المقدمة : من البديهي ان ينزع الانسان الى التشبث بالكينونة المغروسة فيه والمتصلة بخاصية الوجود التي لايضاهيها شي من منطلق حرصه على الحياة وفي هذا ربما يشاركه في بعض خصائصها كل كائن حي صغر ام كبرحجمه … لكن الانسان مع ذلك وهو المميز بالعقل الذي أهله للخلافة على الارض نجد ان روافد هذا المنزع تطورت عنده تأصيليا الى ماهوابعد بكثير من هذا المفهوم الغرائزي الصرف في تشكلاتها بأبعاده الثلاثية الاوتاد .. التاريخ والدين والثقافة , فأصلت لذلك ماعرف عند علماء الانثروبولوجيا ب ( الهوية ) . ولعل القاريء لتاريخ الامم على مدى قرون طويلة في صراعاته الطاحنة يقع ليس على البند السابع من ميثاق الاممالمتحدة ذلك السيف المسلط على رقاب ضعاف الامم دون غيرها كما نراه اليوم … لكنه كان ذا منزع كينوني بإمتياز تغذيه جذوة الحفاظ على الهوية من تاريخ ودين وثقافة التي ينماز بها عن غيره ويريد الآخر طمسها بقوة البسط والسيطرة عليه وهو ما تؤكده شواهد التاريخ وتنفيه وقائع الاحداث على الارض على اعتبار ان طمس الهوية لاي شعب او أمة لايمكن ان يكون بأي حال من الاحوال … فخصوصية العيش والحياة قائمة عليها وبالتالي كما يؤخذ مما ذهب اليه الاتحاد السوفيتي سابقا وماآلت اليه الاوضاع بعد تفككه الى كيانات عدة خير شاهد على ذلك حيث عاد كل كيان الى كينونته الاصيلة بكل ماحملته من تاريخ ودين وثقافة تجسد هويته التي لم يستطع الكيان المفروض عليها بالقوة ان يمحيها رغم الاشتغال بكل مااوتي من ايدلوجيا على طمسها وهو مدعاة للتأمل لكل لبيب يخرج عن جادة الفطرة الانسانية في التكوين والحياة … !! الجنوب والهويات المتناثرة : في التشكل الجغرافي الجنوبي منذ نهايات القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين تكونت خارطة الجنوب السياسية على مفردات متعددة كانت لها من الظروف والملابسات التاريخية والثقافية مالها وهي بذات الاتجاه حينها قولبت بقوالب قبلية اجتماعية مغلفة بهويات متعددة تبعا للمكون السكاني لها وان إجتمعت على خطوط عريضة في الهوية العامة من حيث الجنس والدين وهي خطوط تتشابك فيها مع كثير من مناطق الجوار التي تتقارب في هذه الخصائص وتتباعد سياسيا … وقد شكل ذلك اشكاليات عدة في نسج وشائج العلاقات الندية فيما بينها علاوة على علاقات التصارع بين المكونات السياسية الجنوبية. من هذا المنطلق ووفق هذه الرؤية يمكننا قراءة التعدد الهوياتي بالمفهوم الضيق في تشكلات النسيج الجغرافي بين المكونات السياسية الجنوبية بكل إفرازاتها وتشظياتها الملتهبة والتي افضت الى ماهو عليه حالها بعد الاندماج … فكل تلك السلطنات والامارات والمشيخات الباسطة نفوذها على خارطة الجغرافيا الجنوبية كانت لها من الخصائص ما يجعلها في تقوقعها على نفسها وانكماشها خوفا من الاندثار ان تكون لها هوية خاصة بها تحاول ان تكون مغابرة حتى لاتؤخذ بجريرة التبعية التي تفقد نخبها الحاكمة نفوذها مما يثير فيها الذعر والخوف من فقد مصالحها وهي بذلك تقزم هويتها وتجعلها في دائرة اضيق تلافيا لدعاوي الضم والالحاق من لدن الآخرين … فتكون لديها بأرث تاريخي تراكمي جملة من السلوكات الحاكمة التي ربما ذهبت مع الزمن مذهبا مغايرا أخذ طبائع التفرد بشيء من الخصوصية التي اضيفت لها فكونت ملامح هوية جديدة لذاتها … وعلى هذا المنوال نحت كل هذه المكونات ذات السلوك وان اختلفت في الحواضن المساعدة لها من حيث البيئة وظروف التكوين ومحملات السكان الثقافية التي لم ترعها الدولة المركزية في الجنوب عند قيامها بعد ذهاب الاستعمار حيث نظرت الى ذلك على انه احد اسباب الضعف لا القوة لها وهي بذلك ارادت بسط النفوذ القسري حتى على المتغير الثقافي والثابت التاريخي … فغيرت حقائق التاريخ وابدلت الثقافة بثقافة وافدة غريبة على جغرافيا المكان مما ولد حالة اغتراب قاسي في الذهنية الجنوبية ونقلها من حالة التشردم الهوياتي الى حالة الاغتراب في الهوية الوافدة .. وهو ما عانى وسيعاني منه الجنوبيون لفترات طويلة ربما شكل البحث عن القواسم المشتركة لعديد الهويات عنده وماتداخل فيها مما هو وافد يعطي لنا مدخلا جديدا في ماهية المكونات للهوية الجديدة . الجنوب … والهوية الواحدة : لقد جرب الجنوبيون خطف هوياتهم القسري ابان الحكم الشمولي حتى 1990م… وجربوا بعدها طمس معالم جغرافيتهم فضلا عن هويتهم منذ يوليوعام1994م ولازالوا تحت طائلة هذا الطمس المتعمد حتى