لأول مرة ألتقي به وأستمع له, كنت سابقا إما أن أسمع عنه من بعض الأصدقاء أو أقرأ له, وكل ما أعرفه عن نشاطه أنه أستاذ جامعي, شاعر ولا أدري إن كان بارعا بالأدب أم لا, كان أحد أعضاء مجلس حضرموت الأهلي, وعرفت انه كان من المتحمسين له في بداية تشكيله, ثم غاب عنه أو استقال منه, يشغل ألان رئيس تكتل (مثقفون من أجل جنوب جديد). هذا هو الدكتور سعيد الجريري بالنسبة لي, لم أهتم كثيرا بما ينشره سواء من مقالات أو قصائد وأشعار, أي أني لم أكن حريصا بحيث أقرأ كل شيء يصدر عنه, ليس لموقف ما عندي, ولكن هذا ديدني مع كل ما يصدر على الإعلام الالكتروني, ولكن ربما قرأت مقالا هنا وآخر هناك, شأنه شأن كثير من الكتاب الذين أمر عليهم. لم يكن يمر بخاطري يوما ما أني سألتقي به, لأني كنت أظن أن لكل منا دروبه وأوديته التي يسلكها وفق رؤيته وتصوره, والحياة طريق طويل تسير عليه كتل بشرية نلتقي ببعضها, ويغيب عنا بعضها, حتى يصل كل منا لنهايته. اللقاء كان صدفة ولم يكن مبرمجا عندي, وحتى هو أيضا في اعتقادي, وكانت لحظة قدومه ل(نجد), للمشاركة في معرض الكتاب الدولي لهذه السنة 2013 بالعاصمة الرياض, بدعوة من وزارة الثقافة والإعلام السعودية بصحبة مجموعة من زملائه من جامعة حضرموت وهم الدكتور خالد بلخشر والدكتور عبدالله الجعيدي والدكتور رزق الجابري, وجميعهم لم ألتق بهم من قبل, وهي بادرة جيدة من الحكومة السعودية لأبناء حضرموت, شاركوا خلال هذه الزيارة بعدة ملتقيات على هامش المعرض, كما كان نَفَسهم الحضرمي حاضرا في بعض الملتقيات الثقافية والأدبية التي تكتظ بها مدينة الرياض, مثل منتدى ثلوثية الدكتور عمر بامحسون, وندوة الوفاء للشيخ أحمد باجنيد, وندوة الجاسر, هذا ما تنامى إلى علمي, وقد حرصت على حضور فعالية منتدى ثلوثية الدكتور بامحسون, لكثرة تردادي عليها, وقد تناولتْ محورين اثنين: ثقافة التسامح عند الحضارمة المهاجرين في الشرق الأفريقي للدكتور رزق الجابري, ثم علق على ورقته الدكتور خالد بلخشر, ثم الورقة الثانية للدكتور عبدالله الجعيدي حول صحيفة الطليعة للأستاذ أحمد عوض باوزير –رحمه الله- في ستينيات القرن الماضي, وعلق عليها الدكتور سعيد الجريري. كانت أمسية رائعة جدا, فقد تشنفت آذاني بالصوت الحضرمي في نجد, وطاف على خاطري عبق حضرموت الزكي. وبعد أيام قلائل تلتها دعوة أخرى في ذات المنتدى تحت عنوان ( الحراك السياسي الدائر في الجنوب وموقع حضرموت فيه) للدكتور سعيد الجريري, ولما وصلني عبر رسالة جوال؛ السيد الوقور المحترم (الإعلان), فرحت به وكأني وقفت على كنز مغارة علي بابا, طرت فرحا وشوقا, لأمرين: لذات الموضوع لأنه يمثل قضية وطنية مهمة صحابها لغط كثيرا, وثانيا: لذات المحاضر, فعندي ما أقوله له. كنت حريصا على الحضور, مهما كانت الظروف, ولو فوّتُّ على نفسي بعض الأعمال الخاصة التي قد تحول بيني وبين الحضور, فالموضوع يستحق الحضور, وسيفتح بابا بل أبوابا من التساؤلات والمناقشات والأخذ والرد, بحجم الأخطاء والمخاوف والغموض الذي يحيط ببعض جوانب الحراك الجنوبي, وكنت فعلا جهزت حقيبة أسئلتي, وحزمت أمتعتي التي تخص رحلتي هذه