ما إن توقفت آلة الحرب في 7 يوليو 1994، عن دك الجنوب، وعن نشر الخوف والهلع والرعب في نفوس الأطفال والنساء والشيوخ الطاعنين في السن، حتى بدأت تتكشف للجميع دوافع هذه الحرب القذرة، من خلال السطو على كل ما هو متاح نهبه من قبل الرعاع الذين تجحفلوا لخوض حرب ما كان لها أن تنشب أو تستعر لولا دوافع الفيد الذي مُنّيت به جحافل الهكسوس من قبل حكام صنعاء، ولولا ما كان يضمره هؤلاء الحكام لثروات الجنوب وخيراته من نهب ومن تقاسم، بل وما كانوا يضمرونه لأهل الجنوب من تركيع، ومن تجويع، ومن إذلال وتهميش، ومن طمس ربما لهويتهم على المدى غير المنظور. أفدح الأخطاء التي وقع فيها الرئيس السابق علي عبدالله صالح، هو خطأ هذه الحرب التي وإن مكنته نتائجها من التفرد بالحكم، ومن وضع يده على كل ثروات البلاد، إلا أنها مثلت عداً عكسياً لأفول نجمه وحكمه؛ كونه -ومن حيث لا يدري- كان قد بصم على نهايته المرتقبة حين أشرك القوى اليمينية في هذه الحرب، وفي فيدها، وحين أسهم إسهاماً كبيراً وفاعلاً في تدشين قوة سياسية وعسكرية على الأرض، ممثلة بتنظيم الإصلاح، في مقابل تخلصه من شريكه الموقع معه على منجز الوحدة، الذي كان يُعد الأقرب للتفاهم وللتعايش السياسي في إطار أهداف ثورتي سبتمبر وأكتوبر، وفي إطار التطلع لبناء الدولة المدنية الحديثة. بكل المقاييس وبكل الحسابات، تعد حرب 1994 مجرد جسر تمكن من خلاله حزب الإصلاح من العبور إلى واجهة العمل السياسي، وإلى ميادين الاستثمار والاستقطاب، وإلى تمتين موقعه بين مواقع الأحزاب، وإشهار رقمه كرقم لا يمكن الاستهانة به أو القفز عليه تحت أي ظروف أو مبررات... بوابة هذه الحرب قادت هذا الحزب إلى أهم وزارتين من وزارات الدولة، وهما: وزارة التربية والتعليم، ووزارة الصحة، اللتان تشكلان أكبر مخزون بشري ووظيفي، وأكبر ميزانيات معتمدة بعد ميزانية وزارة الدفاع، وبهذا الولوج إلى هاتين الوزارتين شرع الإصلاح في جني ثمار هذه الحرب كمحطة أولى من محطات حصاده، حين استثمر الكم الهائل من الدرجات الوظيفية في استيعاب قواعده، وحين وظف الفرص الاستثمارية في هاتين الوزارتين لترسيخ وجوده على أرض الواقع. عام 2003 شهد انفراطاً كلياً في عقد الشراكة، وفي اقتسام غنائم الوطن بين الرئيس السابق علي صالح، وبين القوى اليمينية ممثلة بحزب الإصلاح. هذا الانفراط الذي لم يؤثر على وضعية هذا الحزب سياسياً ومادياً وتنظيمياً، في ظل ما حققه من مكاسب في حرب 1994، بقدر ما أكسبه قوة وصلابة حين مكنه هذا الانفراط من ممارسة نشاطه الحزبي والأيديولوجي دون قيود، ودون تحديد أفق لتحركاته ونشاطاته، الأمر الذي مكنه من لعب الدور السياسي المنوط به خارج نطاق الاحتواء والتوجيه، تجسد ذلك في موقفه من الانتخابات الرئاسية عام 2006، حين وقف الحزب بكل مكونه التنظيمي خلف مرشح تحالف المشترك المهندس فيصل بن شملان، في أول تحدٍّ لسياسات علي عبدالله صالح، وفي أول مواجهة سياسية حقيقية بين شريكين جمعتهما المصالح في حرب 1994، وفرقتهما ذات