مع انطلاق الاحتجاجات الشعبية اليمنية، والتي جاءت في سياق ما سُمي بالربيع العربي مطلع فبراير 2011، انتعشت آمال كثير من اليمنيين بالتغيير وتحيد الوظيفة والأجهزة والمؤسسات العمومية، عن هيمنة السياسي والحزبي على الإدارة. كما تزايدت تطلّعاتهم إلى وضعٍ ترجّحت فيه معايير الاستحقاق المِهني والقانوني، ومتطلّبات الحُكم الرشيد والشفافية، والمسألة التي رفعها دُعاة التغيير وشدّدت عليها المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، وقرارات مجلس الأمن. بيد أن المؤشرات الأولية، التي حملتها قرارات التعيينات منذ بدء عملية نقل السلطة في شهر نوفمبر 2011، ترى فيها العديد من قِوى الثورة وأطراف سياسية وحقوقية ومدنية، عودة إلى مربّع التقاسم والمُحاصصة السياسية، التي تختزن عنها الذاكرة الجماعية لليمنيين، مساوئ وسلبيات كثيرة، أعاقت بناء الدولة وأشعلت الصراعات المسلحة بين المتقاسمين. فحتى الآن، يبدو أن حزب التجمّع اليمني للإصلاح، الأوفر حظاً في التعيينات والتنقّلات الإدارية الأخيرة، سواء على المستوى المحلّي أو المركزي، التي تجري تحت مسمّى نقل السلطة، وكان للوزارات التي يشغلها أعضاء ينتمون للحزب أو مناصرين له، دور كبير في تعزيز حظوظ أتْباع هذا الحزب العائد إلى مربّع السلطة، من بوابة الثورة الشبابية، الذين أعاد نشر أعضائه في الإدارات المدنية العليا والمتوسطة والدّنيا، التابعة لوزاراتهم، كالتربية والداخلية والكهرباء والتنمية والتخطيط. فضلاً عن ذلك، صدرت قرارات تعيين وتنقّلات في وظائف سياسية وعسكرية ومدنية، تحمل بصمات اللواء علي محسن الأحمر، الذي أعلن انضمامه للثورة عقِب مذبحة جمعة الكرامة في 18 مارس من العام الماضي، وهو محسوب على الإصلاح. انتقادات واحتجاجات وأثارت تلك التعيينات، انتقادات واسعة، ليس فقط وسط الائتلاف الحاكم بين المؤتمر وحلفائه وتكتل اللقاء المشترك وشركائه، بل امتدت إلى الأوساط السياسية الأخرى من مؤيِّدين ورافضين للمبادرة الخليجية، والتكتلات الثورية الشبابية في الساحات، التي تُرتِّب لمسيرات احتجاجية ضد التقاسم والمحاصصة. ولا يبدو أن الأمر سيتوقّف عند هذا الحد، إنما إذا استمر على حاله، يُمكن أن يتطوّر إلى انفراط التحالفات القائمة وإلى نسْف التوافق بين شركاء العملية السياسية وإلى وأْدِ آمال التغير. وغير مرة، عبّرت قيادات الأحزاب المُنضَوية في إطار تكتُّل اللقاء المشترك، عن عدم رضاها عن تلك التعيينات. ففي مطلع مايو 2012، انتقدت الأمانة العامة للتنظيم الوحْدوي الشعبي الناصري، الدفعة الأولى من القرارات، وكرّس الحزب الاشتراكي اليمني للموضوع ذاته، بيانيْن: الأول، في شهر يونيو. والثاني، في شهر سبتمبر، استنكرت فيهما قيادته ذلك التوجّه واعتبرت أنه: يخل بالتوازنات التوافقية ويشوِّه مسار عملية التغيير السِّلمي .. وأن القرارات أخذت طابع الاستِئثار لصالح أطراف بعينها دون أخرى، وتمسّ بجوهر التحوّل الديمقراطي والوِفاق الوطني. "سباق محموم من أجل تقاسم السلطة.." أحمد سيف حاشد، الناشط