لجزيرة الحراك, ثم توجهت بصحبة عزيزين على قلبي, عزمت أن أضع رحلي بين يدي الدكتور, وأقول له (خذها وأنا ابن العواتك) ولن أعود بخفي حنين قطعا, هكذا كانت خططي تلك الليلة, بينما الغيب يخفي تدابير أخرى, وصدق الأثر غير الصحيح مسندا ( يابن آدم أنت تريد وأنا أريد ولا يكون إلا ما أريد), لم ألق بالا إن كانت تساؤلاتي تحمل شيء من الصراحة والجرأة, كما أيضا لم أكترث إن كانت ستغضب الدكتور أما لا, وليس غرضي الاستفزاز أبدا, ولكن كل ما يشغلني هو أني سأبوح بما في نفسي تلك الليلة. كنت على يقين أن غيري لديه حِمْلَه, ويريد من يخفف عنه, فهنا في المهجر صدور تحشرجت بمكنونها, وضاقت بها التساؤلات والاستفهامات, واعترى الفكر حالة من التيه والحيرة, وحدث للرؤية غمش, وحارت العقول بين ما ترى وتسمع, خاصة أن المحاضر قادم من أرض الحدث, وفي ظني وحسب ما اعتقده أنه من أهل الدار ( الحراك) هكذا هو تصنيف الدكتور عندي. ولكن تفاجأت لحظة بدء المحاضرة أنه تم تغيير عنوان المحاضرة إلى عنوان آخر بعيد كل البعد عن ما جئنا لأجله, همست لأحد المنظمين, هل غيرتم الموضوع؟ أشار لي برأسه أن نعم, وكان العنوان البديل ( انطباعات الضيوف عن معرض الكتاب),أدركت فيما بعد سبب هذا التغيير. تحدث الحاضرون وغاب الدكتور رزق الجابري, وكل أدلى بانطباعاته عما رأى وشاهد, وأشادوا بالمعرض, وإلى هذه اللحظة والرياح تمشي بما تشتهي السفن, الهدوء التام, والأمن مستتب, والحركة انسيابية, وغمرة القيادة تدير الأمور باحترافية تامة, ولكن أنى تسير الأمور كما تريد, وقد حضر الحاضرون لموضوع غير المعلن للتو, ويكفي لإشعال الفتيل شرارة صغيرة, تفجر القاعة وتحرف المسار رغما عن راعي الأمسية, وقد جاءت هذه الشرارة من شخصية أظنها كانت غريبة عن الجو العام في تلك اللحظة, وفي اعتقادي لم يكن أحد من الحاضرين يسير على نفس ما تسير عليه هذه الشخصية, فكان من قدح الشرارة الأستاذ عبدالله باوزير, القيادي المؤتمري المعروف بالمحافظة ومن المدافعين بضراوة عن المخلوع صالح وسياسته, في كتاباته ولقاءاته, قدم مداخلة لم يأتي فيها بجديد على ما يطرحه ويدعو إليه في مقالاته, وهو ما استدعى الرد من قبل الدكتور الجريري, حيث طاف من بعيد – بأَدَبٍ جَمٍّ – على مداخلة باوزير مفندا بل مقوضا عروشها, بطبيعة الحال لم يكن لكلام الجريري قبولا لدى باوزير, ولكن لم يتح له الرد لضيق الوقت, ومن هنا انحرفت الدفة قليلا, ولكنها ظلت تصارع حتى لا تبتعد كثيرا عن مسارها. ما أثار التساؤل عندي إجابة الدكتور الجريري عندما سئل عن تكتل ( مثقفون من أجل جنوب جديد), أثقافي هو أم سياسي؟, حاول الدكتور مع بلاغته وذكائه وتوظيفه حتى للنحو أن يقنع الحاضرين وأنا منهم بأن مشروعه مشروعا تجديدا مغايرا, وأنه من أجل عودة حضرموت لصدارتها ومكانتها, هنا بدت علامات التحير والاستفهام لدي, لم يكن الإسهاب مقنعا فعلا, ولم تسعف الفصاحةُ الدكتورَ أن يجلي الحيرة التي تملكتني, وشعرت أنه كمن يشرح ثلاث كلمات بعدّة لغات, ليوصلك لفكرته, كان كلامه مفهوما ولكنه غير مقنع, أو بالأصح غير منطقي من جهتي, أراد أن يهرب من الجنوب الحالي إلى جنوب جديد, بدون آليات محددة, استعان بالنحو ليشرح لنا ما هو جنوبه الجديد الذي نكّره ويسعى له, ولكن فيما بعد اتضح أنه جنوب ما قبل 90, إذا ما هو الجديد لدى الدكتور؟