المصالح بعد أن حاول علي صالح الاستئثار بكل غنائم الوطن، وبكل ثرواته ومقدراته. محطة انتخابات عام 2006 مثلت مفترق طرق لكثير من القوى السياسية في الساحة الوطنية جراء خلط كثير من الأوراق... فضلاً عما أحدثته من تحرر نفسي على المستوى الشعبي، ومن كسر لحاجز الخوف في مواجهة السلطة، كل ذلك مهد لما شهده الوطن في ثورة فبراير 2011 من طوفان شعبي هادر يوم أن خرج الشعب بقضه وقضيضه إلى شوارع وساحات وميادين الوطن؛ مطالباً بإسقاط النظام وبرحيله، دونما أدنى تفكير من قبل القوى المستقلة في الساحات بأن من سيجني ثمار المواجهات الدموية في الأخير هو حزب الإصلاح. مرة أخرى، تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فبعد حرب 1994 التي آلت مآلاتها لغير صالح الشعب في جنوبه وشماله وفي شرقه وغربه على السواء، مقابل خروج حزب الإصلاح منها بفوائد لا تحصى؛ اليوم، وبعد مخاض ثورة فبراير، ها هي نتائج هذه الثورة ترسم نفس المشهد ذاته الذي رسمته نتائج حرب 1994 من حيث المستفيد من هذه الحرب والخاسر منها، فالشعب الذي دفع من دمه ومن ماله ومن أرزاقه وقوته اليومي، ومن أمنه واستقراره خلال أحداث هذه الثورة.. فوجئ يوم أن أخمدت جذوات هذه الثورة بآلة الحصاد التابعة لحزب الإصلاح، وهي تحصد ثمار كل هذه التضحيات، في ثاني محطة حصاد يستأثر به الإصلاح. وجه الشبه بين محطة حرب 1994 ومحطة أحداث 2011، هو في تقاسم الغنائم، فضلاً عن المستفيدين من هذا التقاسم، بينما وجه الاختلاف بين المحطتين يكمن في الضحية، إذ كان الجنوب في حرب 1994 هو ضحية هذه الحرب الغاشمة، فيما الضحية في أحداث 2011 هو الوطن برمته. في ضوء هذا المشهد المركب من حرب ومن ثورة لم يكتب لها النجاح، السؤال الذي يشغل بال الكثير ممن لم يلمسوا أي تحول إيجابي لصالح الوطن وقاطنيه من القوى المستقلة بالذات؛ في ظل انشغال الحزب البارز في تحالف المشترك، وهو حزب الإصلاح، بمصالحه ومصالح أعضائه، دون التفكير ولو بنسبة 1% بالوطن ومن يقطنه من خارج إطار هذا التنظيم الأيديولوجي، السؤال هو: هل سينجح حزب الإصلاح في ظل انكماشه وتقوقعه الحالي وانكفائه على نفسه، في الاستئثار بحصاد المحطة الثالثة 2014، سواء على مستوى الانتخابات البرلمانية أم المحلية، في ظل اختلاف الآلية المستخدمة في حصاد المحطة القادمة، وهي الآلية الديمقراطية المختلفة تماماً عن الآليات المستخدمة سابقاً سواء في حرب 1994 أو عند فشل ثورة 2011؟! سؤال هو برسم قيادات حزب الإصلاح الذين لم يستأنسوا حتى اللحظة بكل من هو خارج إطار تنظيمهم، بما في ذلك قوى الأحزاب المتحالفة معهم. سؤال هو أيضاً برسم القوى الثورية التي فشلت في التغيير؛ جراء احتواء الثورة من قبل فصيل من النظام السابق، هذه القوى التي يتطلب منها أن تستعد، وأن تشمر عن سواعدها لثورة أخرى محطتها الانتخابات القادمة في 2014، إذا ما أرادت أن تباشر حصاد نضالاتها، ما لم، فإن حصاد هذه المحطة الثالثة سيؤول لذات القوى التي اعتادت الاستئثار بمثل هكذا حصاد.