عرَّف قدامة بن جعفر الشعر بأنه الكلام الموزون المقفّى الدال على معنى, ويعتبر هذا التعريف للشعر تعريفًا ناقصاً, لأنه شوّه الشعر وسلب منه أهم خصائصه التي لابد من توافرها في العمل الشعري, وهي العاطفة والخيال والتصوير, ولا يمكن اعتبار هذا العمل عملاً شعريّاً مالم تكُن متوافرة فيه هذه الخصائص, وهذا التعريف المشهور عن قدامة ساوى بين الشعر والنظم, وأذاب الفوارق بين الفن والعلم, وهما في الأصل متناقضان, لكن النقاد العرب القدماء لم يقفوا عند تعريف قدامة للشعر موقف المتفرج, إذ اعتبر الجاحظ الشعر ضرباً من التصوير, ويرى حازم القرطاجي أن الشعر وسيلة للتخيّل, ومن هذه النقطة فإن الشعر تصوير لخلجات النفس والوجدان, وما تختزله الذاكرة من معرفة وتجارب إنسانية, لا الاقتصار المحدود على الكلام الموزون المقفّى. أما في أوروبا, فقد قلل الكلاسيكيون من دور الخيال, واعتبروا أن العقل جوهر الشعر, لكن حينما اهتم النقاد بأهمية العاطفة ودورها في العمل الشعري, وذلك مع أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، انتبهوا إلى أثر الخيال البالغ في الشعر والأدب, ذلك أن النظرة التقليدية إلى الخيال محدودة, لا تؤمن بالخيارات الفردية أو الرغبة في خلق آفاق رحبة وعوالم جديدة, إذ إن نظرتهم إلى الخيال نمطية ثابتة وخاضعة للتجارب الاجتماعية لا الشخصية, فهم يريدون سماع أو قراءة ما يرضى عنه الناس ويقبله المجتمع, وفي هذا التصور قتل للروح الفردية لدى الأديب أو الشاعر, وحبسه عن التحليق في سماء الشعر والفن والأدب. قبل الدخول إلى ثنائية الخيال والعاطفة, أظن أنه من الضرورة بمكان التفريق بين الخيال والوهم, فالفرق بين الوهم والخيال, هو أن الوهم هروب من الواقع, وهو نقيض الخيال, ويعتبر حالة أشبه ما تكون بالحالة النفسية ناتجة عن تحرر صاحبها من قيود الزمان والمكان, بينما الخيال محاولة لإدراك الواقع بطريقة لا حسيّة, والخيال من أهم مكونات الشعر, وكما قال حازم القرطاجي, حينما فرّق بين الخطابة والشعر, إن الخطابة وسيلة للإقناع، بينما الشعر وسيلة للتخيّل, وهو حالة تظهر للتوفيق بين الأشياء المتنافرة أو المتناقضة من أجل ايجاد نوع من التوافق فيما بين هذه الأشياء. أما العاطفة فهي إحساس متأصل فى كيان كل فرد, وتكلمت عنها كل الثقافات، لأنها غريزة إنسانية لذا توصف بأنها إحدى السمات البشرية التي تجعل من الفرد إنساناً. وكثير من الناس يخلط بين الحب والعاطفة, ويدمج بين التعريفين, والعاطفة أشمل بينما الحب فيه تخصيص كحب الذات أو حب المال أو حب العمل, أما ما يخص الجنسين (الرجل والمرأة), فلن يكون هناك حب مالم يسبقه إعجاب, والعاطفة غريزة لا يمكن التحكم فيها, بينما الحب هو تصرف ناتج عن استجابة لمؤثر, وعمد على الممارسة. من خلال هذا العرض نخلص إلى أن الخيال يقوم على 'توليد صور واضحة' كما يذهب عدد من النقاد, وهو انطلاقًا من هذا الفهم يعمل على التقاط المشاعر والأفكار وإعادة خلقها من جديد في عمل أدبي, وعلى هذا الأساس فإن الشاعر المتمكن لا يكتب كل ما تمليه عليه غريزته, ويكون أسيراً لانفعالاته, بل هو ذلك الشاعر الذي يترك خياله يتمدد من أجل التقاط الصور الشعرية التي تعبر عن مشاعره, لهذا فإن الاعتماد على الكتابة الشعرية دون الاهتمام بعنصر الخيال في مسألة الخلق الإبداعي أشبه بحالة الرقص دون قدمين. ومن خلال ما سبق نتوصل إلى أن الكلاسيكيين جعلوا العقل إمامهم في التجربة الفردية, بينما اعتبر الرومانطيقيون الخيال هاديهم في هذا السبيل, إذ إنهم آمنوا بالعاطفة وأعلوا جانب التجربة الذاتية, الأمر الذي جعلهم يقدمون الخيال على العقل, معتبرين أن الخيال داعم رئيس للعاطفة في هذا الجانب, وليس في النقد العربي القديم مصطلح نقدي اسمه العاطفة, وكان العرب يستعيضون عنه بمصطلح نقدي خاص بهم, وهو الطبع, والعاطفة إحساس إنساني في النفس البشرية تحركه ثنائية الحب والكراهية, ولا تكون العاطفة مؤثرة وفاعلة مالم تكُن متحررة من القيود, ومحلقة في فضاء واسع 'تتلاشى فيها حدود الممكن والمحال' كما يقول الدكتور أحمد كمال زكي, لكن الخيال هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن من خلاله ابراز دور العاطفة في العمل الشعري, ويعتبر الخيال والعاطفة بالإضافة إلى اللغة مكونات الصورة الشعرية التي تعتمد على هذه المكونات الأساسية. يقول أحمد بن علي الكندي: لقيت الدار من بعد الحبايب خليه باكيه وبها عجايب وقفت ابها وانا حيران ساعه ودمع العين من موقي صبايب الايادار بالله خبريني عن المحبوب قولي وين غايب تقول الدار عقبك غادروني وخلوني لعيات الهبايب ففي هذه المقطوعة الشعرية للشاعر أحمد الكندي، تمازجت عدة عوامل لتخرج لنا هذه الأبيات بهذه الطريقة, إذ كانت اللغة الشعرية لدى الشاعر هي التي مزجت الخيال بالعاطفة, من خلال أنسنة الشاعر للدار وتحريك صمتها الأزلي المعروف, إذ إنه جعل الدار تسمع ما يُقال, وتصغي إلى حديث الشاعر, ومن ثم ردها عليه بعد ذلك, وهذا مرده إلى عاطفة الشاعر التي هي في مخزون الخيال لديه, ومن ثم تفجيرها بهذه الطريقة, الأمر الذي أدى إلى تحري مخيلة الشاعر في بناء هذا الحوار الثنائي بين الإنسان, وهو الشاعر, وبين الجماد التي يمثله في هذه الحوارية المتبادلة, وهي دار الأحبة, لكن هذا التزاوج بين الخيال والعاطفة لم يستنطق الدار فقط, بل جعلها عاشقة هي الأخرى كذلك, تبكي وتحنّ وتأسى على فراق الأحبة الذين غادروها وتركوها تكابد مرارة الطبيعة، 'وخلوني لعيّات الهبايب' وتقلبات الزمان وتبدل الأحوال, لهذا كان تميز هذا النص وجماله الشعري لا يعود إلى أنه استنطق الدار, وهي فكرة جميلة أن تبث الروح فيما لا روح فيه, لكن كما يقول جون ستيوارت مل: 'الشاعر لا يسمّى شاعراً لأن له أفكاراً خاصة, بل لأن تتابع أفكاره خاضع لاتجاه مشاعره'.