أحمد أبو المعاطي بطرد السفير التركي من القاهرة، وما تبع ذلك من خفض لمستوى التمثيل الدبلوماسي بين البلدين إلى مستوى القائم بالأعمال، تكون مصر قد وجهت الركلة الأولى للمشروع التركي الرامي للهيمنة بالوكالة على المنطقة العربية، وتكون ثورة يونيو قد أنجزت أولى ثمارها بعودة القاهرة مركزاً لتفاعلات الإقليم، بعد سنوات نجح خلالها حزب العدالة والتنمية الذراع السياسية لجماعة الإخوان في تركيا، في الزحف إلى العديد من الساحات العربية، مدفوعاً بوهم عودة الخلافة العثمانية من جديد، وهو الوهم الذي بلغ ذروته بثورات ما يسمى ب"الربيع العربي"، وسعي الإدارة التركية الدؤوب خلال تلك الهبة الكبرى إلى دعم الأحزاب ذات التوجهات الدينية، ودفعها للوصول إلى الحكم، على غرار ما جرى في مصر وتونس، في ظرف استثنائي ربما لن يتكرر مرة أخرى ولو بعد مائة عام مقبلة . بطرد السفير التركي تستعيد القاهرة دورها، وتفيق أنقرة من أوهامها ولو قليلاً، لتدرك في لعبة الأوزان النسبية في المنطقة، أنها سوف تكون الخاسر الأكبر، ليس فحسب بحسابات ما سوف يجرى مستقبلاً، وإنما بحسابات ما جرى، وما أدى إلى وصول العلاقات بين البلدين إلى هذه الدرجة من "التدهور" الذي ينظر إليه كثيرون باعتباره "الأكثر خطورة" منذ بدء العلاقة بين العاصمتين الكبيرتين، التي استمرت لنحو أربعة عقود من الزمان . ظلت العلاقات الدبلوماسية بين القاهرةوأنقرة، تراوح مكانها على استحياء منذ بداية القرن الفائت، قبل أن تنتهي الحكومة المصرية إلى قرار في نهاية الأربعينات، برفع مستوى التمثيل بين البلدين إلى درجة سفير، وقد لعب وجود الأسرة العلوية على رأس الحكم في البلاد، دوراً كبيراً في ذلك، ليس فحسب استناداً إلى علاقات النسب، التي ربطت بين العديد من أعيان هذه الأسرة والعائلات التركية الكبيرة، وإنما أيضاً إلى العلاقة التاريخية التي ربطت بين مؤسس الأسرة الأول محمد علي باشا، وعاصمة الخلافة في اسطنبول، منذ كان قائداً للكتيبة الألبانية التي أرسلتها الدولة العثمانية إلى مصر في العام 1800 لتخليصها من الفرنسيين، غير أن هذه العلاقة سرعان ما بدأت في التوتر، عقب قيام ثورة يوليو في العام ،1952 وإعلان نهاية حكم الأسرة العلوية في البلاد . على مدار سنوات سعت ثورة يوليو إلى علاقات متوازنة مع تركيا، غير أن هذه العلاقات سرعان ما أخذت في التوتر، مع بدايات العام ،1961 عندما أعلنت أنقرة رفضها الوحدة بين مصر وسوريا، بل إن كثيراً من المؤرخين يشيرون إلى الدور الخفي الذي لعبته تركيا حينذاك في انفصال الجمهورية العربية المتحدة، وهو الأمر الذي حصر العلاقات بين البلدين خلال الفترة من بداية الستينات حتى بداية الثمانينات، في الأمور المتعلقة بالنشاط الاقتصادي الذي ظل يراوح مكانه هو الآخر ما بين جزر ومد، قبل أن تسعى حكومة نجم الدين أربكان في تسعينات القرن الفائت إلى توطيد علاقتها السياسية بمصر التي لعبت دوراً كبيراً في تهدئة الأوضاع بين تركيا وسوريا خلال تلك الفترة، بخاصة في ملف النزاع الذي كان مشتعلاً بينهما حول المياه والحدود وقضية الأكراد، وقد تجلى ذلك التقارب في الزيارة التي قام بها "أربكان" للقاهرة في شتاء العام ،1996 وهي الزيارة التي أعلن خلالها عن تشكيل أول مجموعة اقتصادية إسلامية، كانت النواة الأولى لتكوين ما يعرف ب"مجموعة الثمانية النامية"، التي عقدت أول قمة لها في العام التالي باسطنبول، وقد شهدت هذه القمة ميلاد اللجنة السياسية المصرية التركية، التي عقدت بدورها أول اجتماع لها في العام التالي في العاصمة أنقرة، بحثت العديد من القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك بين البلدين، غير أن هذه العلاقة سرعان ما أخذت في الفتور مع صعود جماعة الإخوان في تركيا إلى سدة الحكم ممثلة في حزب العدالة والتنمية، الذي نجح في الحصول على أغلبية ساحقة في الانتخابات التشريعية التركية التي جرت في العام ،2002 ونجاح أردوغان في القفز على مقعد رئيس الوزراء في مارس/آذار من العام ،2003 وهو العام الذي يعتقد كثيرون أنه يمثل نقطة البداية الحقيقية لانطلاق مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي