في بلادنا لا شيء يعطيك دلالة على أنك يمكن أن تكون أكثر تنسيقا وتنظيما. عند خروجك من بيتك لا بد أن تواجهك من بلاعتين إلى ثلاث بلاعات يوميا، ومن ثلاث إلى خمس قمامات حتى يستدل بها الغرباء كعلامات للوصول إلى أماكن سكناهم. ربما هناك من يعودنا على روائح الجثث من الآن فصاعدا، ويدفع بنا لأن نعود آلاف السنين إلى الوراء لنتعلم كيف وارى قابيل سوأة أخيه ونعرف كيف نواري سوأة الغنم والكلاب الطافية على أكوام القمامات، لكن الغراب هنا ميت في القمامة نفسها، أو مشغول بأكل الجيفة عن دفنها. جغرافية المكان مشوهة، حتى إنك لا تحتاج إلى إرشادات عامة إلى الأماكن التي تضع فيها القمامة، كل موقع يمكن أن يكون قمامة، يكفي أن ترمي سلة الأوساخ من غرفة نومك أو غرفة الاستقبال لتستقر في الطريق على قرن ماعز، أو على كوفية عابر في الطريق.. قديما كانت المكلا مغمورة تحت الماء كصدفة، أو كزهرة بين الشعاب المرجانية، وكلما تعفنت انزاح عنها البحر قليلا، وقد زادت عفونتها هذه الأيام، فابتعد عنها البحر أكثر من أي وقت مضى.. يتحاشى الرائحة، لكنها مولعة به حتى لو كان خورا ترمي إليه بالقمامات والمجاري التي تنفتح عليه بكرم بالغ بدل أن ينفتح على المحيط. أتمنى لو تبخر الخور وطارت معه تلك الرائحة، شيء غير مريح أن يبدأ الخور تاريخه بالنتانة وهو المولود الجديد لهذه المدينة، لا يتجاوز عمره ثماني سنوات، لكنه ابن عاق لأبيه البحر يجلب له بقذارته السمعة السيئة، حتى النوارس لا تحلق فوقه، ولا تنفتح عليه النوافذ والنجوم، ربما كانت الجبال المرتفعة على أطراف المدينة هي الوحيدة التي لا تشم رائحته الكريهة، والقمامات أيضا كصديقة حميمة. الخور ليس بنهر ولا بحر، رافد ممتاز لانفجار بلاليع ضخمة تنقش ذكرياتها في الطرقات وعلى ثياب المارة وأجرام السيارات، وليس في العالم كله قباب وسط الشوارع إلا في هذه المدينة.. قباب البلاليع التي لم يستطع أحد تنكيس هاماتها العالية. ليس في القمامة إلا زركشة الألوان فقط، كباقة من زهور نادرة، يفوح منها عطر المرضالين، وتطلع منها نوافير الحشرات والذباب، ونحافظ عليها شهورا في آنية صفراء مؤكسدة، وإذا حرقناها نعمت المدينة بالضباب الأسود النادر في العالم، وارتفاع صدور السكان مترعة بالربو. هذا شيء نادر حقا! ملحوظة: متى سنكتب مقالا رائعا عن الحدائق الوطنية ؟!