هذا التاريخ مما دفع بهم الى التفكير مليا بإستعادة جغرافيتهم التي مابرحوا يناضلون من أجلها منذ لحظة الطمس المتعمد بحرب ظالمة كانت سببا في التفكير مليا عن طريق قنطرة الهوية أي بمعنى آخر ان يجعلوا من الهوية رافعة لنضالاتهم السياسية وهم بذلك يحاولون جاهدين لتحويل المعركة الى معركة ثقافية بإمتياز…فهل ياترى قادرين على ادارة هذه المعركة بنوع مختلف من السلاح الثقافي …؟! لعل اولى التحديات التي تواجه الجنوبيين في هذه المعركة هي كيف لهم يعيدوا انفسهم ويعدونها الى حالة الهوية الواحدة… بعد كل هذا الفعل التراكمي السياسي التي مرت به منطقتهم على مراحل غير متدرجة شهدت في تغيراتها انقلابات سريعة وعاصفة ومرت بمطبات خلقت معها حالات اهتزاز في البنى الفكرية المعرفية مما خلق لديها ارباكا وتشويشا في القراءة الحالية لما هو حادث بعمق وإتكاء تاريخي جيدين … والملاحظ في الارباك في اتخاذ مواقف موحدة في مسمى مشروع دولتهم القادمة ودعوات البعض للعودة الى عصر السلطنات والمشيخات بطرق او باخرى ورفض النكوص الى ماقبل 22مايو 1990م … ثم تفكير البعض في البحث عن حاضن تاريخي ماضوي للدولة في اطار هذه الجغرافيا …كل ذلك مدعاة للتأمل لما هو فيه الجنوب من حالة التشويش المبكر للقادم…وكل مايمكننا اليوم قوله في هذه القراءة ان الاقرار بخصائص التنوع والتعدد للجغرافيا الجنوبية ليسا عيبا البتة وعلى بساط التفكير هذا يمكننا ان نستوعب قرائيا دروس التاريخ جيدا… فالسؤال الملح والجوهري الذي يفرض حضوره وبقوة في هذه اللحظات التاريخية الحرجة من التشكل السياسي بنمط هوياتي سيعى جاهدا للتوحيد مفزا عناصرا الالتقاء ونابذا كل ما يمت بإشكاليات الخلاف لا الصراع من خلال التفكير السوي في مشروع واحد للهوية قائم على التنوع كمفردة حميدة ومرتكز اساسي طارد لكل انواع التشكيك للاندماج على قاعدة الشراكة السياسية الموحدة والجامعة للتنوع الاجتماعي من خلال القراءة الواعية للواقع مما يبعد كل وساوس السياسه في انماط الحكم المتعددة .. اذن من هذا المنطلق يجب التفكير وبصوت عال ومدروس في كيفية ايجاد وخلق الروابط والقواسم المشتركة لهذه الفروقات الثقافية الاجتماعية لتكوين مايمكن تجاوزا تسميته الهوية الواحدة المركبة تلافيا وتجاوزا لكل المطبات التي عانينا منها في مراحلت خلت من تاريخنا السياسي في الجنوب ولازلنا نكتوي بمعاناتها حتى اللحظة . هذا اذا كان هناك اجماع على عدم وجود هوية جنوبية موحدة بالمعني العلمي الاصطلاحي للهوية … لان البعض يخلط بين المكون السياسي للجنوب الموحد بعد الاستعمار وبين الهوية اذ المكون السياسي هو المرادف للهوية وهومايتنافى مع حقيقة معنى الهوية وبدون ازالة هذا اللبس يتعذر علينا حل القضايا الجوهرية في التعاطي مع الهوية الجنوبية المركبة واحترام تنوعها الايجابي … من خلال ذلك يمكن الاشتغال على الجبهة الثقافية كمنطلق وحيد لايجاد المشتركات الرئيسية في خلق هذه الهوية وهو مايقودنا كما اسلفنا الى المعركة الحقيقة لمواجهة تحديات تكوين دولة الجنوب . الخلاصة : السؤال الملح الآن … هو الى اين يتجه الجنوب الآن ؟ على قاعدة الفهم الاشكالي المغلوط لمعني الهوية ..!! لازال الارث السياسي القديم يجرنا اليه في التفكير والتصرف … ولازالت نخبنا المثقفة تعاني من ويلات التبعية المقيتة للسياسي … فضلا عن امتطاء المثقف صهوة السياسة وهو ما خلق ازدواجية فعل وقول في الدائرتين معا الثقافية والسياسية وخرب العلاقة التكاملية المفترضة بين الثقافي والسياسي القائمة على الندية لا التبعية … فالتفريق ضرورة ملحة .. كتفريق مفاهيم يؤخذ مها المثقف دوره الريادي في التأثير الايجابي على سيرورة العمل السياسي في طريقه الصحيح … فلا خيار للجنوبيين في معركتهم الحالية التي يديرونها للاسف الشديد بطرائق تقليدية قديمة وخالية من مضامين جوهرية تخليقية لشيء جديد قادم يستوعب كل التطورات داخليا وخارجيا … وهو مايمكن ان ينتج تشوهات خلقية في الجنين الذي يتخلق في هذه البيئة غير السليمة التي تكاد تمتد تاثيراتها تجاوزا الى الام الحاضنة له . ان القراءة المتانية للهوية المركبة للجنوب وعكس خصائص مركباتها في التكوين السياسي القادم هو المفتاح والمدخل لحل جذري للقضية وبدون اشتغال عليها من منطلقات ثقافية تعكس سياسيا … فذلك مضيعة للوقت والجهد المبعثر معا . أكرم أحمد باشكيل حضرموت / 9 نوفمبر 2011م [email protected]