لم تحتجْ العربيةُ إلى فن الشعر احتياجَها إليه الآن، فطغيان الفوضى السياسية وتنامي الإرهاب المتّكئ على مسوّغات دينية، وما نتج عنهما من تهديد لمنظومة قيم الخير والتسامح، أمران نزعم أن الشعر قادر اليوم على أن يكون سبيل الناس إلى تجنّب مخاطرهما، وإعادة تنزيلهما منازل الفتنة التي هي قتل لما تروم شعوبنا تأصيله في واقعها الاجتماعي من أخلاقيّات العيش المشترك. ولعلّنا واجدون في قصائد الشاعر اليمني محمد قاسم الحجاجي ما به يتأكّد القول بأننا محتاجون اليوم إلى الشعر، ومحتاجون إلى شعراء ينافحون عن قبيلة قِيَمنا ويدعمونها بوفير قِيَمهم. تنهض شعرية نصوص الشاعر اليمني محمد قاسم الحجاجي، ممثل اليمن في مسابقه شاعر المليون الذي يخوض منافسات تصفياتها الأخيرة في أبوظبي، على مخالفتها للبهرج اللغوي الذي يسم القصيدة العربية الحديثة، وعلى انصبابها الحادّ على الثيمات الاجتماعية التي تؤرق وجدان المواطن وتعبث بسكينة أيامه، إضافة إلى سعيها الجريء إلى مكاشفة الواقع بحقيقته: واقع تصول فيه جحافل الظلامية وتضغط بخطاباتها العنيفة على أنفاس الناس فيه. فهو اليمنيّ الذي منعه الظلاميّون من أن يكون سعيدا في “اليمن السعيد” عبر عمل إرهابيّ استهدف مستشفى “العرضي” بصنعاء عام 2012، وراحت ضحيته الطبيبة “سمية محمد الثلايا” وهي تؤدّي واجبها المهنيّ. نص شامخ الحادثة الإرهابية التي راحت ضحيتها “سمية محمد الثلايا” جرحت الشعور الجمعيّ اليمني، وفتحت أعين الناس على حقيقة أن الإرهاب لا يستثني أحدا من اليمانيين، مثّلت بالنسبة إلى محمد قاسم الحجاجي محمَلا لقصيدة “سلاسل ودمعة مخملية” التي قرأها في مسرح شاطئ الراحة بأبوظبي، وارتقت فيها الشهيدة “سمية الثلايا” مرقى رمزيًّا صارت فيه تعبيرة ثرّة الدّلالة عمّا يهدّد مجموعتها الاجتماعية من أخطار. شعرية نصوص الحجاجي تناقش ثيمات اجتماعية تؤرق وجدان المواطن وتعبث بسكينة أيامه وقد عرف الشاعر الحجاجي كيف يبني إحالات هذا الحدث المأساويّ بناءات فنية واجتماعية جعلت قصيدته تشدّ إليها انتباه الجمهور وتنتزع ثناءَ أعضاء لجنة التحكيم الذين وصفوها بكونها تمثّل “نصًّا شامخا، هو أجمل ما سُمِع من تصوير الأحداث”. وهي قصيدة لم تحفل بالفصيح من اللفظ، وإنما مالت إلى العاميّ منه ميلا ينبئ بوعي الشاعر بأن اللفظ، إذا لم يلامس عامة الناس، قلّت فاعليته الاجتماعية، وجاء فيها قوله: “جريمة بظهرك يا وطن جات مسعوره/ بكف الغدر تقطف سميّه من اهدابك/ وخلّت أساورها على الأرض مكسوره/ وخاتم غلاها ينزف الدم في بابك/ خطفها ألوفا وتبعثرت لؤلؤ مذعوره/ وكن ظلها المطعون يبكيك لمصابك”. والظاهر من هذا المقطع الشعريّ هو اتكاء الشاعر فيه على تجسيد الوطن وتوطين الفرد فيه توطينا نراه بالغا بالصورة الشعرية القدرة على الإنباء بحلول الكائن في الوطن، بل وجعله جزءا من أجزاء جسده، ومتى مسّ الفرد منه ضُرٌّ استشرت آلامه