على الجنوب طرق كل أبواب التعاون بما فيها روسيا وايران    ما هي قصة شحنة الأدوية التي أحدثت ضجةً في ميناء عدن؟(وثيقة)    كيف طوّر الحوثيون تكتيكاتهم القتالية في البحر الأحمر.. تقرير مصري يكشف خفايا وأسرار العمليات الحوثية ضد السفن    رفع جاهزية اللواء الخامس دفاع شبوة لإغاثة المواطنين من السيول    مقتل مغترب يمني من تعز طعناً على أيدي رفاقه في السكن    انهيار منزل بمدينة شبام التأريخية بوادي حضرموت    وفاة الكاتب والصحفي اليمني محمد المساح عن عمر ناهز 75 عامًا    صورة تُثير الجدل: هل ترك اللواء هيثم قاسم طاهر العسكرية واتجه للزراعة؟...اليك الحقيقة(صورة)    صور الاقمار الصناعية تكشف حجم الاضرار بعد ضربة إسرائيل على إيران "شاهد"    عاجل: انفجارات عنيفة تهز مدينة عربية وحرائق كبيرة تتصاعد من قاعدة عسكرية قصفتها اسرائيل "فيديو"    الدوري الايطالي: يوفنتوس يتعثر خارج أرضه ضد كالياري    نادي المعلمين اليمنيين يطالب بإطلاق سراح أربعة معلمين معتقلين لدى الحوثيين    وزير سابق يكشف عن الشخص الذي يمتلك رؤية متكاملة لحل مشاكل اليمن...من هو؟    مبنى تاريخي يودع شبام حضرموت بصمت تحت تأثير الامطار!    رئيس الاتحاد العربي للهجن يصل باريس للمشاركة في عرض الإبل    تظاهرات يمنية حاشدة تضامنا مع غزة وتنديدا بالفيتو الأمريكي في مجلس الأمن    شبوة.. جنود محتجون يمنعون مرور ناقلات المشتقات النفطية إلى محافظة مأرب    شروط استفزازية تعرقل عودة بث إذاعة وتلفزيون عدن من العاصمة    اليمن تأسف لفشل مجلس الأمن في منح العضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة مميز    لماذا يموتون والغيث يهمي؟    - بنك اليمن الدولي يقيم دورتين حول الجودة والتهديد الأمني السيبراني وعمر راشد يؤكد علي تطوير الموظفين بما يساهم في حماية حسابات العملاء    تعز.. قوات الجيش تحبط محاولة تسلل حوثية في جبهة عصيفرة شمالي المدينة    الممثل صلاح الوافي : أزمة اليمن أثرت إيجابًا على الدراما (حوار)    بن بريك يدعو الحكومة لتحمل مسؤوليتها في تجاوز آثار الكوارث والسيول    الإنذار المبكر بحضرموت يطلق تحذيرا هاما للساعات القادمة    خطوات هامة نحو تغيير المعادلة في سهل وساحل تهامة في سبيل الاستقلال!!    المانيا تقرب من حجز مقعد خامس في دوري الابطال    الحوثيون يفتحون مركز العزل للكوليرا في ذمار ويلزمون المرضى بدفع تكاليف باهظة للعلاج    لحظة بلحظة.. إسرائيل «تضرب» بقلب إيران وطهران: النووي آمن    بعد إفراج الحوثيين عن شحنة مبيدات.. شاهد ما حدث لمئات الطيور عقب شربها من المياه المخصصة لري شجرة القات    تشافي وأنشيلوتي.. مؤتمر صحفي يفسد علاقة الاحترام    الأهلي يصارع مازيمبي.. والترجي يحاصر صن دوانز    العثور على جثة شاب مرمية على قارعة الطريق بعد استلامه حوالة مالية جنوب غربي اليمن    اقتحام موانئ الحديدة بالقوة .. كارثة وشيكة تضرب قطاع النقل    طعن مغترب يمني حتى الموت على أيدي رفاقه في السكن.. والسبب تافه للغاية    سورة الكهف ليلة الجمعة.. 3 آيات مجربة تجلب راحة البال يغفل عنها الكثير    إنهم يسيئون لأنفسم ويخذلون شعبهم    عملة مزورة للابتزاز وليس التبادل النقدي!    مولر: نحن نتطلع لمواجهة ريال مدريد في دوري الابطال    الفلكي الجوبي: حدث في الأيام القادمة سيجعل اليمن تشهد أعلى درجات الحرارة    رغم وجود صلاح...ليفربول يودّع يوروبا ليغ وتأهل ليفركوزن وروما لنصف النهائي    شقيق طارق صالح: نتعهد بالسير نحو تحرير الوطن    نقل فنان يمني شهير للعناية المركزة    تنفيذي الإصلاح بالمحويت ينعى القيادي الداعري أحد رواد التربية والعمل الاجتماعي    ريال مدريد وبايرن ميونخ يتأهلان لنصف نهائي دوري ابطال اوروبا    بمناسبة الذكرى (63) على تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين اليمن والأردن: مسارات نحو المستقبل و السلام    قبل قيام بن مبارك بزيارة مفاجئة لمؤسسة الكهرباء عليه القيام بزيارة لنفسه أولآ    وفاة مواطن وجرف سيارات وطرقات جراء المنخفض الجوي في حضرموت    آية تقرأها قبل النوم يأتيك خيرها في الصباح.. يغفل عنها كثيرون فاغتنمها    "استيراد القات من اليمن والحبشة".. مرحبآ بالقات الحبشي    دراسة حديثة تحذر من مسكن آلام شائع يمكن أن يلحق الضرر بالقلب    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    السيد الحبيب ابوبكر بن شهاب... ايقونة الحضارم بالشرق الأقصى والهند    ظهر بطريقة مثيرة.. الوباء القاتل يجتاح اليمن والأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر.. ومطالبات بتدخل عاجل    أبناء المهرة أصبحوا غرباء في أرضهم التي احتلها المستوطنين اليمنيين    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    تأتأة بن مبارك في الكلام وتقاطع الذراعين تعكس عقد ومرض نفسي (صور)    النائب حاشد: التغييرات الجذرية فقدت بريقها والصبر وصل منتهاه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القصة التي لم تنشر من قبل: أقل من جاسوس .. أكثر من ضحية
بدأ حياته أخصائي أشعة ، ثم انتقل الى متعهد حفلات فنية ..قبل ان يتهم من قبل الرئيس كزعيم لخلية إرهابية تتخابر مع إسرائيل
نشر في مأرب برس يوم 30 - 01 - 2009

قبل نحو 4 أشهر بلغت هذه الحكاية أبعادها القصوى حينما خرجت إلى العلن. فلقد حمل الرئيس علي عبدالله صالح، شخصياً، على عاتقه مسؤولية إماطة اللثام عن المعلومة السارة والفريدة من نوعها. في 6 أكتوبر 2008، بينما كان الرئيس في حضرموت لمتابعة عمليات الإغاثة لضحايا كارثة السيول، ألقى خطاباً أمام حشد كبير من المسؤولين وعلماء الدين، في القاعة الكبرى بجامعة حضرموت، كشف خلاله عن إلقاء القبض على خلية إرهابية مرتبطة بالمخابرات الإسرائيلية "رغم رفعها شعار الإسلام"، وأنها ستقدم للمحاكمة، وأنه "سيتم الإعلان عن نتائجها قريبا".
