عندما يكون العالم العربي أمام مفترق طرق ثقافية ويكون السؤال عن جدوى الاهتمام الحالي بشعر البادية ومدى علاقته بتاريخ العرب حينها يجدر بمثقفينا القيام بمراجعة لكل ما نملك من تاريخ ورصيد معرفي لكي نختار مسارنا عن دراية ودراسة، ومثله عندما نؤمن أن العربي هو المحرك الأوحد الذي يحرك الوطن لا بفعل سبب وإنما من أجل هدف وغاية مستقبلية هو يقررها، سندرك عندها أن العربي لا يوجد له مكان خارج التاريخ لأنه صانع التاريخ وصانع التاريخ لا يكون إلا داخل التاريخ. ومن هو جزأ من التاريخ عليه أن يعرف التاريخ. ولعله من الحكمة إذا ما أردنا أن نتخذ موقفا ثقافيا مصيريا فمن المهم أن نتمكن من بناء منظومة فكرية ذات ولاء عقلي ونقدي للحاضر (المحلي والعالمي) تتداخل ولا تنفصل عن الولاء العقلي والنقدي للماضي لكي تساعدنا في صنع قراراتنا الثقافية المصيرية. وعند بحثنا عن مادة ذات شق دينامكي يتفاعل مع متطلبات الحاضر وشق آخر حميمي قادر أن يوقض فينا نخوة الماضي سنجد أن الأدب الشعبي العربي يمتلك هاتين الخاصيتين. ولما لأدب البوادي الشعبي من طاقة تشحن هويتنا وتثير مشاعرنا وتعزز فينا معاني انتمائنا يتطلب منا أن نتعرف و نتبين شيء من تاريخه. وعليه ستسعى هذه المقالة إلى خلاصة تثبت أن قصائد البادية فن عريق وقديم ملتصق بروح أمتنا العربية الذي نحن جزأ منه.
إذا فلندَع السؤال عن كيف ومتى ترك عرب البادية التكلم والنظم بالفصحى أن يكون السؤال الجهوري في هذا البحث. فعلى سبيل المثال ذكر أهل التاريخ أن عربية أهل البحرين وجل شرق الجزيرة العربية، منذ القرن الرابع قبل الميلاد، مثلها مثل عربية أهل العراق والشام وعمان قد تأثرت بعربية عامية كان يتحدث بها قوم يعرفون بإسم النبط. والنبط قوم من أقوام العراق. ثم وبدون علما أكيدا بزمن انتشاره حصل أن نطقت جميع البوادي العربية الملاصقة للنبط أو البعيدة عنها بعامية النبط. وقد كتب الأستاذ عبدالله بن محمد بن خميس في ظاهرة اعتماد بادية جزيرة العرب لهجة النبط (أي العامية البدوية) لقول قصائدهم: "إلا أننا نزعم أنه مضى زمن ليس بالقصير، صارع فيه البدوي هذا الدخيل (أي قصائد النبط) وتنكر له وأخيرا ألفه ثم تغنى به وقرضه" (1). كتابات أبن خلدون لا تخدم ما أشار إليه العلامة بن خميس من تسمية القصائد البدوية بإسم القصائد النبطية. التفت ابن خلدون (ت 1406م) إلى تفشي القصائد العامية بين العرب الجزيرة ولكنه سماها الشعر "البدوي" أو القصائد "الحورانية": "..وأهل المشرق من العرب يسمون هذا النوع من الشعر بالبدوي، وربما يلحنون فيه ألحانا بسيطة... ثم يغنون به، ويسمون الغناء به باسم الحوراني نسبة إلى حوران من أطراف العراق والشام" (2) . وخلافا للرأيين السابقين يرجح الأديب الكويتي السيد طلال المزعل أن دواعي إطلاق "نبطي" على شعر البادية العامي يعود إلى أن كلمة "نبط" مشتقة من "أستنبط". بمعنى أن لغة البدو العامية وشعرهم وليدة عملية استنباط من العربية الفصحى. ويحدد المزعل أن التحدث بالعامية البدوية بدأ بعد هجرة القبائل العربية موطنهم الأصلي، جزيرة العرب. وعليه فإنه ينفي أن يكون لإسم وادي "نبط"، قرب المدينةالمنورة، أي صلة بسبب التسمية أو أن يكون له علاقة بقوم الأنباط العراقيين أو بقبيلة "النبطة" السبيعية إي ارتباط بكلمة نبط (3).
وأقدم قصائد البادية-النبطية التي دونها لنا التاريخ تنسب إلى قبيلة بني هلال المشهورة التي هاجرت جزيرة العرب. (علما أن هناك بطون من بني هلال مازالت تقطن شرق الجزيرة العربية وعمان وأطراف البريمي، وأن بعض القبائل الداخلة في حلف "بني ياس" الإماراتية ينسبون إلى بني هلال). من أقدم هذه القصائد التي تعود إلى القرن الرابع هجري قصيدة الشاعرة "عليا" وهي تناجي زوجها البطل العربي المشهور أبى زيد الهلالي والتي رصدها ابن خلدون:
يا ركب يالي من عقيل تقللوا على ضمر شروى الجريد النحايل قولوا لأبي زيد ترى الوادي امتلى وترى كل شعيب من مغانيه سايل والله لولا البحر بيني وبينه جيته على عوصا من الهجن حايل
كما حفظت لنا ذاكرة رواة الشعر البدوي بعض القصائد القديمة التي تنسب إلى الشاعر الفارس أبي حمزة العامري (السبيعي) الأحسائي (ق. 8ه)، الشاعر راشد الخلاوي (ق. 10ه)، الأمير قطن بن قطن العماني (ق. 10ه). ويذكر الرواة أن الشاعر راشد الخلاوي (ويقال إنه الهاجري وليس الخلاوي) مع إبنه توجها إلى "حصن منح" قرب مدينة "يبرين" في شمال عمان قاصدا أميرها العماني قطن بن قطن الجبري في القرن العاشر الهجري، والسبب أن للأمير مكرمة سنوية يغدقها على الخلاوي يسميها العرب "الشرهة". فحصل أن اعتذر الأمير قطن من إكرامه تلك المرة فدار هذا الحوار الشعري بين الخلاوي وابنه أثناء العودة إلى الأحساء.
إبن الخلاوي: عنينا وعنيناك يا ناق فاصبري إلى بارق ما بض بالماء مخايله
فرد الأب راشد الخلاوي قائلا "لا" ثم أنشد: لولاه ما زارت عمان مطيتي ولا رقت رمل طويل شهايله مشروبنا من ماء "قطن" وزادنا وقصمانا هذي كلها من فضايله وأن شح اليوم عنا بنيله ذكرناه باللي مضى من فعايله
فلما سمع الأمير قطن الجبري العماني بنبل نفس راشد الخلاوي/(الهاجري) طلب عودته وأكرمه(4). عليه وفي ضوء رصيدنا الثقافي الممتد في جذور هويتنا العربية يجدر بنا ونحن نواكب التغيرات الإجتماعية، الإقتصادية والسياسية أن نوظف أدبنا الشعبي على خلفية فكرية لها ولاء للحاضر مقرونة بولاء للماضي.
1 - (ص79، الأدب الشعبي في جزيرة العرب). 2 - (ص 512، مقدمة ابن خلدون). 3 - (ص 14، ج1، الموسوعة النبطية الكاملة). 4 - صلاح الزامل (العدد 14814، جريدة الرياض)