في جسد الوطن جميعه. ولا تكتفي الصورة الشعرية بكشف هذه العلاقة المادية بين الوطن والمواطن، وإنما تذهب بعيدا في تأكيد تشابه جوهريْهما ، فهما من معدن نفيس، هو صافي حكمة اليمن وخلود مآثره التاريخية، ومن ثمة وجب الحفاظ على هذا المعدن ومنع حرمته من الانتهاك. منقذ الروح وفي تصريح خصّ به جريدة “العرب” التي التقته في أبوظبي قال الشاعر محمد قاسم الحجاجي إنه سعيد بأن هناك من رأى فيه سفير نوايا حسنة، ولاشك في أن هذا المقترح الذي تناقلته المواقع ووسائل الإعلام هو أثر من القصيدة التي عبرت عن وجدان الناس وعن تطلعاتهم إلى رفض الإرهاب وتأصيل قيم التسامح والتواصل بعيدا عن مظاهر العنف والتجافي. وأكّد الحجاجي أن الشعر يمكن أن يكون، في هذه اللحظة العصيبة من تاريخنا العربيّ، منقذ الروح وصوت الناس في تطلعهم الإنساني. الشعر في هذه اللحظة العصيبة من واقعنا العربي منقذ الروح وصوت الناس ضد العنف وعن سؤال “العرب” عن أوّل شيء يمكن أن يقوم به لو جرى تكليفه بهذه المهمة، قال الحجاجي إنه سوف يزور كل بقعة من بلاده اليمن ليكون أقرب إلى شعبه الجريح، وأضاف قائلا: “سوف أسافر إلى أرجاء العالم لأعبر عن تطلعات شعبي وآماله في مجتمع مدني تحترم فيه كينونة الإنسان، وسأحاول جاهدا أن أكرس وقتي لشرح قضية شعبي والتعريف بثقافته التي تنهض على حب البشر بجميع انتماءاتهم الدينية والعرقية والجغرافية. لأن شعب اليمن شعب الحكمة وشعب الثقافة واللغة والحوار الإنساني. فلطالما كان اليمنيون شعب حوار وشعب سلام وشعب تطلعات حضارية”. وتمنّى الحجاجي أن تنقل صحيفة “العرب” صوته هذا وأمانيه في أن تصير القصيدة هي الحب، لأنها هي الأقوى من الحرب وأقوى من صوت البغضاء. وأضاف قوله إن أبوظبي أتاحت له فرصة نادرة ليعبّر عن تطلّعاته ومن ورائها يعبّر عن تطلعات شعبه اليمني في أن يعيش حياة آمنة يجتمع فيه الناس ولا يتفرّقون لأن اليمن هو أرض العروبة وأرض التاريخ وأرض الحكمة التي أنبتت رجالا يحاربون الآن عناصر الإرهاب ويتطلعون إلى حياة تنصف الفقير والمظلوم. يذكر أن نصوص الشاعر محمد قاسم الحجاجي التي ألقاها في مسابقة شاعر المليون لا تُخفي تشبّعه بمناخات اليمن الثقافية والاجتماعية والتاريخية واستثماره لها في منتوجه الشعري. ومثال ذلك أننا في كتابته مفردات من العامية المهذّبة التي نجح في تطويعها وشحنها بحمولات دَلالية جديدة جعلتها ملبية لأفق انتظارات الناس من خارج اليمن، ومثّلت سبيل الشاعر إلى محاورة الواقع بكل ما في تفاصيله من صور ووقائع. ونزعم أنّ تأصّل لغة الحجاجي في تربتها اليمنية مثّل سببا من أسباب حسن تلقّيها من قبل الجمهور، وساعد على أن تكون ممثّلة لجميع ساكنات اليمن ومعبّرة عن انشغالاتهم الراهنة. وهو أمر كشفت عنه دعوات كثير من الإعلاميين والمثقّفين والساسة وباقي فئات المجتمع لحشد الناس وحثّهم على التصويت لفائدته في مسابقة شاعر المليون.