المؤكد أنه لم يكن يقصد فقط التباهي بنجاح أمني عابر. ذلك أن الخبر بحد ذاته كان ينطوي على عناصر تمثل مفارقة مثيرة لا سابق لها على الإطلاق تقريباً. إذ ليس من اليسير تصديق أمر كهذا: منظمة
جهادية إسلامية تتخابر مع إسرائيل. لهذا جاءت ردود الفعل حياله متضاربة، ما بين مصدق أو مضطر لأن يصدق، وما بين مشكك أو مكذب تماما، أو ساخر على طريقة الناطق باسم الخارجية الإسرائيلية إيجال بالمور في سياق رده على تلك التصريحات.
لست هنا بصدد تفسير الدوافع السياسية، أو التوقيت والأسلوب الدرامي الذي اختار الرئيس أن يضع فيه مفاجأته. لكنني أشعر بأن الجميع أصبح الآن بحاجة لمعرفة كيف أن خلية إرهابية "ترفع شعار الإسلام"، يمكن أن تقيم اتصالات مع الموساد الإسرائيلي رأساً. وما مدى الدقة أصلا في نقل معلومة من هذا الطراز الثقيل، كما وفهم ما إن كان الرئيس قد وقع ضحية تضليل أحد ما من معاونيه، أم إنه كان بالفعل يعني ما يقول، مع علمه المسبق بأن الحقائق الواقعية لا يكاد يجمعها، مع الصورة التي بدت عليها في كلامه، سوى خيط رفيع يرجح تلاشيه في خضم فيض التفاصيل الأخرى.
وباختصار: أكان يدرك الرئيس حينها أنه تسرّع بعض الشيء في إعلانه؟ أجهل ذلك حقا الآن. وريثما يفرغ القارئ من مطالعة وقائع هذه القصة أعتقد أنه سيكون في وسعه أن يحكم. ولا بد أن ثمة من هو متعطش بشدة لمعرفة ما هي هذه القصة بالضبط: أحداثها، مسرحها الذي دارت فيه، وترتيبها الزمني والموضوعي، ومن هي شخصياتها الرئيسية والفرعية ودور كل واحدة منها.
سيتضح لاحقاً، أن القصة ترسم، على نحو أو آخر، صورة عن فداحة أن يكون المرء حسن النية لكنه لا يتحلى بالذكاء الكافي للاقتراب من أبناء الأكابر. وهي تظهر أيضا كم من الضروري جدا أن تكون الخطوات محسوبة عندما يتعلق الأمر بأصدقاء عابثين وعديمي أخلاق يتكئون في تصرفاتهم إلى سوء طباعهم الشخصية، وربما أيضاً نفوذ عائلاتهم في السلطة.
أظن أنه قبل أي شيء آخر، يتعين تلخيص الأحداث الأكثر غرابة، التي سنرويها كاملة لأول مرة ربما في السطور التالية، بكلمات معدودة: شاب فقير يكافح بدأب لإثبات نفسه. كان يوماً ما فني كشافة بدون مؤهل. تحول بتشجيع رجال مقربين من الحكم إلى متعهد حفلات غنائية سيء الحظ. أدخله حظه العاثر تحت وطأة ديون هائلة أكبر من قدرته على التحمل. خضع بموجبها لنوع بغيض من الابتزاز. وبعد أن نفد صبره أخذ يتصرف بغباء مجنون يجعلك ترغب في الحزن لأجله أكثر من إضمار الحقد عليه.
تنقسم القصة إلى ثلاثة فصول متداخلة زمنياً وإلى حد ما ليست منفصلة موضوعياً. تتمحور حول حياة شاب يحمل بشرة بلون القرفة، يدعى بسام عبدالله فيصل محمد علي الحيدري، وهو يبلغ من العمر 26 عاما. شخصية واحدة تمر بأطوار عدة. ثم ينتهي بها المطاف بالوقوع تحت طائلة تهمة من أخطر التهم.(على الرغم من تشكيك بسام في مصداقيتها، وإدعائه، الذي يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار، بأنها انتزعت منه عبر التعذيب القاسي، إلا أننا سنعتمد في رواية الوقائع بشكل شبه رئيسي على ما ورد في محاضر التحقيقات التي خضع لها في البحث الجنائي). ومن المهم كذلك، الإشارة إلى أن عبدالرحمن برمان محامي المتهم، قال معلقاً على اعترافات موكله : "نحن لا نثق في أقوال انتزعت في البحث الجنائي لأنها تمت تحت التعذيب الشنيع".
...
-1-
تقريبا تبدأ القصة عند هذه النقطة بالذات: وفاة رجل الأعمال محفوظ شمّاخ مطلع 2008. لقد كانت علامة فارقة في حياة بسام. كان موظفاً شخصياً -بحسب توصيفه- لدى شمّاخ. وإذ توفي الأخير، فقد ترك بسام العمل وألفى نفسه، وهو الذي يعول 10 أشقاء ووالدته بالإضافة إلى زوجته وابنه الوحيد البالغ من العمر 3 سنوات، بدون مصدر دخل يذكر. فعاد للعمل لفترة وجيزة في عيادة والده الذي انفصل عن العائلة لأنه قرر التزوج بأخرى.
