استجابة للحاجة الماسة للقمة العيش وتنفيذاً للأوامر العائلية القهرية وسعياً وراء تعمير الدنيا وتشييد الفلل يهاجر الأطفال والفتيات والمسنات والعجزة والمستثمرين إلى جولات الشوارع والأسواق والأزقة والمنازل والمتاجر طالبين الإغاثة العاجلة نظراً للحاجة الماسة إليها، دون الأخذ بعين الاعتبار المخاطر الجمة التي يتعرض لها صغار السن بشكل خاص والفتيات بشكل عام.
تنتفض (نادية) طفلة الربيع العاشر من تحت (بطانيتها) الممزقة، مذعورة، فعقرب الساعة يشير إلى الثامنة صباحاً، وبصوت ممزق ك(بطانيتها) التي تشعر من خلالها انها تربطها بنادية حكاية طويلة، تردد (يا الله) استغاثة بيضاء بريئة بعثت بها (نادية) للأعلى من اقتناعها تقبيل مخالب القدر خدها الوردي، لو علمت زوجة والدها باستيقاضها متأخرة لأنها موقعة على عقد مسبق مع إحدى جولات المدينة التي تقطنها منذ أربع سنوات لمزاولة مهنة (التسول) التي أهدتها إياها زوجة والدها التي تزوجت به قبل تسع سنوات، تحديداً وهي في عامها الأول. لكن حاسة السمع لدى زوجة والدها كانت أقوى مما تخيلت، لقد سمعتها، فأمطرتها بغيث من التهديدات ولو كررت ذلك التأخير سوف تقوم بإبلاغ والدها، وهو الذي عرفت عنه (نادية) تطاير الشرار من بين عينيه عند لحظات الغضب والضرب بيد من حديد والطرد خارج أسوار المنزل وهو الأمر الأكثر رعباً عند (نادية) كونه من سيقدمها وجبة شهية للكلاب الشاردة لأنها (فتاة)، حسب وجهة نظرها، دون ان تمنح نفسها القليل من التفكير لمعرفة خطورة ذلك سواءً كان مع فتاة أو فتى، أما إذا كانت فتاة فهو خطر وفي شتى الأعمار، لا فرق لدى سباع الغاب في الأعمار، والأنثى رقيقة وضعيفة أمام تلك الشوارد من البشر المستذابة.
تحليق النسور
من السابعة والنصف صباحاً وحتى التاسعة مساءً هو فترة الدوام الرسمي لدى نادية في مكتبها القابع في (جولة الشارع) على الهواء الطلق، متمرد عن شكليات التأثيثات السجادية وغيرها. عمل إضافي تزاوله نادية إلى جانب (التسول) وهو بيع المناديل (الفاين) و(اللبان) متخذة من ذلك طريق عبور مختصرة وسريعة للحصول على المال بالاستعانة الدائمة بطلب الإغاثة المادية أمام كل من لا يمتلك الرغبة في الشراء الأمر الذي يقحم الكثير صوب الشراء والدفع بسخاء بغرض (الصدقة) والآخر يدفع المال دون أخذ شيء من نادية، ومع كل هؤلاء لم تنجو نادية من تحليق النسور في أجواءها ومحاولة النهش في (براءتها).
احتضانة جسدها
تمضغ الجوع بلذة على مشروب النبيذ الساخن الذي يسكب من قارورة الشمس، ذلك أشهر وأعذب بكثير من أسئلة زوجة والدها التي تتناولها في محضر ليلي مفتوح في كل مساء عقب عودتها تطمأن خلاله على النفقات التشغيلية التي صرفتها نادية خلال أوقات العمل مثال (الأكل، الشرب) أما بالنسبة للمجلس فهو ما أمكن الحصول عليه من الجيران بعد منحها عفو عام عن استمرار خدمة أفراد العائلة ومنحها لتأدية الواجب الإنساني واحتضانه جسدها المنهك والمهترئ باهتراء تلك الملبوسات.
