القلوب, وتجلي الكروب. ولأن رمضان هو شهر القرآن, اجتهد الكثير في ختمه أكثر من مرة, وفي هذا الشهر العظيم جاءت فكرة الاحتفال الجماعي بختم القرآن في المساجد, وتطورت هذه الفكرة إلى ما يعرف في حضرموت باحتفالات الختايم. ولا يعرف بالتحديد متى ظهرت الاحتفالات, وكيف انتشرت في المدن والبلدات الحضرمية, لكن الثابت أن تاريخ ظهور هذه الاحتفالات في حضرموت يتجاوز القرن من الزمان وفي المكلا يعود إلى عهد الإمارة الكسادية التي انتهت عام 1881م وتشابه احتفالات الختايم في المدن الحضرمية يعود إلى الوحدة الثقافية بمسحتها الصوفية التي عمت حضرموت داخلها وساحلها وبواديها فقد أسهم انتشار أسر من السادة والمشايخ في معظم مناطق حضرموت في تأصيل وشيوع هذه المظاهر الثقافية التي أعطت لحضرموت خصوصية في إطار وحدة الثقافة الإسلامية السائدة في المنطقة. إن احتفالات الختايم التي تقام بأسلوبها التقليدي القائم حتى الآن ,شهدت تطورات تدريجية حتى اتخذت لها مظاهر ابتهاجية خارج المسجد فأصحاب المسجد الذي يتم في الاحتفال الجماعي بختم القرآن الكريم تطلعوا في أن يشاركهم أقاربهم وأصدقاؤهم في هذه المناسبة.وتطلب الأمر الدعوة بالحضور للأهل والأحباب وهكذا تحركت عائلات من منطقة إلى أخرى فضلا عن اجتماع أبناء المنطقة ذاتها وعندما تتزاحم الأقدام وخاصة أقدام الأطفال تتوفر فرص للتجارة ومن هنا فان فكرة الختم تطورت تلقائيا من بدايتها الدينية البحتة إلى تفرعاتها الاجتماعية والاقتصادية . في مدينة المكلا تبدأ احتفالات الختايم منذ الليلة التاسعة من رمضان بمسجد بايعشوت وتنتهي بليلة التاسع والعشرين في قبة يعقوب. ولا ندري لماذا بايعشوت أولا؟ ولأننا لا نريد أن نغرق في التخمينات سنحاول الإجابة عن سؤال آخر وهو: لماذا تبدأ بالتحديد احتفالات الختايم من ليلة التاسع من رمضان؟؟؟ ولماذا يكون هناك فاصل يوم بين ختم وآخر أو ما يعرف في المكلا (بالغب) .عندما طرحنا هذا السؤال على بعض المهتمين وكبار السن تنوعت إجاباتهم, وتعددت اجتهاداتهم, والأرجح بحسب رأينا يعود إلى قلة مساجد المكلا القديمة فهي لا تزيد عن ثلاثة عشر مسجدا وبالتالي هذا الاختيار يعطي فرصة لامتداد الاحتفالات في أيام الشهر الفضيل كما أن هذه الأيام الثمانية الأولى تكون فرصة للإفراغ من قراءة القرآن استعداد لاحتفالية الختم, وكذا التعود على أسلوب الحياة الرمضاني الجديد, وفرصة لعودة الرجال المهاجرين أو المغتربين إلى ذويهم. وحتى هذه الأيام يحرص المقيمون خارج مدنهم وبلداتهم أن تكون إجازاتهم أو استراحاتهم بين أهلهم وأقاربهم والأخلاف امتداد للأسلاف. واستكمالا لمهرجان الفرح الرمضاني وتعويضا عن محدودية المساجد أضيف لاحتفالات الختايم قباب المكلا الثلاث المعروفة وهي: قبة (شيخان) وقبة (المحجوب) وقبة( يعقوب)وفي هذه القباب مدفونٌ الصالحون من أبناء هذه المدينة وفي احتفالات هذه القباب الرمضانية تجدد