هذه هي المرة الثانية التي أزور فيها محافظتي أبينوشبوة خلال أقل من ثلاثة أشهر، وللأسباب ذاتها تقريبا: صورة الوضع التي تحاول أن ترسمها بعض وسائل الإعلام، بينما تكون صورته في هاتين المحافظتين مختلفة كثيرا وعلى مختلف الصُعد تقريبا، بل لا تمت بصلة إلى تلك الصورة، بالذات في محافظة أبين أو في عاصمتها مدينة زنجبار كمنطقة معارك مستمرة. ولم يكن هناك من جديد يمكن أن يشد الانتباه بقوة مثل تزايد أعداد من ينفرون للجهاد في سبيل الله، كما يقولون، خصوصا بعد التوقيع على المبادرة الخليجية التي رأى فيها كثيرون ممن قدموا إلى أبين، أنها بمثابة خيانة لدماء الشهداء واستجابة لإملاء الخارج. السؤال الأكثر طرحا السؤال الذي يطرحه الجميع هناك هو: ما هو موقف شباب الثورة في الساحات من اتفاق النظام والمعارضة على نقل السلطة في إطار المبادرة الخليجية؟. ويتصورون أن من شأن هذا الاتفاق أن يوسع الهوة أكثر بين الشباب وبين أحزاب المعارضة اليمنية التي يرون أنها تعمل لمصالحها بمعزل عن مطالب شباب الثورة. وبالنسبة لمسألة وجود أنصار الشريعة مستقبلا إذا ما استقر الوضع لنظام جديد ووجد نزوع شعبي نحو الاستقرار، يقول بعض قادة التنظيم إن الاستقرار الشعبي في المناطق التي يسيطرون عليها تم قبل أن يكون هناك أي استقرار في منطقة أخرى، وإنهم لم يستولوا على هذه المناطق ليسلموها في المستقبل لأي أحد. أنصار الشريعة كضرورة لملء فراغ خلفه الغياب الرسمي وأطالت مفاوضات نقل السلطة من أمده. من خلال نشاطها في المناطق التي تدير شئونها، تبدو جماعة أنصار الشريعة حاجة ملحة في المناطق الأخرى التي لا تسيطر عليها في كل من محافظتي شبوةوأبين، في نظر معظم السكان المحليين، خصوصا في ظل الغياب شبه الكلي للحكومة في هاتين المحافظتين أو في معظم مناطقهما منذ فترة طويلة. لكن هذا الجماعة لم تستغل فرصة الفراغ الذي خلفه غياب النظام لتعزيز وجودها، من خلال الاستيلاء على مزيد من الأرض، كما يفعل أو كما فعل غيرها، خصوصا في ظل واقع الثورة الحالي، مع أن أمر الاستيلاء متاح لها هذه المرة أكثر من أي وقت مضى. وتخشى القاعدة أو جماعة أنصار الشريعة من إثارة مشاعر المواطنين بشكل معاكس ضد وجودها إن هي استولت على مناطقهم أو حاولت إدارة شئونها دون وجود رضا شعبي تام، لكنها تراهن على الرضا الذي قد تخلقه الحالة السيئة التي ستتمخض حتما عن وضع الفوضى. على أن أنصار الشريعة لا يغضون الطرف عن المشاكل في المناطق التي لهم فيها وجود خارج عملية السيطرة، فهناك فرق، بالنسبة لهم، بين الحضور للسيطرة على الأرض وإدارة شئون الناس فيها، وبين واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليهم كقادرين على التغيير. فمديرية المحفد التي تخضع لسيطرتهم عمليا، وإن لم تكن كذلك إداريا، تشهد نشاطا قويا لأنصار الشريعة، بالذات في مجال تأمين الطريق العام من المتقطعين واللصوص، لاسيما وأن مديرية المحفد أو الطريق العام الذي يمر منها، عُرف بأعمال سرقة