من حق المعارضين في السودان، أو في أي بلد عربي وإسلامي، أن يجاهروا بمعارضتهم وان يعلنوا اعتراضاتهم وان يسعوا لتحقيق مطالب مشروعة يرفعونها، لكن من واجب هؤلاء المعارضين أيضا ألاّ يستخفوا بتقدير دور العامل الوطني المتصل بكرامة الشعوب واستقلالها في اذكاء عصبيات وطنية مضافة للقادة المستهدفين وقد باتوا رموزاً وطنية تمثل مشاعل تحدٍ لقوى تمادت في الازدراء والاستخفاف بشعوبنا وقضايانا وحقوقنا ومقدساتنا ومعالمنا. ومن حق أي معارض داخل السودان او على مستوى الامة ان يتمسك بالحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان إلى ابعد الحدود ولكن من واجبه أيضاً ان يحّصن دعوته للديمقراطية بالسياج الوطني والقومي كي لا يستخدمها أعداء الوطن كحصان طروادة لاختراق السيادة الوطنية وتمزيق وحدة المجتمعات وتدمير البنى وسلب الخيرات، فالديمقراطية تتحصن بالوطنية وتحصّنها في آن وأي خلل بالمعادلة يقود اقطارنا إلى ما قادت اليه بعض المعارضة العراقية بلدها حين رّوجت للاحتلال كطريق للديمقراطية فخسر العراقيون وطنهم على مذبح المحتل ولم يربحوا الديمقراطية وقد أصبحوا ممزقين بين اهل المحاصصة والفتنة الموزعين على امتداد بلادهم. ومن هنا أيّاً تكن الملاحظات التي يسوقها المعارضون في السودان بحق الرئيس عمر البشير ونظامه، وبعضها صحيح دون شك يحتاج إلى معالجة، لكن شعبية الرئيس البشير بعد ملاحقته من اوكامبو، المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية باتت أيضاً دون شك أقوى بكثير مما كانت عليه قبل القرار ألاتهامي في حقه. فالسوداني، كما العربي، الذي استمع إلى أنباء ملاحقة الرئيس البشير من البيت الأبيض ومن ادارة بوش بالذات، قبل سماعه من المحكمة الجنائية الدولية ذاتها،( رغم أن الولاياتالمتحدة ليست موقعة على اتفاقية روما المنشئة لهذه المحكمة) لا يمكن أن يتعامل مع هذه الملاحقة على أنها أمر قضائي خالص، بل يرى فيها قراراً سياسياً صارخاً اتخذته إدارة احترفت ملاحقة كل نظام أو رئيس أو حركة تخالف سياساتها فيما دعمت أنظمة ورؤساء وحركات تمارس بالفعل من الانتهاكات أضعاف ما توجهه تلك الإدارة من اتهامات لانظمة او قادة لا يذعنون لاملاءاتها. والسوداني، ومعه العربي، الذي يرى صمت القضاء الجنائي الدولي عن جرائم كبرى ارتكبتها واشنطن في العراق وأفغانستان، وارتكبتها تل أبيب في فلسطين ولبنان، لا يصدق أن هذا القضاء حريص على أهل دارفور إلى هذه الدرجة بقدر ما هو مسيّس من قبل طامعين بثروات دارفور وخيرات السودان واستقلاله. هناك طرفة لبنانية معبّرة تقول أن قاضياً سأل متهماً: لماذا قتلت فلان؟ أجابه المتهم بسرعة: لقد شتم صليبي، فاستغرب القاضي وسأل مرة ثانية: ولكنك لست مسيحياً فما علاقتك بالصليب؟ أجابه المتهم على الفور: حين شتم لي صليبي كان يظن أنني مسيحي فقتلته. ولعل هذه الطرفة تفسر عصبيات كثيرة تولد داخل جماعات ومجتمعات وأوطان، قد لا تكون مفهومة تماماً، لكن المفهوم فيها دوماً أن الشعب يدرك بحسّه العفوي متى يكون وطنه مستهدفاً من خلال استهداف الرئيس أو الملك ومتى لا يكون. فكيف إذا كان السوداني، ومعه كل العرب، يدرك بحق أن المستهدف من خلال الرئيس البشير هو وحدة السودان وأمنه واستقراره واستقلاله وشرعيته وثرواته في آن، وان يدرك ايضا انه غير "مسموح" لهذا البلد الشاسع المترع بالثروات والموارد أن يعيش هانئاً هادئاً، وان يكون له رأيه الواضح في قضايا أمته وفي مقدمها قضية فلسطين. المعارضات الوطنية في البلاد العريقة في ديمقراطيتها تتصرف دائماً وفق قاعدة بسيطة وهي أن الخلاف طبيعي وضروري في شؤون البلاد الداخلية وحتى في سياسات الحكومة الخارجية، ولكن حين يتهدد الوطن خطر خارجي، او يظهر تدخل اجنبي، فالخلاف يصبح حينها ضرراً، والتناحر مخالفاً للالتزام الوطني البسيط. ولا يغير من واقع الأمر أن الإدارة الأمريكية "تغازل" اليوم، في المظهر، نظام الإنقاذ في السودان، فهي تعتمد هذه الأيام في السودان، كما في سوريا، وفي بلدان وأقطار عديدة سياسة الانحناء أمام العاصفة خصوصاً أن "عواصفها" الدموية المتعددة في المنطقة قد ارتدت عليها كما نرى في العراق وافغانستان وباكستان مروراً "بعواصف" حليفها الصهيوني الدموية الفاشلة جنوب لبنان وغزة هاشم في فلسطين.