الحقوقي والبرلماني، رئيس جبهة إنقاذ الثورة في حديثه ل swissinfo.ch قال: ما يجري، سباق محموم من أجل تقاسم الوظيفة العامة، وهناك إحلال واستغلال للدولة، سيؤدّي إلى تراكمات وإلى صِدام قادِم. مشيراً إلى التّجربة السابقة للتقاسم، التي انتهت بانفجار حرب في صيف 94. والتقاسم ليس بجديد. فالتاريخ السياسي اليمني، أثقَل كاهل الدولة بأعْباء التسويات والتوافقات السياسية، وجعل الإدارة العمومية مستودَعاً للتّراضي والغنيمة، إذ ظلت العلاقة بين أطراف مكوِّنات العمل السياسي، بَوْصلة لتحديد حظوظ وأنصبة كل واحد منهم في الوظيفة العامة، تبعاً للحاجة إليهم، وعندما كان الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح في مطلع الثمانينيات بحاجة إلى الجماعات الدِّينية "الإخوان والسلفيون"، من أجل محاربة الاتجاهات اليسارية، كافأهم عن جهودهم الحربية بحِصص وظيفية، مدنية وعسكرية. وبعد تراجع الحاجة إلى تلك الجماعات، هيْمن على الإدارة العمومية صِراع وتنافُس خفيِّين بين مختلف مكوِّنات القوى السياسية، من أجل كسب رِضى الرجل الأول في البلاد والظّفَر بكرَمِه وسخائه الوظيفي. ومع إعلان الدولة الموحدة عام 1990 والظهور العلني والقانوني للأحزاب السياسية، خرج الاستقطاب من الغرف المُغلقة إلى العلن، وعرفت الفترة الانتقالية المُمتدة من مايو 1990 إلى 27 أبريل 1993، هيمنة التقاسم والمحاصصة بين الشريكين في السلطة، المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي اليمني، التي تحوّلت إلى نهج للاستقطاب والمراضاة، يوظفه كل طرف في تعزيز فرص أتباعه وتوسيع قاعدة حلفائه داخل مؤسسات ومرافق الدول، حتى انتهى الأمر بانفجار الحرب الأهلية صيف 1994. بعدها، اتجه الحزب الحاكم، وعلى خلفية الشراكة في حرب 1994 بينه وبين التجمع اليمني للإصلاح، التي تمتن تحالفه بهذا الأخير واتبعا سياسية مشتركة ومُمَنْهجة لإزاحة الاشتراكيين من المواقع الإدارية، المدنية والعسكرية والأمنية والدبلوماسية، قضت على تواجد أتباع الحزب ومناصريه ومؤيديه في مواقع السلطة والإدارة، ووضعت مَن بقي منهم أمام خِيار الانخِراط في الحزب الحاكم أو الإصلاح أو مواجهتهم لمصير الإحْلال والإبدال الوظيفي، وكان ضحاياه، التصفية السياسية في الغالب الأعم، الأطُر المنتمية للمناطق الجنوبية الشرقية، التي يسودها اليوم الحراك الجنوبي المطالب بالعودة إلى ما قبل الوحدة، وفك الارتباط بالشمال، وهي مطالب لا يمكن فهْما وتفهّمها، إلا باستحضار سياسة الإحلال والإبدال، التي انتهجتها الحكومات والائتلافات السياسية المتعاقبة منذ عام 1994. لم يدُم شهر العسل طويلا إلا أن شهر العسل بين الإصلاح والمؤتمر، لم يدُم طويلاً. فهذا الأخير أصبح مَيالاً للانفراد بالسلطة والتحكُّم بكل مَغانِمها ورِيعها، السياسي والإداري والمالي، فانقلب على شريكه بعد حصوله على الأغلَبية البرلمانية المُطلَقة في انتخابات 1997 وجرعه مرارة كأس الإقصاء، الذي كان شريكاً في تجريعها لخَصْمه التقليدي، الحزب الاشتراكي اليمني. وبعد