مع الثانية ظهر الجمعة 25 ديسمبر انطلق بنا القطار الدولي من ساحة برشلونة بتونس العاصمة باتجاه الجزائر ,ومررنا على عدة محطات تونسية في داخل ولاية تونس العاصمة ومنها باردو ثم منوبة حيث كنت حينها أقيم بالسكن الجامعي بها ثم على أراضي زراعية واسعة في كل من جديدة وطبربة . وكل هذه المناطق كانت تتبع إدارياً ولاية تونس . ثم دخلنا إلى ولاية باجة ومررنا على مدينة مجاز الباب التي تقع على ضفاف نهر مجردة والذي يطلق عليه محلياً وادي مجردة , وحيث أقيم جسر مند العهد العثماني على هذا النهر يمكن ساكني مجاز الباب من الانتقال بين ضفتيه . ووصلنا إلى مدينة باجة عاصمة الولاية التي تحمل اسمها , ومنها إلى مدينة بوسالم بولاية جندوبة . واخترقنا مدينة جندوبة عاصمة هذه الولاية وكانت هذه المدينة تسمى حتى عام 1966م (سوق الأربعاء) حيث كان بها سوقاً للمنتجات الزراعية يقام كل أربعاء , ثم استبدل اسمها في ذلك العام بجندوبة وهي جمع لكلمتين من أصول أما زيغية (بربرية ) تعني سوق القمح والذي يكثر إنتاجه في هذه المنطقة وحيث تعني كلمة (جن) سوق وكلمة (دوبة ) قمح . وقبل مغيب الشمس بقليل أي مع الأصيل وصلنا إلى بلدة (غار الدماء) , وهي أخر محطة في الأراضي التونسية وفيها مركز للحدود بين تونسوالجزائر وتقع على بعد حوالي 190 كيلو متراً غربي مدينة تونس . ورغم أن اسمها يوحي للسامع بشي من الوحشة والضيق أو إنها من بقايا عهود إراقة الدماء وقتل الأبرياء , إلا أن هذه البلدة تحيط بها غابة كثيفة من الأشجار العالية والباسقة بل والمثمرة وعلى أفنانها تصدح العصافير والطيور , وتنتشر الأزهار والورود في ساحات واسعة من مساحتها , ويجري بجوراها نهر مجردة بمياه الوفيرة . وعلى مقربة منها تقع إطلال مدينة (شمتو ) إحدى المستوطنات الامازيغية الهامة . كما أن غار الدماء هي عاصمة لمعتمدية ( أي مديرية ) غار الدماء إحدى المعتمديات التسع لولاية جندوبة . ويسكنها حوالي 20 ألف نسمة , وتضج بالحركة والنشاط . والمهم انه في غار الدماء هذه صعد ضباط الجمارك والجوازات التونسيين على متن القطار لإنهاء الإجراءات الرسمية للركاب بالمغادرة . ومضى بنا القطار صوب الأراضي الجزائرية وما هي إلا حوالي نصف ساعة من مغادرتنا لغار الدماء حتى توقفنا في أول محطة جزائرية وهي سوق أهراس والتي تبعد حوالي 30 كيلو متراً غربي غار الدماء . ووقف القطار وصعد ضباط الجمارك والجوازات الجزائريون إلى عرباته لإتمام الإجراءات الرسمية الخاصة بدخول الركاب إلى أراضي الجزائر . ولأنني كنت الوحيد في هذا القطار من غير التونسيينوالجزائريين فقد استوقفني اثنان من هؤلاء الضباط وكان احدهما رفيعاً بشكل ملحوظ عرفت فيما بعد أن أسمه محمد والآخر متيناً وبشكل ملحوظ كذلك علمت فيما بعد أنه يدعى الطاهر . وكانا واقفين أمامي والى جوار بعضهما , ولا ادري لماذا تخيلت حينها منظراً يجمع بين الممثلين الكوميديين لوريل وهاردي أيام السينما الصامتة . وكان الطاهر أكثر بشاشة وحيوية ورفقاً في توجيه أسئلته إلى , أما الآخر الرفيع محمد فكان أكثر تجهماً وتصلباً وتشدداً في تساؤله