لقد أكثرنا سكب الدمع على أطلال دولة حضرموت, ودخلنا في نزاعات ومشاجرات جانبية حول الحدود التاريخية للدولة الحضرمية وما حقيقة مداها الجغرافي, وطال الجدال في ذلك والسجال, ولم نكتف بأن شغلنا أنفسنا بحقيقة تاريخية لا نستطيع أمامها إلا مجرد التوثيق لا غير, بل وأشغلنا في ذلك جيلنا الجديد, وجعلناهم يدخلون الدائرة المغلقة ويخوضون معمعتها حتى تكون خاتمتهم كخاتمتنا تماما وهو الجدل البيزنطي. وفي المقابل أن الركون لهذا الوضع الحالي والراهن والرضا به, وأن تظل حضرموت مرهونة بالنزاع السياسي الدائر بين خصمي الأمس وشركاء اليوم وهما قطبا النزاع في المنطقة, الجنوب والشمال, وأن تمثل –حضرموت- حالة العارية التي تتنقل من يد ليد ومن جيب لجيب, لا شك أنه واقع مرفوض تماما وغير مقبول على نطاق واسع داخل الرقعة الحضرمية. وإذا كان آباؤنا وأجدادنا قد رضوا بهذا الحال واستسلموا له فيما مضى, وكذلك شطرا من حياتنا نحن أيضا, فذلك لأسباب وملابسات وظروف لا تخفى على أحد, هي من جعلت هذه الحال تستمر ليومنا هذا, أما الآن وبعد أن اهتدت الشعوب لطريق الخلاص وكسر القيود, وبدأت تثور على الظلم والإلحاق والضم والجرجرة, وتتحرر من سياسة تكميم الأفواه وتكبيل الأيدي, ولم تعد تخشى مداهمات الفجر وعمليات التغييب, نعود نحن ونطالب بالعودة للماضي ونطلب ذات العباءة, هذا التغفيل ذاته الذي أخرج أولئك النفر في مسيرة حاشدة تهتف ( تخفيض الرواتب واجب ), إنه الانتحار عينه, فينبغي على النخبة الحضرمية أن ترتقي في خطابها وأن تصفيه من ترسبات تلك المرحلة, وترسم طريقا جديدا بعيدا كل البعد عن الهيمنة الجنوبية الشمالية للقضية الحضرمية. من الظلم العظيم بل من الخيانة الكبرى للشبيبة الحضرمية, أن نورّث لهم لوثات مرحلتي الاشتراكية والوحدة, وبأن الصواب دائما؛ هو ما يفرضه الواقع الجنوبي أو الشمالي علينا, وأن الانطلاقة الشبابية والتحرر من هذه الكنتونات الفاشلة (الجنوب والشمال ) ليس من الخيارات المتاحة حاليا, ولا بد لحضرموت أن تدخل العباءة الجنوبية أولا حتى تحقق أهدافها, إن مثل هذه اللغة ما هي ألا نوع من التخدير والتغفيل حتى نقع في مأزق مازوتي لعين وهو ما يسمونه دولة الجنوب الجديدة. فإذا كنا اليوم نكابد ونقاتل من أجل الفكاك من الشمال ولم نصل بعد, فكم نحتاج من الوقت حتى نتحرر من المازوت الجنوبي. هذا الخطاب النخبوي والذي تتبناه كثير من النخب الحضرمية هو مساهمة في اجترار الواقع المرير الذي عاشه آباؤنا وأجدادنا وتكراره مع شباب حضرموت حتى نظل داخل الطابور الجنوبي عشرات السنوات دونما فكاك كما كنا من قبل. إن مشروع حضرموت الجديد ليس هو مشروعنا بل هو مشروع أبنائنا الشباب وأحفادنا, هم من سيتولون قيادة دفته, إذا نحن فعلا حررناهم من تبعية الجنوب أو الشمال, ولم نضع المطبات في طريقهم, ورسمنا لهم خارطة طريق صحيحة سليمة وبعيدة عن قبضة الجنوب والشمال, وأخرجناهم من وجع ودوامة الحدود التاريخية, ووضعنا أيديهم على الواقع المتاح الماثل بين أيديهم وأنه الأيسر والأمكن, هذا خير من أن يجروا خلف تاريخ غابر بينما المستقبل يرسمه لهم أولئك الجنوبيون أو الشماليون. في الوقت الحاضر لا نريد حضرموت الكبرى من باب المندب إلى ظفار, لماذا ؟ لأنه ضرب من الخيال ونوع من التغفيل والتسطيح والسفه, ولا نريد أن نرغم غيرنا ممن كان تحت لوائنا قبل أكثر من خمسين سنة, بأن يعودوا للخيمة الحضرمية, بعد أن استقلوا منها وابتعدوا أو ابعدوا عنها, لأننا سنقع في نفس مطب الضم والإلحاق الذي ظللنا سنوات نئنُّ منه ونشتكي. نعم, لا نريد أن نجبر أهل شبوة والمهرة وغيرهم أن يكون تحت الرداء الحضرمي إذا هم لا يريدون ذلك. وكل ما نريده الآن هو الممكن والمقدور عليه وهو: حضرموت الحاضر بحدودها الحالية المعروفة في النظام اليمني الحالي, والتي تعرف حاليا ب (محافظة حضرموت ) هي ما نسعى لها وننشدها, وليس تاريخا غابرا لم يعد له مكانا, وليس معنى هذا أننا نتنكر لغيرنا طالما أننا نؤسس لمجتمع يحترم أراء أفراده وخياراتهم. هذا خير لنا من أن نظل نتناحر على حدود الرقعة التاريخية ونحن نعلم أننا لا يمكن بحال من الأحوال استعادتها اليوم. فهل سيذكر التاريخ يوما أن الحضارم دائما ما يفضلون ارتداء عباءة غير عباءتهم, وأنهم ماهرون في صناعة المطبات أمام مشروعهم, وأنهم نادرا ما يستغلون الفرص لصالح أجيالهم. هل ستتحرر النخبة الحضرمية من هيمنة المازوت الجنوبي والشمالي وتعود لجذورها؟؟