ذات يوم، أوائل 2008، فبراير على أغلب الظن، جمعت المصادفة بسام بصديق يدعى (ع.ك). فكر، اثناهما، بإقامة حفلة غنائية استثمارية
في صنعاء. حينئذٍ كان حفل المطربة أصالة، المثير للجدل، في عدن قد انتهى لتوه، فقرر بسام وصديقه استلهام التجربة المغرية تلك، بحثا عن الربح السريع والسهل، من خلال أنشطة قد تضعهم، وجهاً لوجه، مع المكانة والشهرة والثراء.
توجها بالفكرة إلى صديق ثالث ورابع. أحدهم كان يزعم بأنه يتمتع بعلاقة جيدة مع الفنانين العرب بحكم إقامته في القاهرة للدراسة، والآخر سكرتير محافظ سابق من سنحان تقرر أن عليه البحث عن قرض بقيمة 13 ألف دولار بفوائد تقدر ب7 آلاف دولار، وسلمت سيارة بسام من ماركة "كيا" الأمريكية رهناً بالمبلغ، وشرعوا في إنشاء شركة تحمل اسم "ستندر موف للخدمات والتسويق"، بحسب إفادة بسام للمحقق. درسوا الفكرة معا ومتطلباتها وباشروا التنفيذ.
من هنا يدخل شخص محوري في مجرى الأحداث: عصام دويد، المرافق الشخصي لرئيس الجمهورية. يقول بسام في هذا الخصوص: "بدأت معرفتي ] بعصام دويد [ عن طريق مدير الأسواق في القاع (ع.ق)، (ق.ز) مالك مستشفى المرأة والطفل، وكان الغرض من التعارف مساعدتنا في إنجاح الحفل ونشر السياحة وجذب الاستثمار بالغناء". هذا ما جاء في محضر التحقيق. على أن زوجة بسام أكدت أن عصام دويد كان شريكاً في المشروع بنسبة لا بأس بها.
ستكون التفاصيل التالية مضجرة، بيد أنني مضطر لسردها بتوسع لأن الأحداث التالية تمثل قاعدة لما سيليها.
أيا يكن الحال، سافر (ع.ض)، و(ع.ن) إلى القاهرة لتوقيع عقد استضافة مع الفنان تامر حسني. سأترك لبسام الحديث واعدا نفسي بالتدخل الطفيف لربط وبناء الأحداث. "حصلت مزابنة على تامر حسني مع رامي عبده هائل سعيد، لأنه دفع للفنان فلوساً أكثر، فقام (ع.ض) بالبحث عن فنان آخر، وأخيراً اتفق مع الفنان إيهاب توفيق، ثم عاد إلى صنعاء، فاستخرجنا التراخيص، وبدأنا مراسلة الشركات للدخول كرعاة للحفل وأعلنا عن الفعالية في الصحف والبروشورات واللافتات بعد أن تحدد موعد الحفل في 24-7-2008" يقول بسام.
مضت الأسابيع. كان بسام يشغل منصب نائب المدير العام في الشركة الوليدة. ومع اقتراب الموعد سافر بسام إلى القاهرة لتسليم الفنان بقية المبلغ. يقول:" فوجئت أن (صاحبي) اتفق معه ولم يسلم له أي مبلغ، بل اتفق معه على أن يرسل له نصف المبلغ قبل الحفل بأسبوع والنصف الآخر قبل أن يقلع من مطار القاهرة، والمبلغ كامل هو 32 ألف دولار. ولم أستطع أنا و (ع.ض) تدبير المبلغ لأن الأخير أضاع ال13 ألف دولار في مصر". قفل بسام عائداً إلى صنعاء مفعماً بخيبة الأمل.
"تصايحت أنا و(ع.ض) لأنه أضاع الفلوس. فقال لي ما تدخلش والشركة شركتي، والقانون لا يحمي المغفلين، وطردني من مكتبه وتركت العمل، وألغيت التفويض في البنك، ونشرت إعلان في صحيفة الثورة عن إخلاء طرفي واتضح لي لاحقاً أن الحفل لم يقم واحتبس بسبب الديون"، قال. لا نعرف ما هو مصير صديقه (مدير الشركة)، رغم أنه ألمح في إحدى إجاباته إلى أنه متواجد الآن في عمران وليس في السجن. الأكيد أن حظه أسعفه فوجد من يمد له يد العون، فهو سكرتير محافظ سابق (من سنحان). وحدهم الأشخاص الصغار دائما يتورطون.
نهاية أغسطس 2008، أفلست الشركة تماماً وتم إغلاقها. بالطبع- بالنظر إلى الوقائع السابقة- لا أحد مذنب في حق بسام مثل تصرفه هو نفسه. لم يكن حاذقاً كفاية ليخوض تجربة باهظة خرج منها مثقلاً باثنين مليون ريال ونصف ديوناً، وصورة مع إيهاب توفيق. وهذه هي السيرورة النهائية للفصل الأول، وهو ما سينبني عليه الوقائع الأخرى. مع الاعتراف بأن ثمة حلقات مفقودة ربما سيتاح لنا العثور عليها مستقبلا.
كان بسام لا يكف عن الاعتقاد بأن هناك من هو مذنب (سواه طبعا) يتعين عليه مشاطرته متاعبه الجسيمة، الناشئة عن مغامرته العاثرة. ومن هؤلاء عصام دويد (مرافق الرئيس)، الذي وإن لم يُلق باللائمة عليه كليا في إخفاق المشروع، إلا أنه يظل الوحيد القادر على إقالة عثرة هذا الشاب المنهار.
وإذا افترضنا أن ما ورد فيها لا غبار عليه، فأقوال بسام كانت تتباين من جلسة تحقيق إلى أخرى. فمثلا، اختلق في أول جلسة تحقيق 20 سبتمبر 2008، حكاية عن تعرضه للتهديد من قبل متطرف إسلامي بقتل ولده ما لم يتوقف عن إقامة حفلة إيهاب ويلتحق "بالجهاد"، قبالة مسجد الحزيزي في جولة الثلاثين، وأنه أبلغ عصام دويد فقال له الأخير "لا تخاف من قالها ما فعلها، قع رجال وأنا أحميك"، وحضه على الانخراط في صفوف "الجهاديين"، وموافاته بالمعلومات أولا بأول مقابل تسديد ديونه. لكنه في جلسة ثانية نفى تعرضه للتهديد وأن القصة برمتها كانت ملفقة. وهذا ما سيرد في الفصل الأخير من القصة.
