لم ينفذ الشمال اليمني طوال مدة حكمه منذ قيام الانتفاضة العسكرية في 1962م على حكم الملكية المتوكلية أي حرب منفردة على الجنوب الذي كان حينها يرزح تحت سُلطة الاستعمار البريطاني ، و هذا الذي تكرره اسطوانة الزيف المؤذي عن حرب صيف 94م لم يكن جذر القضية الجنوبية التي تتفاعل اليوم بصورة محزنة و تسعى إلى اعتبار تلك الحرب الاضطرارية خطأ تاريخي ، فهي لم تكن من الشمال إلى الجنوب بل من اليمن على قيادة الحزب الاشتراكي اليمني الذي كان يحكم عدن قبل وحدة 22مايو 90م و اضطر مع انهيار الأنظمة الشيوعية في العالم مثل بولندا و المجر و بلغاريا و تشيكوسلوفاكيا وفي الجزء الشرقي الألماني و الاتحاد السوفييتي إلى محاولات البحث عن منفذ لكي يقي نفسه انهياراً حقيقياً كان يواجهه على مختلف الأصعدة . يكتب الأستاذ ياسين سعيد نعمان أمين عام الحزب الاشتراكي اليمني الذي يواجه أزمة منحسرة و منتهية في شعبية حزبه المتهالك بسبب انتهاج قادة احزاب المشترك المؤتلف من أحزاب الإسلاميين و اليساريين لدعم و نفخ هُلام الحراك الشعبي الحامل للقضية الجنوبية و فقدان الأحزاب التي كان ينبغي عليها أن تكون الحامل المؤسسي لأي قضايا مطلبية حقوقية هذا الدور ، مما قضى على محاولات الإشتراكي العودة إلى الجنوب بقوة التأثير (القمعي) السابق أو عبر تحديث تاريخه المتوسع في الدماء و الإقصاء بإعلانه تحديث شكل الدولة ، لكنه يقع مرة أخرى في تبني التوجه (الإسلامي) لرؤيته مؤخراً شكل الدولة في مؤتمر الحوار الوطني و هو ما يؤكد تخبط الحزب الكبير – سابقاً – من استيعاب مفردات العصر و محاولته التمسك بالفراغ من السقوط في عمق محيط (الحراك) الذي التهم الأحزاب و برز بتياراته المختلفة كبديل أو بدائل لأي مؤسسة حزبية رائدة في مناطق جغرافيا الجنوب اليمني . يكتب الأستاذ نعمان عن حرب صيف 94م باعتبارها خطأ تاريخي ، يريد أن يصل بذلك إلى تنقية دور الحزب الاشتراكي من ماضً سيء و غارق في الدم و باعتباره شخصياً أحد المشاركين في تكليف علي سالم البيض إعلان قرار العودة بالوطن الموحد إلى شطرين آخرين و هو القرار الذي يُعد (خطيئة) تاريخية توازيها في المقابل خطايا نظام 7 يوليو في الانهيار الاقتصادي و الفساد المعلن و تحكم قلة نافذة في الثروة و السلطة بما أوصل الأمة اليمنية جميعها إلى مرحلة الفقر المدقع مع انسداد الأفق في الحياة المعيشية و تضاؤل الفرص و انعدام العدالة و تقاعس الأمن عن أداء دوره الحقيقي في حماية المواطنين و صون ممتلكاتهم . لم تكن حرب صيف 94م حرباً قادها الشمال على الجنوب ، بل كانت حرباً اضطرت إليها القيادة اليمنية لمنع قادة الحزب الاشتراكي اليمني من العودة بالجنوب إلى حكمهم القمعي السابق ، و كانت الحقيقة واضحة أن اليمن بأسره رفض استمرار هذا الحزب في المزاجية أو اعتبار الجنوب حقاً مملوكاً و خاضعاً له و قد منحته انتخابات 93م البرلمانية الترتيب الثالث من حصص مقاعد البرلمان و هو ما دعا سالم صالح محمد في ديسمبر 93م إلى التصريح بضرورة العودة إلى نظام الدولتين الاتحاديتين و تطبيق