بشعة في حق المسافرين، كانت تصل حد تجريد النساء مما يمتلكن من ذهب. واكتفى أنصار الشريعة بمجرد الحضور في هذه المديرية، ولم يسعوا حتى لإقامة نقاط في مداخل ومخارج المديرية، رغم حاجتهم لذلك، في إطار تضييق الخناق على اللصوص وقطاع الطرق، فلا يريدون حد تعبير أحد مقاتلي الجماعة أن يثيروا حنقا محليا عليهم، ويرى هذا المقاتل أن في الأمر مبالغةً في المراعاة، فالسيطرة التي تضبط الوضع ستحظى بقبول، ولو على المدى المتوسط أو البعيد. ولا تقتصر أضرار الانفلات الأمني على سكان المديرية دون أن يكون لأنصار الشريعة نصيب منها، ففي الأسبوع الماضي أصيب وقتل بعض مقاتلي التنظيم في مديرية المحفد بعد اشتباكات جرت مع بعض اللصوص. لكن أنصار الشريعة في المديرية يرون أنهم حققوا نجاحا كبيرا وملموسا حين تمكنوا من تأمين الطريق العام الرابط لمحافظة شبوة بمحافظة أبين وما يليها من المحافظات. أما مديرية "أحور" القريبة، وهي مديرية كبيرة من حيث المساحة الجغرافية، فقد اكتفى أنصار الشريعة بتطمينات أهلها لهم بخصوص تأمين الطريق العام رغم ضخامة أعمال التقطع القبلية التي شهدها الطريق العام في تلك المديرية خلال الأشهر الماضية بعد أن كان هو الطريق البديل لطريق المحفد. ويوجد في إحدى ضواحي مديرية أحور لواء عسكري تابع للنظام، لكن أنصار الشريعة أخذوا تعهدات من قبائل المديرية بتولي أمر اللواء العسكري إن قام بأي تحرك من أي نوع ضدهم أو ضد أبناء المديرية، ولا يبدو أنه سيقوم بشيء من هذا القبيل، لقلة عتاده العسكري، ولوجوده في منطقة محاطة بكثير من المناطق التي يتواجد فيها مقاتلو الجماعة. وربما تمثل كل من مديرية "لودر" و "مودية" التحدي الأكبر لأنصار الشريعة، في محافظة أبين، وبالأخص مديرية "مودية" التي تجمع تنظيم القاعدة ببعض سكانها قضايا ثأر، على خلفية ما نفذه وينفذه التنظيم من عمليات ضد من يسميهم "الصحوات" الذين جندتهم السلطة أو جهات أخرى مهتمة بقتال تنظيم القاعدة، لقتال التنظيم، وإن كان من بينهم سلفيون من الذين ينادي التنظيم بمناصرتهم ضد ما يتعرضون له في محافظة صعدة من حصار تفرضه عليهم جماعة الحوثي منذ أكثر من شهر. والغريب في الأمر أن كثيرا من العمليات التي نفذها التنظيم ضد القوات الحكومية في هاتين المديريتين قبل الثورة، خصوصا قوات الأمن المركزي، جاءت في إطار الانتصار لأبنائهما جراء بعض الأعمال التعسفية التي تعرضوا لها، وقد وثق التنظيم كل ذلك مسبقا في إصدار له بعنوان "رد العدوان". والأكثر غرابة مما تقدم هو أن هاتين المديريتين كانتا إلى وقت قريب أهم معقل لتنظيم القاعدة في محافظة أبين، وفيهما دارت فصول من المعارك الشرسة بين التنظيم وبين القوات الحكومية. وعلى مقربة من مديريتي لودر ومودية، تقع مدينة شقرة الساحلية، وهي المدينة التي تكاد تكون ثاني نموذج يديره تنظيم القاعدة من ألفه إلى يائه وتسري عليه أو فيه قوانينه، خصوصا في جانب تنفيذ الحدود، بعد مدينة "وقار". ومدينة "وقار" هي المدينة