د. محمد مختار المفتي - جامعة آل البيت: نحن مقبلون بعد أيام قليلة على ليلة القدر ليلة تتلألأ فيها الأنوار والتجليات القدسية ، وتلفها النفحات الربانية التي يفيضها الله على عباده المؤمنين.. تكريماً لنزول القرآن الكريم ، تفتح فيها أبواب السماء لدعوات عباده القائمين الخاشعين المنيبين إلى ربهم ، يرجون رحمته ويخافون عذابه. ليلة تتنزل فيها الملائكة ويغشى فيها الأرض الأمن والسلام ، ليلة هي خير من العمر. يعطي الله فيها عباده المقربين ما لا يقدر على إعطائه أحد. فهو عطاء يليق بكرم المعطي العظيم الذي له ملكوت كل شيء. وهي أفضل ليلة في العام ، سمّاها الله ليلة القدر ونصّ على أنها أفضل وخيرّ من ألف شهر ، ما قيمة هذه الليلة في حياتنا؟ ، وفي حياة الأمة.. ما دلالة هذه الليلة؟ وما أثرها فينا؟ وما عطاؤها؟ هذه الليلة ليلة القدر ، هي أفضل ليالي السنة.. شهدت نزول القرآن الكريم وشهدت ميلاد أمة جديدة ، وشهدت رسالة الأمة الإسلامية.في هذه الليلة المباركة نزلت إلى دنيا البشر أول آيات من كتاب الله وشهدت بداية إنزال القرآن ، لتضع لهم دستور حياة ونور هداية ، نعم فليلة القدر مرتبطة بالقرآن ، ولقد سمّى الله سورة في القرآن باسمها هي سورة القدر ، وأشار إليها في سور أخرى فقال الله: { إنا أنزلناه في ليلة مباركة} والليلة المباركة هي ليلة القدر ، قال الله تعالى: { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } وفي ليلة القدر أُنزل ، ويخبرنا الله أن ليلة القدر خير من ألف شهر ، والألف شهر تعادل خمساً وثمانين سنة تقريباً ، أي ليلة واحدة من ليالي العمر تفضل خمساً وثمانين سنة بلياليها وأيامها وساعاتها.من خصائص هذه الليلة المباركة أن الله ينزل فيها ملائكته الأبرار{ تنزل الملائكة والروح فيها } ينزّل فيها ملائكته ليطوفوا على عباده الصالحين الذين يحيون هذه الليلة ويقومون فيها لله.. وفي هذه الليلة تسلم الملائكة على أهل المساجد ، وتبقى الملائكة مع القائمين العابدين حتى مطلع الفجر ، والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة.. يتنزلون عند تلاوة القرآن. ولقد حثنا الرسول صلى الله عليه وسلم على قيام هذه الليلة وإحيائها ، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) ، وليلة القدر هي ليلة العمر والفرصة التي لا تفوت ، وعلى المسلم قيامها بإخلاص وتجرد لله عز وجل. وليلة القدر ليست ترتيلاً للقرآن فحسب أو قراءة أدعية ، ولكن إذا استطعنا في هذه الليلة أن نلتحم بالقرآن وأن تشدنا هذه الليلة وتعمق ارتباطنا بالقرآن وأن تنقلنا إلى عمق القرآن الكريم. ونحذر الإخوان والأخوات من الاختلاف والجدال والمراء في تلك الليلة فإذا ما تجادل وتمارى واختلف شخصان فقد يذهب ذلك الاختلاف ببركة الليلة وترتفع رحمة الله عن الموجودين .روى الإمام مالك رحمه الله قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُري أعمار الناس قبله (أراه الله أعمار الأمم السابقة) فكأنه تقاصر أعمار أمته أن يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرُهم فأعطاه الله ليلة القدر خيراً من ألف شهر فكانت ليلةُ القدر هبةً وهديةً من الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم. روى البخاري في صحيحه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين - أي تخاصما - فقال صلى الله عليه وسلم: خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت - رُفع معرفتها - ، وعسى أن يكون خيراً لكم.. والمحرومون من ليلة القدر.هم أولئك المتشاحنون المتباغضون المتدابرون. رُفع معرفتها - لفعل هذين الرجلين وقال صلى الله عليه وسلم: فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة.وفي الحديث: (التمسوها في العشر الأواخر وهي ليلةُ وتر وإنّ الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى). وإن بعض الصحابة كان يحدد هذه الليلة بأنها ليلة السابع والعشرين منه.روى مسلم عن أُبي بن كعب رضي الله عنه قال: (والله الذي لا إله إلا هو إنها في رمضان ووالله إني اعلم أيّ ليلة هي ، هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها هي ليلة السابع والعشرين.. ولو شئت لأقسمت لكم على ذلك) لكن في ترجيحنا القول بتحديد الليلة لا نقلل من شأن العشر الاواخر من رمضان وأهمية إحيائها وقيامها واعتكافها لأنّ هذه سنةُ الرسول صلى الله عليه وسلم.إذا رغبت أن تحظى بها أخي المسلم ، فصفّ القلب من شوائبه ، واغسله من أحقاده وأدرانه ، وصل من قطعك ، واعف عمن ظلمك ، ثم أقبل على الله بقلب سليم تنل مرادك منها. فإن هذه الليلة المباركة لا تكون إلا لمن خلص نفسه من أدرانها وشوائبها ، فالصفاء يستجلب الصفاء ولا تنزل الرحمة على من لا يتراحمون.إننا ننصح الأخوة الكرام من المؤمنين والمؤمنات باستغلال كل دقيقة من دقائق هذه الليلة المباركة ، وعدم تضييع جزء منها حتى صلاة الفجر ، وإن تيسر للنساء أماكن خاصة في المسجد فهذا جيد ، فلتذهب المرأة إليه بعد تأمين وترتيب أمور البيت في تلك الليلة ، وندعو النساء إلى عدم اصطحاب بناتهن الصغيرات وأطفالهن الصغار معهن إلى المسجد ، كي لا يفسدوا على المؤمنين إحياءهم واعتكافهم.وإن لم يتيسر للنساء الذهاب إلى المساجد في تلك الليلة فننصح كل أخت أن تحيي الليلة في بيتها ، حتى الفجر ، وإن أمكن إحياء مجموعة من النساء في بيت إحداهن فهذا طيب وجيد.ننصح في تلك الليلة - بعد غروب شمس يوم الاثنين القادم إلى فجر الثلاثاء - ننصح في تلك الليلة بالإكثار من الصلاة وقراءة القرآن ، ومن الاستغفار والدعاء ، ومن الذكر والمناجاة لله.وأفضل وابرك لحظات الليلة ما كان وقت السحر قبيل الفجر ، وننصح أن يخلو كل منا إلى نفسه في وقت السحر ، ويقف معها وقفة محاسبة ومعاتبة ، ليتعرف فيها على مواطن الخلل والضعف عنده ، ليتلافاها ويستحضر ذنوبه ليمحوها بالتوبة والاستغفار ، ويتعرف على رسالته ليقوم بأدائها على وجه يرضي به الله سبحانه.إخواني.. أخواتي.. تلذذوا بمناجاة الله في ليلة القدر ، من خلال القيام والذكر والاستغفار والدعاء وقراءة القرآن.. فاعرفوا أقداركم ومنازلكم عند الله ، ولا تنزلوا عن تلك المنازل الشريفة ، ولا تعودوا للضياع والمخالفة.فليلة هذه فضائلها وخصائصها..لا تفوّت.. هذا هو الخير فاغتنمه ..والبر فاقتنصه. ينبغي علينا أن نجتهد فيها ونكثر من الدعاء والاستغفار والأعمال الصالحة ، فإنها فرصة العمر ، والفرص لا تدوم.. فاحرصوا على طلب هذه الليلة.. لتفوزوا بثوابها فإن المحروم من حُرم الثواب ، ومن تمر عليه مواسم المغفرة ويبقى محملا بذنوبه بسبب غفلته وإعراضه وعدم مبالاته فإنه محروم.عن عائشة رضي الله عنها قالت يا رسول الله: إن وافقت ليلة القدر فما أدعو وما أقول: قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني.أخي المسلم لا يفتر لسانك في هذه الليلة من هذا الدعاء "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني". نعم ندعو الجميع إلى الإكثار من هذا الدعاء. تعالوا لنجعل من ليلة القدر القادمة - ليلة السابع والعشرين - ميلاداً جديداً لكل منا ولنبدأ منها حياة إيمانية قرآنية إسلامية دعوية جديدة ، ولنحرص على أن ترتفع أقدارنا ومنازلنا عند الله ، فأقدارنا مرتبطة بليلة القدر ، ومتصلة بالإيمان والالتزام والطاعة. فإلى الأقدار العالية يا من تحيون ليلة القدر. . اللهم اجعلنا ممن وفق لقيام ليلة القدر ، اللهم افتح علينا ليلة القدر وافتح علينا بركاتك ورحماتك وعفوك ومغفرتك وجودك وكرمك ورضاك.