نظام الفيدرالية المالية و الإدارية كشطرين ، و كان هذا التصريح بداية الإعلان من قبل الحزب الاشتراكي اليمني التراجع عن خيار الوحدة و مطالبتهم السابقة لنظام الشمال بتطبيق الوحدة الاندماجية الفورية فيما بينهما و هو ما حدث . و في الجانب الآخر كان الإخوان المسلمون الذين رفضوا الوحدة مع حزب (كافر) في الجنوب ممثلين لحدة التطرف الشمالي القبلي و الإسلامي ، وبالتالي قاتل الإخوان بشراسة ضد إقرار دستور دولة الوحدة في 91م اعتراضاً على بعض نصوصه المبهمة في اعتبار الإسلام مصدر أساسي لكل السلطات و التشريعات ، و كان هذا التيار الديني الذي يعتبر الشيوعية عدواً تاريخياً له انسياقاً مع التوجهات الأميركية التي كانت تعتبر الشيوعية أيضاً خطراً حقيقياً يهدد كيانها الرأسمالي و الديمقراطي بقيادة السوفييت مما جعل القطب الغربي يوجه هذه التيارات الإسلامية لمواجهة المحور الشرقي ، بدأت علاقة الظهور الرسمي لهذا التيار في ظل رغبة حكومة الرئيس علي عبدالله صالح الوليدة في شمال اليمن إلى التحالف معه و تشكيل خلايا جهادية مقاتلة و مدعومة سعودياً و اميركيا لدحر الجبهة الوطنية التي تكونت عقب انسحاب القوات الأميركية من فيتنام الجنوبية ووقوع الأخيرة في قبضة فيتنام الشمالية الشيوعية لتصبح فيتنام بأسرها فيما بعد إحدى منظومات الاشتراكية العالمية ، و هو ما أوحى لتيار الجنوب الاشتراكي امكانية تحقيق الوحدة اليمنية على الطريقة الفيتنامية ، فاحتضن نظام عدن حينها مليشيا تخريبية ساخطة من الأوضاع الاقتصادية المتردية في الشمال سعت لشن حرب عصابات على النظام لتحقيق الوحدة بالصورة القسرية و سياسة الضم و الإلحاق ، و تعميم الفكر و النظام الشيوعي على اليمن باسرها . مع احتدام الصراع و توسع الجبهة الوطنية المدعومة جنوبياً قدمت (ليبيا القذافي) التي كانت مفتونة بالفكر الاشتراكي الثوري الوحدوي (12) مليون لغم لقيادة الجبهة الوطنية في شمال اليمن عبر ميناء عدن الجنوبي في سبعينيات القرن الماضي . ورغم انتهاء الصراع إلاَّ أن الأضرار التي خلفتها الألغام لم تنته بعد، وما زالت تحصد ضحاياها حتى الآن ، وحسب رئيس لجنة شؤون الألغام في اليمن قاسم الأعجم فإن السجل الوطني للألغام الذي نفذ مؤخراَ حدد (592) منطقة متأثرة بالألغام في 19 من 21 محافظة. وبلغ عدد ضحايا الألغام اليمنيين نحو (50) ألف ضحية 96% منهم من الأطفال . كانت هذه الخطيئة التاريخية السادية المتوسعة حرباً بالوكالة قامت في جغرافيا الجمهورية العربية اليمنية بين اليمنيين بدعم من الحزب الاشتراكي في الجنوب ، وكانت في المناطق الوسطى في الشمال ( تعز - إب - البيضاء - ذمار وغيرها) ،. و تم توثيق المرحلة الأهم في نشاط الجبهة بالفترة التي أعقبت مقتل الرئيس ابراهيم الحمدي، ومع تولي علي عبد الله صالح الحكم في 17 يوليو 1978، وقد امتد نشاطها الملتهب نحو خمس سنوات. تشكلت الجبهة في عهد الرئيس الحمدي وتحديدا في 11 فبراير 1976 فيما بعض المصادر التاريخية تعيدها إلى فترة الرئيس الإرياني من اتحاد خمس قوى يسارية هي: الحزب