معي , وكأنه افترض أنني ( مشبوه ) , خصوصاً بعد أن رأى إنني احمل معي صحيفة ( الشرق الأوسط) الصادرة في لندن والتي تصل إلى تونس . وكنت قد اشتريتها من محطة برشلونة لتمضية الوقت في قراءتها أتناء الرحلة . ولم اعلم أن هذه الصحيفة ممنوع دخولها إلى الجزائر إلا من خلال نظرات هذا الضابط الجزائري النحيف إلى الصحيفة ثم إلي . والمعروف أن هذه الصحيفة تديرها كفاءات عربية وخليجية ومهتمة بشؤون جنوب الجزيرة العربية . وأدركت حينها أن في الأمر شيئاً ما وان علي أن أتحلى بالصبر وضبط الأعصاب والهدوء والإجابة على كل سؤال بصدق تام , حيث أني الآن تحت رحمة الله عز وجل وفي قبضة هذا الضابط الجزائري ولا ادري إلى أين سينتهي بي الأمر معه . واحد يفتش في أمتعتي القليلة بداخل شنطة ( هاند باق ) صغيرة فوجد بداخلها راديو ترانستور صغير بموجة واحدة متوسطة وأطلس صغير للعالم بالانجليزية به مجموعة من الخرائط العامة لدول العالم يساعدني في معرفة بعض الطرق , تم بنطلون إضافي وأدوات الاستخدام اليومي المعتادة للبشر . ولم يجد هذا الضباط أي شيء لدي يثير الشبهة , ولكنه يريد أن يثبت شيء وبأي شكل , فطلب مني جواز السفر وأخذ يقلب صفحاته وسألني أين تأشيرة دخولك إلى الجزائر ؟ فأجبته بكل هدوء إنني قد سألت سفارة الجزائربتونس وقيل لي انه ليس علي تأشيرة لدخول الجزائر . ونظر مرة أخرى إلى جواز السفر والى غلاف الجواز تحديداً وقرأ بصوت مسموع : الجمهورية العربية اليمنية , تم أضاف إذن هي اليمن الجنوبية . فأجبته بهدوء لا إنها اليمن الشمالية . فرد علي بشيء من الإصرار العجيب : بل إنها اليمن الجنوبية .تم أضاف : ولدينا تعليمات بأنه على مواطني اليمن الجنوبية أن يحصلوا مسبقاً على تأشيرة دخول إلى بلادنا وأنت لم تحصل على هذه التأشيرة . وتمالكت نفسي من الغيظ إمام هذا الضابط المصرّ على إن الجمهورية العربية اليمنية هي اليمن الجنوبية . وهذا يعني أن اليمن الديمقراطية في نظره هي اليمن الشمالية , وربما انسجاماً مع ما يعرفه العالم كله بان كوريا الديمقراطية هي كوريا الشمالية وان فيتنام الديمقراطية (سابقا) هي فيتنام الشمالية . ويبدوا أن هذا الضابط لا يريد أن يوجع دماغه بمعلومات جغرافية تزيده صداعاً . ولكنني لاحظت أن الرجل يتكلم بنبره هادئة نوعاً ما , وكأنه يحاول أن يفهم ربما لعلمه بأنني طالب علم في الدراسات العليا وفي الجغرافيا بالذات , وربما لكوني غير جزائري ومن واجبه احترام الضيف ولو أخطأ . والمهم أن ما أسعدني في نصف كلامه انه جاء مطابقاً لما قاله موظف السفارة الجزائريةبتونس من أن مواطني اليمن الجنوبية عليهم الحصول على تأشيرة لدخول الجزائر . وهذا يعني أن علي الآن أن اقنع هذا الضابط أن اليمن الجنوبية هي اليمن الديمقراطية . وان اليمن الشمالية هي الجمهورية العربية اليمنية وهذه الأخيرة هي المعفية من هذه التأشيرة المزعجة . وكان موقفاً غريباً وعجيباً لم أتعرض لمثله في حياتي وربما لا يصدق البعض انه قد حدث بالفعل . وكنت اشعر في داخلي إن ثقافة الرجل ووعيه اكبر بكثير مما يقوله وأنه بلا شك يدرك أن اليمن الجنوبية