-2-
سأضطر للإيجاز في سرد هذا الفصل. وأحداثه تتوازى زمنياً مع أحداث الفصل التالي، أو على الأرجح متقاربان. أو لنقل بأنه كان فاصلاً وجيزاً ومؤلماً بين مشروعين هما نقيضا بعض جملة وتفصيلاً: شركة ستندر موف، التي أنشئت أساساً لإقامة حفلة غنائية لإيهاب توفيق، و"منظمة الجهاد الإسلامي" الوهمية، التي لا تخلو فكرتها من طرافة وسذاجة متهورة.
يمكن رواية القصة بهذه الطريقة، طبقا لأقوال بسام في محاضر التحقيق: عندما كان نائبا لمدير موف، استأجر سيارة تويوتا من شركة العمودي لتأجير السيارات. وبينما كان يستخدمها لإنجاز مهام الحفل الفني الذي فشل، طلب منه شقيق زوجته إعارته السيارة، فأوعز إليه صهره الآخر بأن الأول غير مأمون الجانب، وأنه "سبق وسرق سيارات".
بعد نكبته حاول بسام اقتراض 400 ألف ريال من صهره (المشكوك في أمانته). استغل الرجل حاجة بسام أسوأ استغلال. ففي حين وافق على إقراضه المبلغ المطلوب، فإنه اشترط على بسام أن يقوم باستئجار سيارة من أي شركة تأجير. وفي الغضون طرح الصهر موضوع تأسيس شركة بأسماء وهمية للاحتيال على شركات تأجير السيارات. أي بكل بساطة عصابة للسرقة والنصب.
بحلول 27 -7-2008، أنشأ بالفعل شركة بأسماء مستعارة. ولقد شرح مبررات تصرفه بأنه اقترض من (ع.ق) و(ج.ج) و(م.ق) أموالاً لتسديد ديونه. ولأنه لم يتمكن من تسديها، تعرض للضغوط من أجل تأسيس شركة لاستئجار السيارات وبيعها. يقول بسام: "فوافقت. بعدها جاب (ع.ق) مبلغ 15 ألف ريال سعودي لفتح الشركة، وقمت باستخراج بطاقة شخصية مزورة باسم مستعار هو محمد صالح العريقي، وصورة شخص من تعز. تمت عملية التزوير في محل الصفوة للكمبيوتر (يملكه علي محفل المتهم الثالث في الخلية التي أعلن عنها الرئيس)، وقمنا باستخراج رخصة قيادة وسجلاً تجارياً بنفس الاسم المستعار، واخترنا اسما للشركة الوهمية هو "فف كون للمقاولات والخدمات النفطية".
"في 2-8-2008 قمنا باستئجار سيارة تويوتا رافور، من شركة يورب كار، باسم شركة فف كون، مقابل 500 دولار، وأرجعناها (لبناء الثقة كما أشار في مكان آخر من التحقيق). وفي 6-8-2008 استأجرنا سيارة لاند كروزر موديل 2005 وكان الغرض من استئجارها هو بيعها حيث أنني كنت استلمت 850 ألف ريال مقابل ذلك". انتقل على متنها كل من صهره وشبكة السرقة التابعة له فباعوها في ذمار. وبعد 5 أيام عادوا إلى صنعاء لمطالبته بمواصلة جلب السيارات إلا أنه "ماطلهم" على حد تعبيره.
في هذا الفصل يظهر شخص آخر هو عماد علي سعد الريمي. وهذا الشاب البالغ من العمر 24 عاماً لعب أدواراً مهمة في القصة، وهو ثاني شخص في الخلية المزعومة المتهمة بالتخابر لصالح إسرائيل. فقد كان بمثابة الذراع اليمنى لبسام منذ تأسيس شركة "ففكون" المزورة. انضم إلى الشركة بصفة نائب المدير وباسم مستعار هو نايف عبدالله العريقي. وإذ اضطلع هنا بمعاملة استئجار السيارات، فإنه في الفصل التالي سيؤدي دور "أبو الغيث" زعيم منظمة الجهاد الإسلامي، إنما بأداء رديء. كل هذا لقاء 300 ألف ريال، لكن بسام "لم يعطني سوى 30 ألف ريال وظل يماطلني ولم يف بوعده" وفقا لشكوى عماد في إحدى مدونات التحقيق.
شبح الديون ظل يطارد بسام كالعفريت. ولسوف تبقى وقائع شركة "فف كون" طي الكتمان إلى أن وقع بسام في قبضة السلطات يوم 20 سبتمبر 2008.
-3-
علي أن أسترسل هنا بعض الشيء. وسنجد في نهاية الأمر أن مسألة "التخابر مع إسرائيل"، إن وجدت أصلاً، لن تشغل سوى حيز صغير فقط. أتذكر أنني كنت أضحك لحظة اطلاعي على أجوبة بسام وعماد المثيرة للسخرية والرثاء في آن.
لما منيت محاولات بسام المتكررة، لتخطي محنته، بالفشل الذريع، بدأ يتصرف على نحو غريب وطائش. مع ذلك أظن أنه لا يصلح أن يكون شريراً بارعاً. وكذلك الأمر بالنسبة إلى عماد الريمي، معاونه وصديقه الذي تقاطعت مصائرهما عندما تعارفا عام 2003.
الآن سيتولى عماد إدارة شطر كبير من دفة الحديث. وسيغدو اسمه من الآن فصاعدا
"أبو الغيث". ولكي يتسنى للقارئ إدراك إلى أي حد كانوا بلهاء، سنغض الطرف عن التعابير العامية والجمل الركيكة. يقول عماد للمحقق بشأن منظمة الجهاد الإسلامي:" الفكرة ليست فكرتي ولكنها مسرحية دبلجها بسام الحيدري ذات يوم واحنا مخزنين أنا وبسام في بيت (ع.ع) بعد أن كثرت الديون على بسام حيث أنه كان مديناً ل(ع.ن) مليون ريال ول(ع.ق) 2000 دولار، فطلب مني بسام الاتصال بعصام دويد (مرافق الرئيس) وأملى علي ما أقول له. فاتصلت ودار بيننا هذا الحديث: السلام عليكم، فقال وعليكم السلام. قال من معي؟ قلت له أبو الغيث. فقال أهلاً وسهلاً. أي خدمات؟ فقلت له والله احنا شباب وفيه ناس يشتونا نشتغل معهم في الإرهاب. فقال ما المطلوب؟ فقلت له نشتي نقابل الأخ الرئيس نحن عاطلين ونشتي عمل لكي لا نضطر نعمل مع الحركات الإرهابية. فرحب وقال حط لي موعد واتصل فيني. وأنهينا الاتصال".
