الثورات التي اندلعت في العالم العربي مؤخرا جاءت بعد حقبة من فساد السلطان و تغول السلطات واكبر هذا التغول هو الافتئات على إرادة الشعوب في تقرير مصيرها ورسم ملامح مستقبلها..فأهدرت الكرامة الإنسانية وصودرت تطلعات الشعوب لحساب مصالح قلة حاكمة مسيطرة على السلطة ومستحوذة على الثروات والمقدرات ,فغابت التنمية الحقيقية أو كادت, وعلى مختلف أشكالها –ملكية وجمهورية –كانت النظم السياسية في المنطقة عاجزة عن مواكبة ركب الحضارة المعاصرة في شتى العلوم الإنسانية والتطبيقية ,بل عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الحرية والعيش الكريم لشعوبها.صحيح أن النخب والأسر الحاكمة كانت تتحمل القسم الأكبر من أسباب الفشل من حيث استشراء الفساد واستمراء الخنوع أمام التحديات التي كانت ولا تزال تهدد كيان الأمة العربية الإسلامية وفي المقدمة منها دولة الكيان الصهيوني الغاصب.إن الحضارة الإنسانية من حولنا أنتجت من وسائل الإدارة ونظم الحكم المعاصرة ما مكنها من تجاوز انكساراتها عندما تحررت فعلياً من عقدة الحاكم المقدس والسلطان المستبد .ووسعت من دائرة حرية الشعوب في حق الاختيار وسيادة القرار.كنا في الحلقة السابقة قد تعرضنا لشئ من تجربة الولاياتالمتحدةالأمريكية في اجتراح فكرة الاتحاد لتفادي صراع الولايات على النفوذ والثروة نهاية القرن السابع عشر..وكيف أن هذا النظام الفيدرالي صار حلا نموذجيا لتوزيع السلطة والثروة ليصنع تنمية محلية شاملة من جهة ..وتوجيه كل الجهود القومية لتشكيل القوة الاقتصادية والسياسية الأكبر في العالم من جهة أخرى..لكن هذا النظام الإداري والسياسي لم يفرض بالقوة على الولايات التي كانت ترى لكل منها خصوصيتها وتستميت في الدفاع عن ما تعتقد إنها سيادة وطنية في مواجهة السيادة القومية الأوسع والأكبر..وضربنا مثال على ولاية نيويورك وما كان فيها من جدال طويل بين مؤيدي الفيدرالية ومعارضيها..وهو ما يشبه الجدال اليوم في اليمن بين الرؤى المختلفة لشكل الدولة القادمة والنظام الأفضل لإدارة الموارد وتوزيع السلطات..وحينما نكتب في هذا الموضوع في هذا التوقيت بالذات,نحاول المساهمة في التنوير بما هو في اعتقادنا خيارا –من بين عدة خيارات أخرى بالتأكيد- لإخراج البلاد من دوامة الصراع المحتدم حول السلطة والثروة ..وفي المقام الأول وضع أهلنا في( الإقليم ) الذي نعتقد انه مؤهل أكثر من غيره لتوفير بنية مناسبة ومناخ ملائم لتنمية حقيقية وعامل أمان لليمن واستقرار للمنطقة المحيطة في الجوار.وفي الحلقات القادمة يمكن الحديث عن الخلفية التاريخية والجغرافية .والمعطيات الجيوسياسية لهذا الإقليم ومقومات نجاحه ونناقش كل التخوفات والأسئلة الملحة –المعقولة والمتوهمة- ومنطلقنا في ذلك أن الإرادة الشعبية فوق كل الاعتبارات الضيقة والمصالح الانية لكنها الإرادة المستنيرة والحرة ..وكلنا ثقة أن ما يملكه هذا الجزء الحبيب من الوطن الغالي من تراث ثقافي وعمق حضاري وتاريخ وطني مشرف في الكفاح والنضال كفيل بضمان تحقيق حسن الاختيار عن علم وبصيرة .