الزيارات لهؤلاء الصالحين بحسب الطريقة الصوفية الحضرمية حيث تقام المواخذ والأناشيد ويرتفع صوت الطارات ويزدحم الناس طلبا للبركة أو إشباعا للفضول. ومع مرور الزمن تراجعت الفكرة الدينية من الختايم وترسخت التقاليد الاجتماعية والاقتصادية . فعلى الصعيد الاجتماعي وارتبط اجتماع الأسر والأقارب على موائد الإفطار بأيام الختايم مما عزز الترابط الأسري وأوجد فرصاً كبرى لرأب الصدع والتسامح بين الأقارب ، فشياطين الخصام مرصونة ولحظات الصفاء مضمونة وللقلوب أسرار مكنونة . وتنسج في مثل هذه المناسبات علاقات تعارف وتقارب جديدة بين الأسر الثابتة والمتحركة تتجاوز أحيانا الأقارب إلى جيران الأقارب ، والطريق معبدة بنور الرحمن, ورقة رمضان, وحلاوة الإيمان . وعلى الصعيد الاقتصادي يهيمن على هذه الختايم ( الرأسماليون ) من الأطفال أصحاب الجيوب المعمورة لهذا لابد لها من منافذ, ومصارف, ..وهنا يحضر صغار الباعة الذين يعرضون سلعتهم للمشترين الجاهزين وإمعانا في تصفية الجيوب يستقدم هؤلاء المراجيح علها تقذف بما تبقى من القروش.. وهكذا تتحول الختايم إلى مهرجان للطفولة بامتياز فيكون من حقهم الثياب الجديدة واللعبة المناسبة والفرجة اللائقة ولا يستطيع الآباء نزع حق ادّعوه في يوم من الأيام, والأيام تتداول بين الأنام. ولا يقتصر البيع على ما هو للأطفال فللكبار نصيب وبخاصة المسليات (كالحنظل والفل السوداني(اللوز) والذرة الشامية(القلي)إلى جانب أنواع من الحلويات الشعبية المكلاوية إذ يتهادى بها المحتفلون مع الآخرين . ويستفيد من هذا الجمع الفَرِح نسوة غالبا ما يأتين من أقصى المدينة يحضرن لتأدية أرجوزة الختايم للمواليد الجدد والعراوس الجديدات مقابل مبلغ من المال يدفع بحسب كرم الناس. ويقلن في أرجوزتهن للمواليد الجدد- مع ذكر الاسم : (فلان) هات حقنا (فلان) لي من ربنا, ذي السنة ختمنالك وبالسلامة لخوانك. ومن خلال كلمات هذه الأرجوزة نستنتج طلب المساعدة مقابل هذا التفريح السريع وهو نوع من التسول الخجول وربما المقبول اجتماعيا لهذا لا يعبأ الناس بما يردد من تهديد يقال آخر الأرجوزة هاتوا شوية شربة ولاكسرنا البرمة). واللافت في هذه الأرجوزة تحول لفظة الختم والختايم من مدلولها الديني إلى مدلول آخر بعيد وذلك بقولهم ذي السنة (ختمنالك) وبالسلامة لخوانك ويقصد هنا بختمنالك : خصَصْناك بذكر الأرجوزة في احتفالات هذا الختم فربما السنة القادمة يكون مولود جديد يستحق تلك الأرجوزة . وهكذا تعيش المنطقة الاحتفالية ومسجدها في حالة من الحركة والنشاط والفرح العام عند الأطفال ، أما الكبار فهناك ألف حاجة وحاجة تشغلهم, ولكن مهما يكن التعب والنصَب فإن البلسم والعزاء هو في السعادة الصادقة التي تغمر قلوب الأطفال البريئة الغضة. ولكن العيد لا يزال بعيداً لهذا يجب أن تبقى ليالي رمضان المكلاوية حية في مسجد جديد, ومكان جديد, وقلوب جديدة, حنونة نابضة ورحيمة.