تشهد زراعة القات وتجارته في اليمن توسعاً كبيراً، بالرغم من إجماع اليمنيين على الآثار السلبية لشجرة القات على صحة الفرد واقتصاد الوطن. وقد فشلت كل المحاولات لاجتثاث شجرة القات من البلاد، ومن أشهرها صدور عدة قرارات حكومية بين عامي 1972 و 1976 تمنع زراعته أو تعاطيه، لكن مصير تلك القرارات كان الفشل الذريع. وفي الأعوام الماضية اتخذت الحكومة اليمنية عدة إجراءات في محاولة منها للحد من هذه الظاهرة، منها منع تعاطيه في المؤسسات العسكرية والأمنية وداخل المؤسسات الحكومية، وعملت على زيادة ساعات العمل لتفوت على المتعاطين فرصة شرائه أو الخروج قرب الثانية عشرة ظهراً إلى الأسواق بحثاً عنه، إلا أنها باءت بالفشل أيضاً، ولم تجد نفعاً في التقليل من تعاطي القات. وباتت المقارنة بين انتشار أسواق القات في المدن اليمنية بأسواق الخضار والفواكه تمثل علامة فارقة لصالح أسواق القات، كما بات ملفتاً في ظل أزمة الاقتصاد الخانقة تأثر أسعار المنتجات الزراعية بارتفاع أسعار الوقود أو احتدام الصراع والمواجهات المسلحة، لكن أسعار القات ظلت ثابتة ولم ترتفع، حتى تلك الأنواع عالية الجودة القادمة من منطقة أرحب، لم ترتفع أسعارها رغم ضراوة القتال والصراع المسلح فيها، مما يثير التساؤل عن علاقة القات بالسياسة وبالسلطة الحاكمة. ويتحدث عدد من علماء الاجتماع والسياسة في اليمن عن علاقة تاريخية وثيقة بين القات والسياسة في المجتمع اليمني، ويشيرون إلى أن مجالس القات ظلت حتى في ظل الانفتاح وتعدد الحريات العامة هي الوعاء للنقاشات والحوارات السياسية في كثير من الأحيان. وبحسب الدكتور عبدالله الزلب وهو باحث يمني في علم الاجتماع والاتصال، فقد شهدت مجالس القات حركة كبيرة وانتشارا لم تشهد له مثيلاً من قبل، خلال السنوات الأولى من التسعينيات. وقال في مقال نشرته مجلة المعرفة السعودية قبل أعوام: " كان حزبياً المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي اليمني، شريكا السلطة والحكم آنذاك، يتسابقان على توظيف مجالس القات واستغلالها في تحركاتهما الحزبية في الأوساط الشعبية والمثقفة، على حد سواء، وفي استقطاب مناصرين لهما، والدعاية لسياساتهما والعمل على نشرها". وذكر الزلب أن " اغلب التجمعات الاجتماعية والسياسية والحزبية كانت تعقد بعد الظهر في مجالس القات الخاصة، وبشكل مدفوع الأجر، حيث يتم صرف مبالغ مالية للمشاركين فيها تحت مسمى (بدل جلسات) مخصصة أساسا لشراء القات". مشيرا إلى أن مؤسسات الدولة وأجهزتها المختلفة نهجت على ذات المنوال، حيث صار من المعتاد أن تحال معظم القضايا والمشكلات والموضوعات الشائكة في مرافق الدولة إلى جلسات القات بعد الظهر للبت فيها. وترى الدكتورة الراحلة رؤوفة حسن الشرقي، وهي باحثة يمنية مشهورة، في دراستها عن الآثار الاجتماعية لمضغ القات، أن الدولة في اليمن تتحمل المسؤولية الرئيسة في انتشار استعمال القات. وبررت ذلك بعدد من الأسباب من أهمها: اتجاه الدولة لتشجيع جلسات القات عبر توفير دعم مالي خاص يتمثل في بناء الدواوين (مجالس القات) وتأثيثها على نحو يخدم هذا الغرض من بند المشروعات الاستثمارية للدولة، وإدخال نفقات المصروفات للقات تحت شعار "بدل جلسات" أو نثريات في الموازنة العامة للدولة، ونوهت إلى أن من تلك الأسباب أيضاً ربط أغلب الاجتماعات الرسمية لأجهزة الدولة بفترة جلسات القات المسائية، وتسابق كبار مسؤولي الدولة في جعل مجالس القات