عبد الوهاب قطران بين ظلال العنب المتدلية من عرائش الحياة، تجولت اليوم بين مزارع عنبنا في قريتي..
فإذا بي أمام مشهد لا يُحتمل. العنب، ذاك الفرح الموسمي الذي طالما ارتوى بعرق الأجداد، كان هذا العام يحتضر أمام عينيّ. عناقيده ذابلة، أوراقه صفراء كوجوه الجوعى، كما تروا بالصور ادناه وثماره اليابسة كأنها جماجم لأحلامٍ جفّ ماؤها.
جفّ العنب… نعم. جفّ كما جفّت ينابيع الأمل، وكما جفّت الآبار التي بعنا الأرض لحفرها، واستدنّا لنملأها حياة…
نعم ماتت عناقيد عنب همدان. ماذا سنقول لفنان اليمن الكبير ايوب طارش الذي تغنى بعنب همدان وصدحت حنجرته بااغنية "ماحلى لي من الدنيا سوى كرم همدان !"
بئرنا الارتوازية ماتت، تمامًا كما مات الحنين للغيم، والغيث، والربيع. تكلفتها اليوم ستين مليون ريال… من أين؟
وقد صار الفلاح الذي كان يومًا ميسورًا، مجرد "بروليتاري" مسحوق تحت نير العجز والقهر!
حرارة الصيف وصلت إلى 33 درجة مئوية! هل نحن في تهامة؟ لا نحن في همدان!
لكن ما عاد هناك فرق بين قمة الجبل وقاع الساحل، فالحرّ واحد، والظمأ واحد، والموت بطيء في كل الاتجاهات.
تجولت بين حَبَلات العنب، فشعرت أنني أشيّع جثمان طفولتي… لم يكن هناك ظل، لم يكن هناك خضرة، لم يكن هناك ندى، كان كل شيء عطشانًا: العنب، الأرض، الناس، وحتى الهواء.
وفي ديوان العزاء… لم يكن الموت وحده من يحضر، بل الفقر أيضًا، بكامل وقاحته وفضيحته! متسولون كالسيل، نساء وأطفال، شيوخ وشباب، يتزاحمون على قاتي، يتوسلون كسرة، يتشبثون بما تبقى من كرامة ممزقة.
حتى النساء لم يعدن يخجلن من اختراق المجلس! أصواتهن تدمغ القلب، تسأل بلا حجاب: "معك شيء؟ معك ريالات؟!"
وزّعت قاتي على مئتي متسول تقريبًا… وغصصت بالحزن… ليس لأنني أعطيت، بل لأنني أعطيت ما لا يشبع، في وطن لم يعد يُشبع أحدًا.
نظرت في وجوه الناس… فلاحون بلا عمل، رجال بلا أمل، نساء بلا سند، كل شيء مفرّغ من معناه، كأننا نعيش على أطراف الحياة… نحمل جثث أحلامنا فوق أكتافنا ونتنفس الألم!
أيها الوطن… أما آن لك أن تنتفض؟ أن ترفض هذا الانهيار المريع في العدالة، في الكرامة، في الحدّ الأدنى من الإنسانية؟
لا حديث هنا عن السياسة، ولا عن الولاءات، الحديث عن الخبز… عن الماء… عن كرامة الإنسان في وطنه.
نحن بحاجة إلى ثورة تحرر وطني،تحررنا من الجوع والشحاذة والتسول . لا يهم من يقودها، المهم أن تعيد توزيع الثروات بعدل، أن تكفل للمزارع ماء، وللطفل دفء، وللأم دواء، وللشباب أملًا لا يُباع ولا يُشترى.
هذا البلد يتآكل من الداخل، يعيش كارثة إنسانية بكل المعايير، تنهشه أنياب الفقر، والبطالة، والفساد، وانعدام الدولة!
نحن لا نعيش… نحن ننجو فقط!
أيها الناس… إن لم نغضب من أجل الخبز، فسوف نُذلّ حتى من أجل الفتات! وإن لم نغضب لأجل ماء العنب، فلن نجد غدًا دموعًا نبكي بها أبناءنا!
أيها الوطن الجريح ، لم يعد لدينا غيرك، فإما أن نعيدك إلينا، وإما أن ندفن معك!