القراءة العميقة والمتأنية لمضمون خطاب الرئيس علي عبدالله صالح في أول ظهور له عقب حادثة استهدافه في جامع النهدين في جمعة أول رجب تستدعي التركيز على مضمون الدعوة الرئاسية المتجددة للحوار والترحيب بالشراكة الوطنية على أسس دستورية تنتجها عملية توافق بين مختلف القوى السياسية والمدنية في اليمن . لقد أثبتت الأزمة السياسية القائمة في اليمن أن محاولات الانقلاب على الشرعية الدستورية لم تنجح ولن تنجح بل أنها أوصلت البلاد إلى مرحلة من التأزم الذي انعكس بشكل مدمر على الاقتصاد الوطني وعلى الحياة المعيشية اليومية للمواطن . في المقابل فإن الدعوة إلى التغيير أضحت أمراً متفقاً عليه ومقبولاً من جميع الأطراف بما فيهم القيادة السياسية والحزب الحاكم وحتى الغالبية العظمى من أبناء الشعب والتي تؤيد الشرعية الدستورية توافق على إحداث التغيير شريطة أن يكون وفقاً للنهج الديمقراطي ونتاجاً لعملية حوار سياسي . وانطلاقاً من ذلك يجب على الجميع في الوطن أحزاباً وقوى سياسية ومنظمات ومواطنين ومثقفين الإدراك بأن التاريخ اليمني أثبت أن الشعب اليمني لم ينجح في تحقيق الاستقرار إلا عندما كانت قواه السياسية تأخذ بالحوار والتفاهمات والتوافقات وسيلة لبناء التشريعات الدستورية الناظمة للحكم، وأنه حتى في حالات الصراع السياسي الذي انتهى بالصراع المسلح فإن الحوار كان يظل هو الملاذ الأخير بين المتصارعين لتحقيق التسويات الوطنية . لقد جاء خطاب الرئيس -ورغم أنه أعقب محاولة اغتياله وكبار قادة الدولة- ليؤكد حرص رئيس الجمهورية على حفظ أمن واستقرار ووحدة اليمن من خلال دعوته للفرقاء إلى العودة إلى طاولة الحوار الوطني ومناقشة مختلف قضايا ومشاكل وأزمات اليمن والتوافق على رؤية وطنية بشأنها . ولعل حالة الانسداد الحاصلة في المشهد السياسي والتي انعكست بدورها سلباً على الوضع الاقتصادي وعلى الحياة المعيشية للمواطن والخسائر الناجمة عن هذه الأزمة والتي تكاد تعصف بالاقتصاد الوطني تستدعي القراءة الواعية لمضمون خطاب الرئيس ودعوته للحوار وتأكيده على القبول بمبدأ الشراكة الوطنية والتغيير وفقاً لرؤية دستورية يتوافق عليها اليمنيون جميعهم في السلطة والمعارضة. وفي هذا الإطار فإن مفهوم التغيير الذي ينشده اليمنيون جميعاً بات أمر متاحاً ومتفقاً عليه لكنه بحاجة إلى توافق على صيغة مقبولة ومرضية للجميع وتحويلها إلى أطر دستورية وقانونية ناظمة لمستقبل النظام السياسي ونظام الحكم في اليمن .
لقد كان الرئيس واضحاً في تأكيده على أن الشراكة يجب أن تكون في إطار الدستور والقانون وعلى أسس ديمقراطية وبرنامج يتفق عليه الناس ويكون قاسم مشترك للشعب اليمني،ولعل التأكيد الرئاسي ينطلق من رؤية تستشرف المستقبل وأهمية أن تكون الشراكة مبنية على أسس الحفاظ على الثوابت الوطنية المتمثلة في النظام الجمهوري والوحدة اليمنية والنهج الديمقراطي باعتبارها المدماك القوي لدولة يمنية موحدة وقوية يتشارك الجميع في بنائها.
ولعله من المفيد العودة بالذاكرة قليلاً إلى ما قبل العام 1990م لنتذكر نقطتين هامتين أولاهما أن أعظم إنجاز حققه اليمنيون في تاريخهم المعاصر والمتمثل في إعادة تحقيق الوحدة اليمنية جاء نتاجاً للحوار والتوافق السياسي، وثانيهما أن الأزمة السياسية التي شهدتها اليمن بعد مرور ثلاث سنوات من عمر دولة الوحدة لم تأت نتاجاً للوحدة وإنما نتاجاً للخلل في بناء المنظومة التشريعية لنظام الحكم وفقاً لدستور دولة الوحدة الذي أقره الاستفتاء الشعبي، وثانيهما عدم قبول الحزب الاشتراكي بنتائج أول انتخابات ديمقراطية تنافسية تشهدها اليمن عام 93م وهو ما أدى لاحقاً إلى محاولة الانفصال والحرب التي أخمدتها .
ولذلك حرص الرئيس على تأكيد أن تكون الشراكة قائمة على أساس دستور الجمهورية اليمنية حرصا على أن يكون هناك توافق وطني يتجاوز سلبيات الماضي ويحدث التغيير المنشود ويحافظ على وحدة اليمن، ويمنع تكرار الأزمات السياسية مرة أخرى .
ولعل ما يجب أن نستوعبه جميعاً ونحن نتحدث عن ضرورة التغيير وبناء مستقبل اليمن عبر الشراكة الوطنية أن نركز على أن ما كان يقصده الرئيس لايعني مجرد توافق الأحزاب في الحكم والمعارضة على تشكيل حكومة ائتلافية فحسب، بل كان يعني أن نشرع في حوار وطني شامل ونضع كل أزمات ومشاكل اليمن على طاولة الحوار والانطلاق نحو إعادة رسم النظام السياسي لليمن وفقاً لمفهوم الدولة اللامركزية والحكم المحلي الكامل الصلاحيات والأخذ بالديمقراطية كوسيلة للتبادل السلمي للسلطة بنظام انتخابي متوافق عليه.
وبعبارة أخرى الشروع في إعداد وثيقة إصلاحات سياسية شاملة تعيد رسم معالم الدولة اليمنية القائمة على مفهوم النظام والقانون والعدالة والمساواة وتوسيع المشاركة الشعبية في صنع واتخاذ القرار، واستيعاب متطلبات الحاضر والمستقبل وفي مقدمة ذلك موضوع مشاركة الشباب في لعب دور بارز في بناء الدولة سواء على المستوى المحلي أو المركزي أو مستوى الأطر السياسية والمدنية .
وختاماً لابد من التأكيد أنه وبعد ستة أشهر من أزمة سياسية كادت أن تعصف باليمن وحدة وأمناً واقتصاداً وإنساناً فإن علينا العودة إلى طاولة الحوار والبدء بمناقشة مشاكلنا وأزماتنا والتوافق على بناء مستقبل وطننا ذلك أنه لا يمكن لأحد في اليمن أن يفرض ما يريده على الآخر، وإن استمررنا في العناد فالنتائج ستكون كارثية ومدمرة على الجميع الذين سيجدون أنفسهم في سفينة خرقها أبناءها ليغرقوا جميعاً وحينها لن نجد من منقذ .