أنشودة كوب اللبن
منغصات أخرى تتلبد غيومها في سماء نادية مثل حرمانها من التعليم، التنزه في الحدائق.. اللعب مع أطفال الجيران.. التعارف على صديقات.. لقد أصبحت كبيرة رغماً عنها قافزة من فوق حواجز كل هذه السنوات البريئة قائمة بدور ومؤدية مهام فتاة كبيرة بالغة أوكلت مهمة الأسرة على عاتقها.. نعم لم تحظ بفرصة الوقوف في طابور الصباح وترديد أنشودة (كوب اللبن) أو (مسلمون.. مسلمون.. مسلمون * * * حيث كان الحق والعدل نكون) فلم يعد هناك عدل، ولم يعد هناك مناص للبراءة وأحلامها من واقع محاصر بفقدان لقمة العيش وموت حنان الأبوة تحت الأضلاع فلا يعد هناك فرق بين الحنان والحرمان في ظل الحاجة الماسة إلى المال.
ب(خمسين) ريالاً
بعد ان قرأنا قصة واقعية لحياة الطفلة "نادية" استوقفنا الحال مع الشيخة المسنة (أم محمد) حينما أخذت استراحة طارئة عن الوقوف على رصيف الشارع الوسطي المجاور لجولته بمساعدة عكازها تقول عن اهتمام الرعاية الاجتماعية والجهات المختصة بهذه الشريحة: أسمع من النسوان بالحارة ان هناك دول تهتم بالمحتاجين وتدفع لهم رواتب شهرية وتقوم بمعالجتهم.. لكن ذلك بالنسبة ل"أم محمد" هو حلم لم يتحقق بعد، بل أنها مستبعدة تحقيقه لأن الرحمة والمسئولية لم تتخذ لها مكاناً في قلوبهم بدليل أنها حسب قول (أم محمد): (مسئولين وضباط وتجار يمشوا من هنا مفحطين وما يرجموناش حتى بخمسين ريال، فمن المستحيل ان يحقق هذا الحلم أو يلين قلب الدولة، لأن الخط يقرأ من عنوانه) وساعة الدولة سنة كما يقال في الأمثال وقد يضاعف المدى الزمني.
حمود ما يحميناش
رواية تخط بتقلصات الجوع المعدية عنوانها غياب جهات الدولة المختصة وأبطال مشاهدها من كبار المشاهير بالفقر والحاجة الماسة إلى كسرة خبز، لكن المنغصات موجودة فهناك أصناف أتخذت من هذه الوسيلة الاستنزافية وظيفة إيراديه يشيد بها عماراته ويلتحق من خلالها في بورصة العقارات التجارية لبيع وشراء وتأجير الأراضي والشقق والعمارات، ومن أجل الضمان المؤكد لنجاح هذا المشروع الذي اصبح مؤخراً يؤثر على المحتاجين الحقيقيين لرعاية واهتمام أهل الخير تم توظيف الأطفال والمسنين وغيرهم لصالح مستثمرين في هذا المجال واستعطافهم عن طريق الأطفال والنساء المسنات دونما اولائهم أدنى اهتمام ورعاية وحماية من اصحاب النفوس المريضة حيث يقول رياض – 12سنة: (أبي يجبرني على العمل مع حمود وهو يتحاسب معه نهاية الأسبوع، لكن حمود ما يحميناش من الذين يتحرشوا بنا ومن الذين يقولوا لنا ما نشحت هانا لأنها جولة خاصة بهم وضروري نبحث لنا عن جولة أو شارع أو حارة ثانية لتجد أن المدينة تم تقسيمها من قبل رجال مال وأعمال التسول إلى مربعات وكلاً يحمي مربعة ويحرم على الآخرين الدخول فيه أو دفع ضريبة مقابل البقاء في حارة "كل من إيده إله".
قصدهم زلط
لعلك تقرأ من بين تلك الدموع المتقافزة ما هو أعمق وأبلغ مما تشاهده من المعاناة والتعذيب التي يتلقاها أولئك الصغار من أجل البقاء في مزاولة تلك المهنة لأنها بالنسبة لأولياء أمورهم (رزق سهل) إلا أنه بحاجة إلى طرق وأساليب متنوعة هي بحاجة إلى تعلمها على ايادي متخصصة ف(رياض) يقول: (أبي قال لحمود يضربني إذا ما سمعتوش كلامه وحمود معه موظفين ما يرحموش.. قصدهم زلط وبس وما يهمش تعبنا أو مرضنا).