, لم أفهم!! سألته: وحضرموت يادكتور ؟ أجابني ولكن هذه المرة لم يستعن بالنحو بل استعان بالعقار وهي بدعة جميلة, وقال:( أنا أكره العقار لهذا أن أسكن بالإيجار), وقال أن حضرموت لا تملك وثيقة معترفة من قبل جهات الاختصاص ويعني بها الجامعة العربية والأمم المتحدة أي أنها تملك استمارة, وان الدول التي تعاقبت عليها مثل القعيطية والكثيرية لم تملكان تعريفا من جهات الاختصاص, وإنما كانتا تحت الوصاية البريطانية, ودولة الجنوب- الشعبية – تملك الوثيقة القانونية المصدقة من جهات الاختصاص, وبالتالي فاسترجاع الأرض الموثقة أضمن من استرجاع الأرض ذات الاستمارة. وفات الدكتور أن الجنوب الذي كان يرنح تحت نير الاستعمار البريطاني لم يكن يملك حينها وثيقة ولا استمارة, ومثله كثير من بلاد الله, حتى في قرننا الحالي, والذي يعتبر قرن التغيير الشعبي. وأن الذي أحيا القضية الجنوبية هو الشارع الجنوبي, مثلما أطاح الشارع بعتاولة الأنظمة القمعية المستبدة. هذه هي خلاصة حزورة الدكتور. - ولكن ما هو الغطاء السياسي لكم؟ أجابني لا يوجد لنا غطاء سياسي. - أنتم رميتم بحضرموت في أحضان الجنوب؟ أجابني ثلاثة أرباع الجنوب من حضرموت نحن نسعى لنستعيد حضرموت من خلال الجنوب الذي يملك وثيقة. - لكن الجنوب لازالت تقوده القيادات السابقة, أجابني لن يحدث هذا لأن الحال تغير عما كان عليه سابقا. كان الوقت قد تأخر وتفرق الناس, وكل هذا الحوار الذي دار بيني وبينه كان بُعيد انتهاء الأمسية, وفي المساحة مابين القاعة وحيثما تربض سيارتهم , وهي بضعة أمتار. لم يكن حوارا مستفيضا, لضيق الوقت وكثرة الراغبين في أخذ الصور معه ومع زملائه. وذهب كل منا لحاله بما يحمله في صدره لحضرموت, صحيح أننا لم نتفق على صيغة ومشروع واحد, ولكننا اتفقنا على حب حضرموت وأنها لابد أن تكون حضرموت بحجمها وحجم أبنائها, وضرب لي الدكتور بلخشر مثلا بالمسجد الذي يجاور فيلا الدكتور بامحسون, قائلا ممكن أنت تجئ له من طريق وأنا من طريق ويكون مقصدنا واحدا. وغاب عن ذهن الدكتور بلخشر أنه ليس كل الممرات القريبة من المسجد يمكن أن تؤدي للمسجد. سررت كثيرا بالتعرف على الدكتور ومن معه, وخاصة الدكتور بلخشر, وكانت الدقائق القصيرة جدا, أعطتني صورة موجزة عن الدكتور الجريري, وانطباع جيد وبصريح العبارة فقد أعجبت بسمته وتواضعه, وطرحه, كانت شخصيته كارزمية, تجذبك إليه, وتجعلك تحترمه, وتميل لكلامه, بليغ وسلس في عرضه. ومع كل ذلك أقول لا زلت لم أقتنع برؤيته وكلامه, مع جمال طرحه وشرحه, وكم تمنيت لو سلك مسلكا حضرميا خالصا بعيدا عن جنوبه الجديد الذي لازال يترنح تحت وطأة الحرس القديم المتربع على عرشه, مما يجعل كل من يستمع للدكتور الجريري يسأل ماذا ستصنع بدهاقنة الجنوب القديم الذين يتربصون به من كل مكان يا سيادة الدكتور؟؟ شكرا للدكتور الجريري ومن معه, وأسأل الله أن يوفقنا جميعا لصلاح حضرموت خاصة والأمة الإسلامية عامة.