في الثمانينيات من القرن العشرين كانت ثلة قليلة تعرف عن أشياء يقال لها أحكام الميم والنون الساكنة والممدود والقلقلة والإظهار والإخفاء والإدغام، ولو سألنا في مسابقة من هو حفص أو عاصم أو ورش أو متن الشاطبية أو الجزرية لما نفعنا الاستعانة بصديق ولا حذف إجابتين ولا رأي الجمهور في معرفة الإجابة، فقد كان وقتها علم التجويد علم نخبة لا يعرفه حتى بعض خريجي الشريعة! وكان العامة يحبون قراءة الشيخ عبد الباسط عبد الصمد رحمه الله، ويظنون أن طريقة قراءته في التطويل والتقصير والغنة والمد موهبة وأسلوب شخصي ميزه الله به دون غيره من المقرئين، وإن كان له فعلا تميزه الذي لا يُنكر! كان أغلب الناس يقرؤن القرآن ويحفظون منه دون أن يبلغوا المهارة التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث 'الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة' ولم نمارس الترتيل الذي ليس تلحينا وصوتا جميلا بقدر ما هو اتباع أحكام وتلاوة بطريقة يعود سندها الى رسول الله، ولذا كان من جزاء المرتل في الدنيا الارتقاء في الآخرة في درجات الجنة بكل آية يقرؤها. في ظل هذا الجهل بأحكام قراءة القرآن تداعت ثلة خيرة من أبناء الأردن في أوائل التسعينات لانشاء جمعية المحافظة على القرآن الكريم التي لم تكن كتّابا لتحفيظ القرآن ونشر علوم القراءة، بل قامت رؤيتها ورسالتها على أن القرآن منهج حياة ليس محصورا بدفتي مصحف ولا في ساعة قراءة أو دراسة وإنما هو صلاة ونسك وحياة وممات كلها تنبعث من هذه المعجزة الإلهية الخاتمة، هو حروف تُقرأ وحدود تُطبق. و قد عملت الجمعية على بث الثقافة القرآنية وتيسير تعليم القرآن طاعة لله وخدمة للوطن والأمة وتفاعلت مع تطورات العصر فحرصت على توفير بيئة محفزة لحفظة القرآن على العطاء والإبداع في المجتمع خارج إطار الجمعية، ووعت الجمعية أهمية جيل الشباب وخطورة وقت الفراغ فحرصت على توفير برامج ومراكز مستمرة على مدار العام ومكثفة في أوقات العطل تجمع بين تقديم علوم القرآن وتفعيلها في علوم الحياة مستنيرة بما ورد عن ابن مسعود من تميز قارئ القرآن إذ قال 'لا ينبغي لصاحب القرآن أن يلغو مع من يلغو أو يلهو مع من يلهو، وينبغي لحامل القرآن أن يكون حليما حكيما لا صخابا ولا صياحا'. وكان للنساء، وبالذات ربات البيوت، نصيب وافر من مشاريع الجمعية وحصلن على شهادات متقدمة في علوم التجويد، وحفظت بعض الحاجات الأميات من كبيرات السن والقدر كتاب الله سماعا وتلقينا. وعندما نعلم أن فروع الجمعية زادت لتصبح أكثر من 36 فرعا في أنحاء المملكة وأكثر من 400 مركز للتحفيظ، نفهم أهمية المبادرة في عمل الخير وتحويل الأقوال الى أفعال والصدقة الجارية التي تصل الى القائمين والعاملين مع كل آية تتلى وحكم يطبق وحافظ عامل يتخرج، وهذه الفروع ليست غرفا مغلقة لشيخ بعصا غليظة، وهي الصورة المغلوطة النمطية التي تروجها بعض وسائل الإعلام لشيوخ الدين، وإنما معلمون ومعلمات أفذاذ بوجوه مبتسمة وقلوب مفتوحة ترى في علمها أجرا وثوابا قبل الأجرة والوظيفة. ولقد أصبحت بعض المراكز تجمع بين نبل المضمون وجاذبية الشكل والبيئة التعليمية وهذا ما أحرزه فرع ريماس، ومعنى الاسم مفتاح الكعبة أو بريق الماس، الذي جعل شعاره 'نتألق بالقرآن' وعمل على تحقيقه من خلال تعليم الشابات علوم القيادة والحاسوب والمهارات الحياتية، بالاضافة الى توفير الصحبة الصالحة كل هذا جنبا الى جنب مع تعليم القرآن. على فضل المصحف الذي نفتدية بدمائنا، فإن آيات الله ليست فقط مصاحف وإنما بشر يعملون بهذا المصحف في واقع الحياة، ولذا وصف الرسول عليه الصلاة والسلام بأن خلقه القرآن، ووصف صحابته بكونهم مصاحف تمشي على الأرض، وفي عهده كان المصحف محفوظا في صدور الحفظة والصحابة ومكتوبا على الورق قبل أن يجمع مصحفا بصورته الحالية. كان المصحف بشرا يأخذ القليل من أي القرآن يحفظها ويعمل بها ثم ينتقل الى غيرها، وكان هؤلاء الحفظة هم علية القوم والمقدمين والقادة والسادة والأئمة. عندما يتحول المصحف الى بشر وعمل وحياة فهؤلاء لا يمكن حرقهم، عندما يتحول القرآن الى سياسة دولة تخرج كما في غزة كل عام أكثر من 24 ألف حافظ لن يستطيع أحد حرقهم، ولو حصل ذلك فنتيجته خلود كخلود أصحاب الاخدود، أو برد وسلام كما كان على الرجل الأمة إبراهيم عليه السلام، ولقد جاء في الحديث الحسن 'لو كان القرآن في إهاب ما أكلته النار' وقال في تفسير ذلك العلماء' اي لو صور القرآن وجعل في إهاب، وألقي في النار ما مسته ولا أحرقته ببركته، فكيف بالمؤمن المواظب لقراءته ولتلاوته'. وأما العهدة بالحفظ فهي ضمانة إلهية وليست وعودا بشرية تصدق أحيانا وقد لا تستطيع الوفاء بالوعد تقصيرا وضعفا وتخاذلا! د.ديمة طارق طهبوب [email protected]
" المقالات المنشورة في زاوية اقلام حرة لا تعبر بالضرورة عن رأي او توجه " حشد نت "