المكالمة الثانية أجراها مع تاجر سلاح. يقول عماد في تخبط مريع: "طلب مني بسام أن أذكر في الاتصال بأنني من حركة حماس وأن هناك صفقة سلاح في المياه الإقليمية اليمنية نريد توصيلها إلى غزة. فرد علي: يا أخي أنا إنسان مسكين مالي دخل ولا أقدر. وكان الغرض أن نطلب من الرجّال 50 ألف دولار كما أخبرني بسام لكنني لم أفعل".
بعد يومين اتصل عماد بعصام دويد مرة ثانية لتذكيره بطلب مقابلة الرئيس. "فقال لي يا أخي أشتي اعرف ايش مضمون المقابلة، فقلت له بحسب تعليمات بسام: نشتي نكلمه بخصوص الإرهاب وما إرهاب. فطلب مني أن أحضر إلى عنده في وجهه". على أية حال تصرفات خرقاء للغاية.
المكالمة الرابعة تضمنت التالي: "أنا طلبت مقابلة الرئيس فأهملت الموضوع، بس سوف نستخدم أسلوب آخر، سوف نهز المصالح الغربية، فقال لي مافيش داعي يابو الغيث سوف نتفاهم. وأغلقت السماعة". تلقى عماد وعداً قاطعاً من بسام بمساعدته في الزواج مقابل إجراء المكالمة الأخيرة مع عصام دويد:" بيني وبينك 600 ساعة فقط. وأقفلت السماعة".
لماذا اختاروا عصام دويد بالذات؟ هذه مسألة يكتنفها الغموض. على أن بسام أكد أن الهدف هو "عمل شوشرة، ولأن عصام دويد رفض الاستجابة لمطالبي وإخراجي من أزمتي، بحكم أنهم قدوة للوطن ونحن أبناؤهم فقررت أن أقلقه". يراودني شعور بالشك في أن يكون مصدر هذه العبارة هو بسام الحيدري، لاسيما هذه "قدوة الوطن ونحن أبناؤهم". لكن ما هو مؤكد هو أن بسام أحس بتعاظم عذابه وتمزقه فاختار السير في الدروب الأشد خطورة.
توالت اتصالات التهديد "للفندم عصام" بحسب توصيف بعض محاضر التحقيق. وكان بسام قد أعد العدة اللازمة للتخفي. فاشترى شرائح هاتف جوال باسم مستعار هو أسامة عبدالله الشجري. ومن هذه الأرقام راح يمطر عصام دويد بوابل من الرسائل، بالتزامن مع اتصالات عماد وشخص آخر. في الوقت الذي بدأ فيه بإصدار البيانات عبر الانترنت باسم "منظمة الجهاد الإسلامي".
هل اهتدى بسام بمحض الصدفة إلى فكرة استخدام اسم منظمة إرهابية لابتزاز دويد؟ في الواقع هناك أكثر من نظرية لتفسير سلوكه هذا. منها أن بسام ربما فكر أنه طالما عصام دويد مقرب من الرئيس فلا بد أن له علاقة وطيدة بأجهزة الأمن، وبالتالي سيكون أي نجاح أمني مدعاة لمكافأته. وبناء على هذا التقدير قرر بسام تلفيق قصة قبل زيارة عصام ليواصل إلحاحه بإقراضه مبالغ لتسديد ديونه. بطريقة أخرى: بعد تهديدات "أبو الغيث"، وبعد رسالة ( sms ) بعثها بسام، تتوعد بتفجير سيارته "الهمر والمونيكا"، ذهب الأخير لزيارته. وإذ كرر طلبه بشأن القرض "باعتبار أن حفل إيهاب توفيق فشل بسبب التهديدات التي تلقاها المكتب من الإرهابيين"، رد عصام على الفور: "شوف، في واحد بيهددني إذا طلع نفس الشخص الذي يهددك (كذب بسام بأنه يتعرض للتهديد) سأخارجك بدون دين".
"إثر ذلك استمريت في تهديده. وقمت بإشهار منظمة الجهاد الإسلامي ومواصلته بالمعلومات باعتباري متعاون كي أحصل على المبلغ الموعود، حتى أنه كان يرسلني إلى وكيل وزارة الداخلية لقطاع الأمن وإلى الأمن القومي وإلى مكافحة الإرهاب لكي أدلي لهم ما لدي من معلومات حول هذه الخلية"، قال. بمعنى أنه كان يصنع المعلومات والأحداث لا لشيء إلا لكي ينقلها إلى دويد، بوصفها إنجازاً أمنياً جديراً بالمكافأة.
غداة تفجير السفارة الأمريكية بعث بسام ببيان الكتروني يحتوي على ما يمكن أن يوهم عصام دويد بأنه مستهدف بالفعل من قبل هذه الخلية: "أخي أبو الغيث نبارك لكم النجاح، ثانيا بالنسبة لمهمة عصام دويد قد تأجلت". وحين تتناقل وسائل الإعلام خبر تهديد مرافق الرئيس بالتصفية، يكون بسام قد برهن على صدق معلوماته، وبالتالي يحرز المكافأة.
مسرحية سخيفة أليس كذلك؟
سوف أكذب لو قلت أن الوقائع واضحة ومترابطة. إذ كيف لي أن أفهم وقد أحصيت بضعة بيانات تبنى فيها بسام عمليات كبيرة مثل هجوم تريم وتفجيرات السفارة الأمريكية في صنعاء، وتناقلتها وسائل الإعلام العالمية بكل جدية. عشرات الرسائل القصيرة والمكالمات لكل من الشيخ حميد الأحمر يطالبه بتمويلهم وكذلك إلى شقيقه قحطان الأحمر، والسفير السعودي يساومه على 500 ألف دولار مقابل عدم تفجير السفارة، ومكتب منصور بن زايد آل نهيان في الإمارات، ومندوب الأمن في السفارة البريطانية؟. وكيف وجد الجرأة لزيارة منزل احمد علي عبدالله صالح ومنزل رشاد العليمي لإبلاغهم بأن هناك هجمات سوف تتعرض لها مصالح أجنبية في اليمن؟
هستيريا تدعو للذهول حقاً. كل هذا خلال مدة لا تتجاوز الشهرين. لا بد أن في الأمر لعبة تتعدى قدرة بسام على صناعتها. لكن بالمقابل لماذا لا يكون الأمر أبسط مما نتصور. من يدري، فشخص غريب الأطوار كبسام، مضطرب وفاقد الأمل يجعلك تشعر بأن كل شيء ممكن وبأتفه الوسائل.