المعروفة باسم "جعار"، وتعتبر أهم معقل إستراتيجي للتنظيم بعد سيطرته على محافظة أبين، وانطلق التنظيم في تغييره اسم المدينة التابعة إداريا لمديرية خنفر، من بشاعة الاسم الذي يعني في اللغة أصوات أو بيوت أو مسمى للضباع، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم غير بعض أسماء الأشخاص والمناطق التي تحمل مدلولا سيئا، حد تعبيرهم. وبالنسبة للوضع الداخلي لمدينة جعار أو "وقار" فقد شهد تحسنا أكبر، مقارنة به قبل ثلاثة أشهر، أي في الفترة التي زرت فيها المدينة، حيث تفرغ التنظيم أكثر للعمل الدعوي ولإدارة شئون المدينة، جاعلا منها نموذجا شبيها للدولة الإسلامية التي يسعى لتحقيقها واقعا، كما اختفت أو كادت مظاهر الاستنفار العسكري العام التي كان يعيشها مقاتلو التنظيم في المدينة بسبب الغارات الجوية التي كانت تنفذها طائرات حربية يمنية وسعودية في الأشهر الماضية. يضاف إلى ذلك، وهو الأهم تقريبا، أن بعض أسر المدينة عادت إليها بعد أن كانت قد نزحت في الأشهر الماضية هربا من القصف الجوي آنف الذكر. أما مدينة زنجبار عاصمة محافظة أبين، فقد ظلت المعارك الدائرة فيها طوال الأسابيع الماضية مادة دسمة لبعض وسائل الإعلام المحلية، رغم أن ما كان يجري على أرض تلك المدينة مغاير تماما لما كان يُكتب على صفحات تلك المطبوعات التي كانت تعتمد في جل أخبارها على "شهود عيان" في مدينة لا وجود فيها لغير القوات الحكومية ومقاتلي أنصار الشريعة. ويقول التنظيم إن بعض تلك المطبوعات امتهن الكذب، بينما اعتمد البعض الآخر على جهة في المحافظة أطلقت على نفسها اسم "حركة سالمين" تصرح للإعلام عن قتلى وتتحدث عن عمليات ضد أنصار الشريعة. "وقد تم القبض على بعضهم وأبدوا ندمهم على هذه التصريحات الكاذبة، وتذرعوا أنهم فقط يريدون المال". وبخصوص سير المعارك في مدينة زنجبار، فيبدو أن قوات الجيش اكتفت بالوصول إلى منطقة الملعب وما جاورها بالإضافة إلى منطقة اللواء 25 ميكانيكي، وهو وصول أراده التنظيم نفسه بعد انسحابه من جبهة القتال بمنطقة دوفس في إطار إستراتيجية عسكرية استبدل فيها التنظيم مواجهاته التقليدية التي كانت جديدة عليه أصلا، بإستراتيجية حرب العصابات التي يجيدها كثيرا، وهذا في جبهة دوفس لا غير. وتُعتبر منطقة با جدار في مدينة زنجبار خط التماس الفاصل بين القوات الحكومية وبين مقاتلي أنصار الشريعة، على أن معظم الأماكن التي تحيط بمناطق تواجد قوات الجيش، محاطة بحزام من الألغام يليه حزام آخر من الكمائن البشرية، ما يعني أن الحملة العسكرية الكبيرة، لم تفك الحصار بشكل كلي عن لواء الصوملي، وإنما صارت هي الأخرى شبه محاصرة، لكن في نطاق جغرافي أوسع. ولا يختلف الوضع كثيرا في محافظة شبوة المجاورة، فلأنصار الشريعة حضور مشابه لحضورهم في محافظة أبين. تجدر الإشارة هنا إلى الفراغ الأمني كان حاصلا حتى في ظل وجود الحكومة، وإن لم يكن بالشكل الذي جاء على إثره أنصار الشريعة. للإطلاع على بقية التقرير انقر هنا