في منازلهم أو مواقع أعمالهم كمراكز استقطاب اجتماعي وسياسي ومحاور للضغط والتأثير على صناعة القرار. ويعتقد الزلب أن الدولة اليمنية تتبنى موقفا سياسيا حذرا ومزدوجا إزاء القات، الأول: موقف علني يعترف بوجود أضرار صحية واقتصادية كبيرة للقات، لكنها، في ذات الوقت، تؤكد على احترام خصوصيات الثقافة اليمنية، باعتبار القات موروثاً ثقافياً. والثاني: موقف غير معلن يتلخص في اعتبار مؤسسة الحكم السياسية القات أحد أهم العناصر التي يمكن توظيفها سياسيا لصالحها، فالقات يشغل معظم وقت مستهلكيه ويستحوذ على جهودهم واهتماماتهم منذ الصباح الباكر وحتى آخر ساعات الليل. وقال: "يبدأ الشخص المخزن بالتفكير في كيفية توفير المال اللازم لشراء قات يومه، وعند الظهيرة يتسابق الجميع إلى أسواق القات، ولا يكاد الفرد ينتهي من تناول غدائه بسرعة، حتى يسرع إلى مجلس القات في جلسة تدوم نحو (4 - 6) ساعات، وقد تمتد إلى ثمان ساعات متواصلة، وبعد الفراغ من التخزين يسبح المخزن في أفكاره وحيدا وينطوي على ذاته". موضحا بأن هذه الدورة اليومية تشغل الإنسان اليمني عن أي اهتمامات أو طموحات سياسية قد تثير أي مشكلات لمؤسسة الحكم في الدولة، كما أن النقاش الذي يتم في إطار مجالس القات لا يتجاوز، في أغلب الحالات، تلك المجالس إلى مرحلة التنفيذ. بيد أن طرح الأفكار والجدل بشأنها في تلك المجالس يساعد الأفراد المخزنين على الحديث بصوت عال، والتخفيف من حدة الضغوط النفسية والاجتماعية الناتجة عن مشكلاتهم اليومية وهمومهم الحياتية. وفي ظل هذه الظروف ينحسر الدور السياسي للفرد، ويتراجع اهتمامه بالكثير من القضايا العامة والمصيرية - كما يقول الزلب - وهكذا يتم تكريس اللامبالاة السائدة في المجتمع إزاء التحولات والأحداث الكبرى والمهمة في حياة المجتمع. لكن شجرة القات الحاضرة مع اليمنيين في أفراحهم وأحزانهم لم تغب أيضاً عن فعالياتهم الاحتجاجية خلال العام 2011، سواء تلك المؤيدة للنظام أو المناوئة له، بل أصبح للقات سوق وباعة داخل ساحات الاعتصام. ويعتقد بعض المراقبين أن مضغ أوراق القات ساهم في تقليل ساعات الاحتجاج والمظاهرات التي تشهدها اليمن، بشكل يمنحها استثناءا خاصا عن ثورات الربيع العربي في المنطقة، فيما يراه آخرون عاملاً مساعداً لتنظيم الفعاليات الاحتجاجية التي تشهدها الساحات. ويرى سلطان اليعبري (38) عاما أن المواطن اليمنى اعتاد أن يخصص فترة الظهيرة لجلسات القات، التي يتم خلالها مناقشة القضايا وتبادل الآراء حول مجمل المستجدات على صعيد الحياة اليومية في اليمن، وحتى في المحيط العربي والدولي. وقال ل (الغد) : "اعتبر المعتصمون فترة جلسات القات التي تبدأ من الظهيرة إلى المساء بمثابة فترة لتقييم الأوضاع وإعادة ترتيبها، وهي أيضا فترة استراحة لاستعادة النشاط". وأضاف بالقول: "جلسات القات مهمة في نظر الكثير من المتظاهرين، على الأقل من الناحية الاجتماعية، لأنها ستؤدى إلى جمع المتظاهرين ولقائهم ببعض، بالإضافة لتمكينهم من التفكير الهادئ فيما يتعلق بالخطوات المقبلة، وكذا تخفيف حدة توتر الأعصاب أثناء فترات التظاهر والاعتصام". يبقى القات في اليمن حاضرا بقوة في المشهد السياسي، ومتداخلا في علاقاته المتشابكة بالدولة والمجتمع اليمني من أعلى الهرم إلى أدناه، دون اتهامه من أحد، فهو الخصوصية الأخرى التي انفرد بها ربيع اليمن عن غيره، وان كانت تلك الخصوصية كما يصفها مثقفو اليمن ب "السلوى والبلوى