انتخابات فبراير 2001 البرلمانية، التي حصل حزب صالح فيها على الأغلبية الكاسحة وسط انتقادات تسخيره للوظيفة العمومية وأموال الدولة، عمل على تصفية كل خصومه من المواقع الإدارية المدنية والعسكرية وحوَّل مؤسسات الدولة إلى مرتع حزبي سدّ آفاق الوظيفة العمومية أمام القوى الأخرى وتضاءلت فرص غيْر المُنخرطين في الحزب الحاكم، حزب الرئيس صالح، ووصل الحال إلى حد أن مراكز القوى التقليدية المُتنفذة في البلاد، ومن خلال ثقلها في الحزب الحاكم، أصبح لها القول الفصل في التعيينات في المواقع الوظيفية واختِبار الأطُر الإدارية، في جميع المرافق العامة، حتى امتد ذلك الدّور إلى المؤسسات التربَوية والتعليم العالي والثقافة ومراكِز الأبحاث والدراسات. ويرى حاشد، أن هناك توجّه من قِبل حزب الإصلاح، لالْتِهام الدولة، موضِّحاً أنه، إلى جانب تعزيز مواقع أتباعه في الإدارة، يتقدّم بأسماء مرشّحين لبعض المواقع، على أنهم من غير المُنتمين إليه، فيما هُم يدينون بالولاء لهذا الحزب وللقائد العسكري، علي محسن، حليف الإصلاح، الذي يتّجه إلى التهام الدولة، مشيراً إلى أنه، فقط في أمانة العاصمة صنعاء، استحْوذ مؤخّراً على إدارة 39 مدرسة وقام بعملية إحلال في الكهرباء وفي مجلس القضاء، وهذا حسب ما يراه الناشط حاشد: "خطر يُعرِّض الحقوق والحريات للانتهاكات، فضلاً عن أنه يتجاوز معايير الكفاءة والنزاهة والعِلم، لصالح تحزيب وتسْيِيس الوظيفة العامة، ويخالف معايير الحكم الرشيد. " أصلا، ليس هناك دولة حتى تتقاسم..." وفي معرض ردّه على الانتقادات المتزايدة، تجاه ما بات يُوصف بتقاسُم غنيمة الدولة قال محمد الصبري القيادي في تكتل اللقاء المشترك ل swissinfo.ch: "ليس هناك دولة في الأصل، حتى تتقاسم وظائفها، ولا سلطة بالمعنى المُتعارف عليه. وكل ما يجري في الأساس، إعادة بناء واسترداد مؤسساتها من الهيْمنة العائلية"، وهي على حد تعبيره: "مؤسسات معطلة ووظائف إدارية تُواجه معوِّقات ومشاكل، كانقسام الجيش وإعادة هيكلته"، مشيراً إلى أن "العملية ستحكمها مُدوّنة الحُكم الرشيد، كما جاءت في الآلية التنفيذية للمبادرة الخليجية، التي ستحكم المرحلة الانتقالية وتتِم بموجِبها عملية نقل السلطة... وهي مرحلة تأسيس"، على حد تعبيره. وحول المسؤولية التي تقع على عاتق أحزاب اللقاء المشترك في العودة إلى مربّع التقاسم، أشار صبري إلى: أن "القرارات تُتّخذ من طرف واحد، هو رئيس الدولة عبدربه هادي، وهذا الطرف لا يتشاوَر مع شُركائه ولا هو غيْر معني بهذا الموضوع، لأن الوضع الحرِج الذي تجتازه البلاد، يقتضي إتمام عملية نقل السلطة، كهدف مرحلي"، حسب تعبيره. إجمالاً، يمكن القول أن تحويل مؤسسات الدولة إلى مُستودع للتقاسم والتَّراضي السياسي، لا يساعد على انتقال حقيقي باليمن من مرحلة ما دون الدولة إلى مرحلة الدولة، حتى وإن كانت المبرِّرات استكمال نقْل السلطة لأنْ يُعيد شبح الخوْف من التِهام الحزب للدولة، كما كان الحال قبل اندِلاع الثورة الشعبية. عبد الكريم سلام - swissinfo.ch