هي اليمن الديمقراطية ولكنه يريد سبباً لإخراجي من القطار لاستكمال التحقيق معي في أمور لا اعلم عنها شيئاً وربما هي شبهات تكونت لديه عندما شاهد صحيفة الشرق الأوسط معي وعندما قلب صفحات جواز سفري والذي مكتوب فيه انه استبدل عن جواز سفر يمن جنوبي وفيه كذلك أن إقامتي بالقاهرة بينما أبرزت له بطاقة إقامة مؤقتة للدراسة في تونس . كما أن الصورة الملصقة بالجواز قديمة نوعاً ما وقد مضى عليها بضع سنوات تغيرت منها بعض ملامح شكلي . وعندما سألني هذا الضباط عن مبلغ العملة الصعبة التي احملها أخبرته بصدق إنها في حدود80 دولاراً فأستغرب كيف يمكن أن أقوم برحلة طويلة كهذه وفي مناطق متباعدة بهذا المبلغ الضئيل . ولعل ما أفاض الكأس لديه هو مشاهدته لتأشيرة دخول إلى المغرب في جواز سفري , أي إنني فعلاً سأتوجه إلى المغرب بعد مغادرتي لأراضي الجزائر وربما ظن الرجل أن لي مهمة خاصة في ظل الاضطراب الأمني والسياسي الذي تعاني منه دولتي الجزائر والمغرب بسبب قضية الصحراء الغربية . وفي أخر محاولة مني لإقناع هذا الضباط الجزائري بأن اليمن الجنوبية هي اليمن الديمقراطية وان الأخرى التي احمل جواز سفرها هي اليمن الشمالية وهي المعفية من التأشيرة أخرجت له من حقيبتي أطلس الجيب الصغير وفتحت على خريطة للجزيرة العربية توضح دولتي اليمن ومكتوب على كل منها بالانجليزية ( نورث يمن ) و( ساوث يمن ) . فنظر الرجل إلى الخريطة بتفحص وتمعن وظننته قد أوشك على الإقتناع , إلا انه بادرني بحجة كانت القاصمة والحاسمة بالنسبة له لإنهاء هذه ( الدوخة ) حيث قال : ولكن هذا الأطلس مكتوب بالانجليزية وأنا لا اعرف الانجليزية . ولكنى سأستعين بأستاذ اعرفه في اللغة الانجليزية ليشرح لي ذلك . تم قال بلهجة الأمر العسكري : والآن عليك أن تحمل أمتعتك واتبعني إلى خارج القطار . إذن قضي الأمر وخرجت من القطار مخفوراً بهذين الضابطين الجزائريين , وظل الضابط محمد ممسكاً في يده بجواز سفري وبصحيفة الشرق الأوسط وكما يبدو انه عازم على مصادرتها . وما أن أصبحت مع الضابطين على رصيف المحطة حتى سمعت صوت القطار وهو يتحرك منطلقاً في رحلته . وكأنني قد أخرّت رحلة القطار بضع دقائق , لاشك إنها محسوبة على مثل هذه الرحلات الدولية . ودخلنا إلى مخفر شرطة سوق أهراس , ولا ادري إلى أين ذهب الضابط محمد وإنما وجدت الضابط الطاهر يطلب منى الجلوس على احد المقاعد بجوار مكتب يبدو انه لمأمور المخفر ولا ادري أيهما هو وجلس الضابط الطاهر على مقعد أمام المكتب بعد أن خلع معطفه الثقيل الذي يقيه برد الشتاء القارس وعلقه على شماعة بجواره . تم تناول من منضدة صغيرة إلى جواره كأساً نظيفاً لم يستعمل وصب عليه شاياً احمراً من (ترموس) كانت موضوعة بالمنضدة وقدمه لي . وكانت هذه الحركة اللطيفة من الضابط الطاهر كافية لتبديد أي قلق كان يجول بخاطري من فشل رحلتي هذه ومن ثم العودة إلى تونس دون تحقيقها . وبينما كنت أحتسي الشاي الأحمر نظرت إلى الجدار الذي يعلو الضابط الطاهر فوجدت صورة كبيرة للرئيس الراحل هواري بومدين , مما أثار استغرابي ودهشتي لأنه انتقل إلى رحمه