ألم أقل أن التفاصيل المملة هذه ستكون كفيلة بجعل مسألة "التخابر" المزعوم هامشية جداً؟
الحقيقة، لا يوجد ما يشير إلى إمكانية أن يكون بسام قد أجرى اتصالات مع الموساد الإسرائيلي، فضلا عن رفيقيه عماد الريمي وعلي محفل. الراجح أنها كانت فرقعة إعلامية ليس أكثر. حتى أن قرار الاتهام لا يتضمن أي إشارة إلى أية عملية تجسس لا من قريب ولا من بعيد، باستثناء هذه العبارة: " المتهم الأول (بسام) سعى باتصال غير مشروع لدى دولة أجنبية، بأن بادر بنفسه لخدمتها وبعث برسالة عن طريق البريد الالكتروني الخاص به إلى رئيس وزراء الكيان الصهيوني تضمنت "نحن منظمة الجهاد وأنتم يهود ولكنكم صادقين ونحن مستعدون لأي شيء" واستلم الرد منه وفيه "نحن مستعدون لدعمكم لتكونوا حجر عثرة في الشرق الأوسط وسوف ندعمكم كعميل".
لست مضطراً للدفاع عن بسام، لكن علينا أن نضع الأمور في نصابها فحسب. فأولمرت لو صحت الرسالة ليس الموساد. ثانيا لا علاقة لعماد وعلي محفل بالأمر، ما يعني عدم وجود خلية مرتبطة بإسرائيل. ثالثا لم يكن نص الرسالة كما وردت في قرار الاتهام متطابقاً مع منطوق اعترافات المتهم.
بسام عثر على إيميل أولمرت عبر محرك البحث "جوجل"، كما قال. وربما في لحظة قنوط عارمة قرر القيام بشيء ما شاذ وغير منطقي للانتقام من هذا العالم العدمي الذي لم يهب لنجدته. فكتب إلى أولمرت: "نحن منظمة الجهاد... انتم اليهود إذا وعدتم صدقتم بوعودكم بالرغم من أنكم أعداء الله وأعداء الإسلام ولستم مثل الحكام العرب كذابين. إذا أردتم أن نكون حجر عثرة في الشرق الأوسط فنحن مستعدون". فجاء رد مكتب أولمرت على هذا النحو: "نحن موافقين لدعمكم ومستعدين لأي شيء تريدونه". يقول بسام: "فلما جاء الرد قمت بحذف الرسالة لشعوري بالخطر".
وحينما طرح عليه المحقق سؤالاً عن دوافع تواصله مع أولمرت، أجاب بسام ببساطة: "كان الدافع هو عدم رضا وضبح من المعيشة".
يجتهد أرغد في التفتيش عن صورة والده في الصحف ونشرات الأخبار ، والزوجة تقول أن القصة صاغها مؤلف فنان ، فيما يعلق أحد الجيران : " لو قالوا لي إن بسام يتخابر مع عاقل الحارة ما شاصدقش "
آل الحيدري .. العائلة المنكوبة
منذ إعلان الرئيس عن تمكن الأجهزة الأمنية من القبض على خلية إرهابية تتخابر مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت بات وضع أسرة الحيدري في غاية الصعوبة.
فالمتهم الرئيس فيها بسام الحيدري هو الأخ الأكبر لتسعة من البنين والبنات، خمسة منهم صم وبكم، يعيشون وضعاً صعباً في ظل غياب والدهم منذ خمس سنوات في ماليزيا.
أم بسام -التي تلعب أيضا دور الأب لكل هؤلاء- تعاني من عدة أمراض أبرزها جلطة في المخ وضعف في القلب. فهل لا يزال القلب يقوى على خوض رحلة تبدو طويلة أمام اتهامات وجهت لبسام وطال أثرها الأسرة كلها.
لم يكن بيت الحيدري يذكر في الحي كله إلا بخير. لكن القضية حملت الأسرة أعباءً إضافية حين صارت مثار جدل وأخذ، الهدوء الذي تتسم به الأسرة العدنية بعداً آخر، حيث فسر من قبل آخرين بأنه ليس سوى غموض باتت تتكشف خيوطه بعد أن ظهرت صورة "الحمل الوديع" بسام - كما كان يطلق عليه جيرانه- في الصحف الحكومية كإرهابي خطير ومتهم بالتخابر مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت شخصياً.
في منزلهم المتواضع بشارع الثلاثين المتفرع من شارع تعز والمكون من شقة تحت الأرض تستقبلك طفلتان دون الثامنة تفيضان حيوية. لكن الصمت يظل مخيماً على المكان رغم دخولهما معك في حوار يبدو متشعباً وطويلاً. ترويان المأساة التي حلت بالأسرة مؤخراً. لكن إيغالهما في الإشارات وعدم القدرة على الكلام يجعلك تتعاطف مع فتاتين حرمتا نعمة السمع والكلام، لتكون أمام مأساة أكبر عندما تعرف أن نصف أفراد الأسرة هم على ذات الحال. وبدا طفل ثالث برفقتهما -اتضح فيما بعد أنه أرغد ذو الأربع السنوات نجل السجين بسام- في دور المترجم، لكنه بما يحفظه من كلمات وطريقته في النطق لا يبدو جديراً بالقيام بالمهمة.
كان بسام هو المرشح ليقوم بدور الأب بعد أن اختفى الأخير في ماليزيا واستبدل أسرته بأخرى هناك. لكن القدر يخبئ للأم أدواراً أكبر ليس أقلها خوض رحلة الدفاع عن ابنها بسام لتقنع القضاء بأنه بريء.
تقول أم بسام التي انتقلت مع زوجها من عدن للعيش في صنعاء من حوالي أربع سنوات قبل الوحدة أن بسام منذ طفولته بدا هادئا ومخلقا بشكل يحعل كل من يتعرف عليه يحبه. وعلى الرغم أنه لم يتمكن من مواصلة دراسته في قسم الصيدلة في المعهد العالي للعلوم الصحية، إلا أنه كان حريصاً على العمل ليقوم بواجباته تجاه أسرته، سواء قبل الزواج أو بعده.