الديمقراطي الثوري، ومنظمة المقاومين الثوريين، وحزب الطليعة الشعبية، وحزب العمل اليمني، واتحاد الشعب الديمقراطي. وبالإضافة إلى النشاط المسلح الذي كانت تقوم به الجبهة في المناطق الوسطى بدعم من الحزب الاشتراكي الحاكم في الجنوب آنذاك، فقد اندلعت بين النظامين الشطريين حربان رسميتان، الأولى كانت عام 1972م، والثانية في 1979م، وفيها مُني جيش الشمال بخسارة فادحة، لم يخفف من سوئها سوى تدخل بعض الدول وكذلك الجامعة العربية. ومع تدخل الجامعة العربية وعقد قمة الكويت بين الرئيسين علي عبد الله صالح وعبدالفتاح إسماعيل، إلا أن النشاط المسلح للجبهة لم يتوقف في عدد من مناطق محافظات صنعاءوذماروالبيضاء والجوف ومأرب وبشكل أكبر في محافظتي تعزوإب. يقول الدكتور عبد الولي الشميري إن «رقعة التخريب اتسعت في كل من وصاب العالي و وصاب السافل وعتمة وفي ريمة.. ومن تلك المحافظات كان معظم المقاتلين والقياديين للجبهة حتى بلغ عدد المقاتلين في الجبهة خمسة عشر ألف مقاتل تقريبا يتمتعون بكفاءة عالية من التدريب والخبرة على خوض الحروب». في شهر يونيو 1982م أعلن ممثلو الجبهة الوطنية الديمقراطية عن سحب فرق الجبهة ومعداتها العسكرية من المنطقة الوسطى، ومنطقتي ريمة و وصابين ، تحت ضغط القوات المسلحة اليمنية والإخوان المسلمين في اليمن , وهكذا انتهت حرب العصابات التي شنتها الجبهة الوطنية بدعم من قيادة الحزب الاشتراكي اليمني في الجنوب اليمني على مدى خمس سنوات واكثر بالفشل والهزيمة مخلفة ورائها أكثر من عشرة الآف قتيل من الشطر الشمالي على يد اشقائه من الشطر الجنوبي (!!). ما زال الصحفي زيد عزيز مطهر يتذكر قائلاً : ( لقد نزح والدي هرباً من بلاد عتمة في محافظة ذمار تاركاً خلفه سنين عُمره و تجارته هرباً من بطش المخربين و قلقاً من سيطرة الحزب الشيوعي و تحكمه في مسارات الوحدة قسراً و قد أوغل الجنوب الاشتراكي في ذبح المشايخ القبليين في الشمال و تفخيخ الأراضي و الحقول و ممارسة أبشع أنواع الانتهاكات التي لا يمكن أن تُنسى ). إن نبش الماضي عادة سيئة فعلاً .. و نكأ الجراح طريقة غير مقبولة في مجتمع يبحث عن المستقبل و يتوق للسلام و العدالة ، لكن الضغوط المتزايدة من قبل الكثير من الجنوبيين و تزييفهم لوعي الجيل الشاب و دحرجتهم لتبني صراعاتهم القديمة و تحديث تياراتهم و مطالبهم بمقتضى الواقع و العصر و خارطة التحالفات القديمة الجديدة و تعليق قسوتهم الشائنة على الوحدة أو الجغرافيا كل أسباب الحلم الجديد المفتوح و الحالم بإعادة الروح إلى جسد واحد و رئة واحدة فقط ، و توجيه أصابع الاتهام لجزء شمالي عن مصير الوحدة المهدد بالجهل و الانفصال يرفع عادة السوء إلى واقعة دفاع و لائحة وعي تحدد الفارق بين المحارب و المقاوم ، و تُعيد للحزب الاشتراكي وعيه و عقله و محاولة ايقافه عن رفع إصبعه في وجه شطرنا البريء من الحروب العلنية و الوحشية ، كما هي أيضاً براءة لأمة الجنوب وإدانة لنظام قمعي متوحش في الجنوب الشطري ، لم تكن سلطة يوليو 94م بأفضل منه حالاً . ..و إلى لقاء يتجدد ..