عاتزوجيني
لم يكن ذلك التعذيب هو من نصيب رياض فقط فزميلته (ندى) تشاطره إياه كونها أحدى الموظفات في شركة (أبو حمود) لكنها تزيد عنه في معاكسة الناس في الشارع فتقول: بعض الشباب ما يدي لنا العشرة إلا بعد ما يحاول يمسك بيدي وبعضهم يقول عاتزوجيني وافتهني من الشحاتة وأدي لش الذي يعجبش.. وقصدهم شيء بهذا.. فهل هذا مؤشر على الجنس اصبح طريق الاشقياء الى البقاء الحاجة أم الاختراع، والفقر صاحب الأكثر حظاً في الطريق المؤدية إلى التسول لكن حينما نوأد بناتنا أحياء بأيدينا، هذا هو تحديث وتجديد لمزاولة طقوس القتل ولكن بطريقة متطورة نالت حظها في التطور الحياتي لجميع مفردات ومقومات وبنى الحياة.
مرتزقة وجشعين
انتزعت الرحمة والأبوة من قلوب بعض البشر، لا غرابة في ذلك خصوصاً انها أصبحت تنظر إلى أن فلذات أكبادها مجرد سلعة إلا أن أكثر ما يجعل المتأمل يبصق في وجه المسئولين عن ذلك ويدهس على شعاراتهم الرنانة الزائفة وثراتهم الاسترزاقية لا أكثر والتسول بواسطتهم وهذه هي العلاقة المشتركة الوحيدة بين الطرفين، ولعلها تنفق الملايين بطرق غير شرعية خلال واثناء قيامها بمشروع توعوي هو بحاجة إلى عشرات أو مئات الآلاف كحد أدنى ف(إبراهيم.م) يقول: (الحكومة طارحة شوية مرتزقة وجشعين، ليس الكل لكن الغالبية هم هكذا، ويحتاجوا من يتفل بوجوههم، ليس الكل لكن الغالبية هم هكذا، ويحتاجوا من يتفل بوجوههم، حتى ينفقوا زلط الدولة بمكانها المناسب بدلاً من الحيلة والاحتيال عليها والبحث بجدية عن المحتاجين ومساعدتهم بدلاً من صرف رواتب الرعاية للمشائخ) أو "من هب ودب". ويضيف تبشيخ: (الشيخ يستلم حق عشرين أو ثلاثين حالة، والفقير ما يستلمش حق حالة واحدة والبعض حالة واحدة)، ولعل هذه المعاملة بحماقة وعدم دراية لهذه الطبقة قد تصنع منهم شريحة عدائية ضد الوطن ومصالحه وهذا مؤكد في ظل السياسة الاستهلاكية في صالح الأنا، وتهميش من هم من ذات الشأن.
زلط للمشايخ
استياء تشابه وناقم على الرعاية الاجتماعية من قبل الحاجة (دولة) لأنها ترى ان رواتب الرعاية غائبة، وان تقررت لعدد ضئيل من الحالات فهي لا تسد رمق جوع طفل، حيث تقول: (ثلاثة ألف راتب الرعاية، حق أيش يا ولدي؟ حق ماء؟ او كهربا؟ ما عليش الكهرباء قد هي مقطوعة، او حق دقيق أو سكر أو...الخ). وتنوه بلغة ماقتة على سياسة الرعاية، واحتقار الحكومة للمعسرين بقولها (قالك رعاية، وحكومة؟ ليش ما تصرف لنا الحكومة رواتب من حق الدولة موش من حق آبائهم المسئولين مثلما يصرفوا سيارات وزلط نقداً للمشايخ والمسئولين). لأنهايه لهذه الرواية فنقطتها لم ترض على نفسها بان تقف وراء آخر كلمة لفصورها ومؤكدة ان أسباب ذلك يعود إلى اضطلاع الجهات الحكومية عامة والرعاية الاجتماعية خاصة بواجباتها من عدم ذلك.