لم تعرف عنه أسرته ولا جيرانه أنه دخل في مشاكل مع أحد. وعلى الرغم أنه لا يبدو ملتزماً في الجانب الديني كما ينبغي، لكنه لم يكن في وقت سابق يدخن ولا يخزن ليتعلم التخزين لاحقا. ووقف مؤانساً ومسانداً لأمه بعد أن غادر الأب البلد واستقر وتزوج في ماليزيا وانقطعت زيارته عنهم منذ خمس سنوات .
زوجة بسام (أم أرغد) تروي القصة: "زوجي شخص هادئ، يكافح ليوفر لأسرته متطلبات الحياة ومن يعرفه جيداً لن يصدق التهم التي لفقت له فهو لا يصلح لما نُسِب إليه أصلاً".
تعلق على سماعها خبر الإعلان عن القبض على خلية إرهابية يتزعمها زوجها تقول : لم نصدق لكننا أصبنا بالذهول لأن التهمة تُلصِق ببسام شخصيتين بعيدتين عنه تماماً وهما شخصية الإرهابي والجاسوس".
تبدو الزوجة متماسكة أكثر من الأم. تروي القصة بهدوء وثقة، وتؤكد ذلك بتكرار: "أنا أعرف زوجي وواثقة من أن القصة فبركة لا غير".
وتشير إلى أن لحظات الذهاب به إلى البحث الجنائي لم تكن تساعد على مجرد الشك أن تهماً بهذا الحجم ستوجه له. تقول، وهي نفسها الرواية التي تتطابق مع ما سمعناه من المتهم بسام الحيدري أثناء زيارتنا له في السجن المركزي أمس الأول الأحد، إن أفراداً من البحث الجنائي جاؤوا لعصام إلى البيت ليلة عشرين من رمضان الماضي، وكان ساعتها في المقوات يشتري قات. قالوا له نشتيك. فعاد إلى البيت وغير ملابسه وركب معهم في السيارة التي جاؤوا على متنها وكانوا ينتظرونه جنب البيت، بعد أن اتصل لعصام دويد يستفسره أيش يشتوا قال له روح معهم شوف أيش يشتوا. تضيف "لو كان -فعلاً- إرهابياً أو جاسوساً لصالح إسرائيل كان سيتم القبض عليه بهذه الطريقة؟ يمكن كان الطقوم باتحوط الحارة كلها".
من ساعتها لم تعلم عنه أسرته أي شيء. وبحسب أم أرغد أن البحث كانوا يقولون، لهم "انسوه ماهوش عندنا ما دفع الأسرة الاتجاه إلى الأمن القومي والسياسي لكنه لم يخرج من البحث إلا إلى النيابة. وتضيف لكن بعدما اتضح لهم ان تهمتهم كانت أقرب إلى المزحة الثقيلة سمحوا لأسرته بزيارته. مشيرة إلى أن ذلك تم بعد أن حقق معه وزير الداخلية المصري بنفسه واتضح له أن بسام بريء من كل تلك التهم. وتضيف: " زاد وزير الداخلية أدى له خمسة عشر ألف ريال ورسل لي بعشرة ألف وشخط له وجهه وقال له وجهي يا بسام انك عاتخرج. واحنا منتظرين شخطة وجه المصري". وتحشد أدلة إثبات براءة زوجها مضيفة: "لو فعلاً درى وزير الداخلية أنه إرهابي أو يتخابر مع إسرائيل كان عايزيد يدي له فلوس"؟.
لكنها تؤكد أن مداهمة البيت وتفتيشه بعد أربعة أيام من احتجاز بسام كان بطريقة همجية ومستفزة. تقول: "جو حوالي ثمانية من البحث الجنائي داهموا البيت بشكل مفاجئ وقلبوه قلب ما خلوا شي مكانه، لكنهم لم يجدوا شيئا يثبت اتهاماتهم". مشيرة إلى أنهم أخذوا ملفاً يحتوي على شهادات كانت تحتفظ بها من أيام دراستها، وأشرطة فيديو مسجل عليها حفلة زفافها وحفلة عيد ميلاد ابنها أرغد، بالإضافة إلى التلفون السيار الشخصي حق زوجها بسام.
تستغرب أن تلك المضبوطات لم تُرد إليها بعد أن فُحصت، وتم التأكد من أنها لا تحتوي أي أدلة إثبات. كما أن النيابة نفت أن تكون قد تسلمت مضبوطات من هذا القبيل، باستثناء الهاتف المحمول التابع لبسام. ولم يلتفت البحث إلى توجيهات النيابة بتسليم أشيائها الشخصية التي أخذها أفراد البحث.
تبدي أم رغد استياءها من طريقة تعامل البحث مع أشرطة تحتوي صوراً عائلية، مشيرة إلى أنها -وبعد تصريحات أدلت بها لقناة العربية عقب الجلسة الأولى لمحاكمة زوجها- تلقت اتصالاً من هاتف ثابت (تأكدت فيما بعد أن الرقم يتبع البحث الجنائي) قال لها أحدهم على التلفون "بطلي فلسفة على الفضائيات، أنتي دارية صورش وين هن" مشددة على ضرورة الضغط على البحث لتسليمها صورها الشخصية خاصة وأن البحث لم يسلمها للنيابة ضمن المضبوطات".
تلخص أم أرغد حديثها عن الموضوع بأن التهمة الموجهة لزوجها قصة تفنن أحدهم في صياغتها بطريقة تخدم البعض لا تستطيع هي تحديدهم.
بسام ومن خلف قضبان السجن المركزي أكد ل"المصدر" أنه تعرض للضرب المبرح أثناء التحقيق في البحث الجنائي، وأن المحققين كانوا يطلبون منه التوقيع على أوراق كثيرة لا يعلم مضمونها. ويؤكد أن الشخصيات الوهمية والتهديدات التي ورد ذكرها في محاضر التحقيق المقدمة من البحث لا أساس لها من الصحة.
يتحدث عن 48 يوماً من السجن في البحث الجنائي كانت عصيبة بما فيها من ضرب وتهديدات تدفعه إلى الموافقة على الإدلاء بأي اعترافات تطلب منه. يقول: "دخلونا في البداية سجنه انفرادي، وبعدين قالوا لي أنهم قد جابوا الوالد من ماليزيا وسجنوه وسجنوا عمي وأخي وطلبوا مني اعترافات عشان يخرجوا أهلي من السجن. وقعت لهم على كل حاجة". مشيراً إلى توقيعه على 85 ورقة لا يعلم منها المحامي سوى 35ورقة.