الله تعالى منذ حوالي ثلاث سنوات وأصبح الشاذلي بن جديد هو رئيس للجزائر . وبدأ لي وجود صورة بومدين معلقة في هذا المخفر مثيراً للذهن ولم أجد له من تفسير واضح غير أن مكانة بومدين كانت طاغية ومؤثرة في نفوس مجاميع كبيرة من الجزائريين , وخصوصاً أعضاء حزب جبهة التحرير الوطني الجزائرية وكذلك القطاعات العسكرية والأمنية وبالذات من أبناء الشرق الجزائري أو ما يعرف بمنطقة جبال الأوراس التي اندلعت منها ثورة عام 1954م وكان بومدين أحد أبطالها الميدانيين . وبينما كنت في تأملاتي وأفكاري هذه حول صورة بومدين المعلقة على جدار مخفر شرطة سوق أهراس دخل علينا الضابط محمد وهو ممسكاً بيد بجواز سفري وباليد الأخرى صحيفة الشرق الأوسط ووجه كلامه إلي مباشرة قائلاً : عليك أن تختار بأن تبات في مخفر الشرطة هذا إلى الغد , أو أن تبات في فندق مجاور حتى نستكمل التحقيق معك والتأكد من صحة ما قلت , فبادرت على الفور : أفضل أن أبات في الفندق . وبعد برهة سألته : ولكن ما مقدار أجرته ؟ فأخبرني بأنها في حدود خمسين ديناراً , فنزل على مسمعي هذا القول نزول الصاعقة لأن ما في حوزتي من مال لا يزيد عن أربعين ديناراً تونسياً , وهي لا تكفي لأجرة ليلة في هذا الفندق , غير أنني استدركت في لحظة وكأنني أبحث عن طوق نجاه ينقذني من هذا الوضع فسألت الضابط محمد : هل الأجرة بالدينار التونسي أم بالدينار الجزائري , فأجابني على الفور : بالطبع بالدينار الجزائري , فنزل جوابه هذا برداً وسلاماً على نفسي لأنه يعني أنني سأدفع فقط خمسة دنانير تونسية أجرة الليلة في هذا الفندق , ورغم أن هذه الدنانير الخمسة كانت لها قيمة غالية عندي وقتها . ولكن لابد من التضحية بها بدلاً من المبيت في مخفر الشرطة ولا ادري إلى أين ستتجه الأمور . وانتقلت مع الضابط محمد إلى الفندق الملاصق تماماً لمبنى المخفر , وربما وضع هذا الفندق خصيصاً لمثل الحالة التي جئت فيها واحتجاز المشتبه فيهم من الركاب القادمين من تونس بالقطار إلى الجزائر ومع حوالي السابعة مساءً استقربي المقام في أحدى غرف هذا الفندق المكوّن من طابقين ويتسم بنظافة ملحوظة ويغمره الهدوء والسكينة . ونزلت في غرفة مجاورة لصالة الاستقبال في الطابق الأول وبعد أن وضعت حقيبتي في الغرفة اتجهت إلى مسؤول الاستقبال وسألته عن اتجاه القبلة فأشار بيده إليها , ثم طلبت منه أن يبعث احد عمال الفندق ليشتري لي خبزاً وزبادي محلي بطعم أو نكهة الفاكهة , ودفعت المبلغ المطلوب وكان في حدود دينار جزائري واحد أي مائة مليم تونسي . وكانت تلك أول وجبة أتناولها في تلك الرحلة والتي أصبحت فيما بعد منوالاً منتظماً خلالها , وحيث أصبح الخبز والزبادي هو الوجبة الرئيسية طيلة هذه الرحلة . وهذا يعني إنني قد بدأت أطبق بالفعل الخطة المالية المرسومة . وبعد حوالي ساعة أتى إلى غرفتي ثلاثة رجال وطلبوا مني الإذن في التعرف علي والتحدث معي , فسمحت لهم بالدخول إلى الغرفة . ورغم إنني كنت في حاجة إلى الراحة مما نالني من تعب ونصب إلا إنني لم أكن في وضع يسمح لي برفض طلبهم لأنني كنت تحت إقامة شبة جبرية في هذا الفندق .