يقف خلف القضبان ملصقاً وجهه بالشبك ذي الفتحات الصغيرة وبجانبه رفيقه عماد الريمي يبذل جهداً في محاولة إسماعنا صوته وسط ضجيج لحظات الزيارة ويحاول تلخيص قضيته: "يا أخي كل ما في الأمر إن احنا أسسنا شركة متخصصة في إحياء حفلات فنية، وبعد ما أعلنا عن حفل للفنان إيهاب توفيق تلقينا تهديدات إذا أقمنا الحفل وبالتالي خسرنا مبالغ كبيرة، وبعدها وعدنا عصام دويد بالمساعدة، وبعدين ما عاد سوى لنا شي".. أما عماد فيؤكد أنه لم يكن له دور سوى التوقيع على محاضر لا يعرف شيئاً عن محتواها.

هنا الأسرة لا يهمها الخوض في قضايا تفصيلية من قبيل خسارة شركة "استندرز موف" الفنية، ولا تنظيم الجهاد الإسلامي، أو علاقة القصة بعصام دويد الذي تحول إلى شخصية محورية في القضية فيما بعد، فهم لا يعلمون سوى أن ابنهم شاب مكافح يطمح لتوفير احتياجات أسرة محط احترام جيرانها. وما يهم الأم المريضة والزوجة المفجوعة هو أن يتضح للرأي العام أن بسام بريء من تهمتي "الإرهاب والجاسوسية لصالح إسرائيل" المتناقضتين واللتين أدخلتا الأسرة مأزقاً في ظل مجتمع لا يفرق بين الشائعة والحقيقة، خاصة وأن وسائل الإعلام وجدت في القضية وتناولها مادة للإثارة ولم تبحث عن الحقيقة، وهو ما ضاعف الألم على نسوة لا يملكن من القوة ما يواجهن به كل هذا الضخ. تقول أم أرغد: "المعركة غير متكافئة. بسام المسكين يواجه الدولة وإعلامها، حتى صحف المعارضة شهّرت بنا".
عبد الواحد الحيدري – أخصائي أشعة- عم بسام يحاول مساندة زوجة أخيه بتحركات سريعة بين السجن ومنظمة هود ومختبره ليؤدي دوراً لا أحد سيقوم به. ببشاشة تجعلك تتعامل معه منذ الدقائق الأولى كصديق يشرح لك الموضوع وكيف تلقى الخبر ذات مساء رمضاني ليعود من عدن ليلة 26 رمضان ويبدأ بمتابعة قضية جاءت ككابوس على الأسرة كلها.
يرى عبد الواحد أن الموضوع هول أكثر من اللازم، وأن تناول الإعلام للقضية ألحق بالأسرة أضراراً نفسية واجتماعية يصعب احتمالها. وعلى الرغم من العلاقة الطيبة بجيرانهم يبدي عبد الواحد تبرمه من كلمات يحاول البعض بها إيلام الأسرة.
فيصعب عليه أن يسمع من أحدهم "أنتم يا بيت الحيدري بانفتح لكم سفارة لإسرائيل هانا".
ومع أنه يبدي انزعاجه من تعامل بن أخيه مع ناس كبار مثل عصام دويد لكنه يعبر عن ثقته من براءة بن أخيه الذي يصغره بالعمر حوالي ثلاث سنوات ويؤكد أن عجز النيابة عن تقديم أي أدلة أمام القضاء تثبت إدانة بسام واثنين آخرين اتهما معه بنفس القضية.
ويعتقد أن المحكمة باتت تدرك كل هذا، مدللاً على ذلك بأن الإجراءات الأمنية المشددة التي غابت في الجلسة الثانية خلافاً لما حدث في الجلسة الأولى تشير إلى قناعة القاضي بأن المسألة ليست كما هولها الإعلام.
ويبقى أرغد – 4 سنوات - الذي سماه أبوه بهذا الاسم طموحاً الحياة أرغد، يفتش عن صورة أبيه في كل جريدة يجدها أمامه وينتظر أن يراه في كل نشرة أخبار في التلفزيون. لا يعرف من الموضوع سوى أنه ليس بالإمكان حالياً أن يعانق والده ويجره من يده إلى الدكان ليشتري له جعالة كما كان يفعل من قبل، لكنه يستيقظ كل صباح ليسأل عن والده ويوجه دعوات حفظها عن جدته "يا رب يخرج بسام". وبحسب أمه فإنه في كل مره يذهب معها إلى السجن لزيارة والده يطلب منها مئة ريال ويناولها لأحد أفراد الأمن ويقول له "خرج لي بابا".
من يعرف بسام عن قرب لم يخترقهم الضخ الإعلامي ويغير نظرتهم إليه، فلا يزالون يؤمنون يقينا أنها سحابة صيف وانقشعت. وبحسب حديث أحد أبناء حارته أن بسام شاب وديع مسالم لا يصلح لأداء دور أي من الشخصيتين اللتين روجتا له. لا يصلح إرهابي ولا يصلح للتخابر مع أولمرت، ويعلق ساخراً "لو قالوا لي أنه يتخابر حتى مع عاقل الحارة ما باصدقش".
أسماء كثيرة وردت في محاضر التحقيقات وربما لعبت أدواراً مهمة، لكن وبحسب متابعين للقضية قد غادرو سجن البحث سريعاً دون عناء لأن لهم ارتباطات بنافذين، ولم يرافق بسام في رحلته التي أنهت شهرها الخامس سوى اثنين هما عماد الريمي وعلي محفل لأنهما لم يجدا سنداً كما هو حال بسام الذي تتعامل معه الجهات الرسمية كمتهم رئيسي.
تثني أسرة بسام على وقوف منظمة هود بجانبهما في هذه المحنة وتكليفها محامين متطوعين للترافع في القضية. وبحسب المحامي أمين الربيعي فإن القضية أشبه بمزحة ثقيلة، وتؤكد أن المحكمة ستنهيها فوراً، مؤكداً أن ترافعهما سيبدأ من الدفع بعدم قانونية الإجراءات التي اتخذت في القضية لعدم قانونية إجراء القبض على بسام ورفيقه.
ويدعو وسائل الإعلام إلى التعامل مع الموضوع بمسؤولية بعيداً عن التهويل والإثارة لأن هذه الطريقة في تناول الموضوع – بحسب الربيعي- تلحق أضراراً فادحة بالأسرة وتسهم في تضليل العدالة.
* ينشر بالتزامن مع صحيفة المصدر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.