أرسى قواعده في منتصف التسعينات شيمون بيريز، وهو المشروع الذي بدا متوافقاً إلى حد كبير مع الأطماع التركية في المنطقة، التي سارعت منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، في استغلال ما يمكن وصفه ب"العاطفة الإسلامية" في التسلل إلى الساحة العربية، وقد استغل أردوغان في غير مناسبة ثوابت الصراع العربي "الإسرائيلي" في مغازلة الشارع العربي الذي لم يكن يدرك، ولعل قطاعاً كبيراً منه لا يزال على هذا الموقف، مدى عمق العلاقة بين أنقرة و"تل أبيب" وواشنطن في خلفية المشهد . أبلى أردوغان بلاء حسنا، في دعم ثورة الخامس والعشرين من يناير في بواكيرها الأولى، إذ لا ينسى كثير من المصريين خطابه المؤثر الذي خاطب فيه الرئيس الأسبق حسني مبارك، قائلا "نحن لسنا مخلدين والكراسي لا تدوم"، غير أن هذا الدعم سرعان ما كشف عن وجهه الحقيقي، بوصول جماعة الإخوان إلى الحكم في مصر، وما صاحب ذلك من بلوغ العلاقات بين القاهرةوأنقرة أوجها على المستويات كافة، بما فيها العلاقات العسكرية التي بلغت حد الاتفاق على إجراء تدريبات مشتركة، فضلاً عن زيارة أردوغان إلى القاهرة في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، ومن بعده الرئيس التركي عبد الله جول في فبراير/شباط من العام الجاري، ودعوته الرئيس المعزول محمد مرسي لحضور مؤتمر حزب العدالة والتنمية التركي، ليس بوصفه رئيساً، وإنما ممثلاً عن حزب الحرية والعدالة الذراع السياسية لجماعة الإخوان في مصر . مع بداية مايو/أيار الماضي بدا التعاون المصري التركي في قمته، وأعلنت الحكومة التركية تقديم حزمة من المساعدات العاجلة إلى مصر، بقيمة ملياري دولار لاستخدامها في دعم احتياطي النقد الأجنبي، وتمويل عدد من مشروعات البنية الأساسية المتوقفة، ومساعدة الاقتصاد على استعادة الاستقرار والنمو، لم تمض سوى أسابيع قليلة حتى أعلن المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية السابق، الدكتور ياسر علي، أن جملة الاستثمارات التركية في مصر بلغت نحو مليار وثلاثمائة مليون دولار، عبر 20 شركة تركية تعمل في السوق المصرية، مشيراً إلى أن هذه الاستثمارات قابلة للزيادة، ضمن خطة أقرتها الحكومة وتستهدف تفعيل برامج التعاون الموقعة بين البلدين، وتوسيع دوائر التعاون التي سرعان ما امتدت إلى النواحي العسكرية عندما توجه القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول عبد الفتاح السيسي إلى تركيا، على رأس وفد عسكري وصف حينها بأنه "رفيع المستوى"، في زيارة رسمية استغرقت أياماً، التقى خلالها السيسي نظيره التركي عصمت يلماظ، وعدداً من كبار رجال الدولة والمسؤولين بوزارة الدفاع التركية، لمناقشة تعزيز العلاقات في المجالات العسكرية بين البلدين، وهي العلاقات التي لم تزد على مدار السنوات الأخيرة على المناورة البحرية المعروفة باسم "بحر الصداقة" التي تجرى سنوياً وتشارك فيها وحدات من القوات المسلحة في البلدين . دخلت العلاقات المصرية التركية على خط التدهور السريع، مع سقوط جماعة الإخوان وإطاحة حكم الرئيس مرسي في 30 يونيو الماضي، وقد بدا ذلك واضحاً على نحو لا يقبل اللبس، في أول تصريح صدر عن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، بعد ساعات من بيان القوات المسلحة عندما وصف انحياز الجيش المصري للشعب في إطاحة حكم الإخوان، بأنه يمثل "انقلاباً على الشرعية والعملية الديمقراطية"، قبل أن يشرع تالياً في حملة إقليمية ودولية، استهدفت إدانة القيادة المصرية الجديدة التي التزمت الصمت في محاولة لاستيعاب الموقف التركي، غير أن هذا الصمت قوبل بتدخلات سافرة من القيادة التركية، في الشأن المصري الداخلي، بلغت حد الدعم الواضح والمباشر لجماعة الإخوان في صراعها الأخير مع الدولة المصرية . لا تخفي العديد من دوائر صناعة القرار في مصر، ارتياحها للخطوة الأخيرة التي أقدمت عليها الحكومة بتصنيف السفير التركي في القاهرة "شخصاً غير مرغوب فيه"، وإبلاغه بضرورة مغادرة البلاد، وتخفيض التمثيل الدبلوماسي في أنقرة إلى درجة القائم بالأعمال، وترى هذه الدوائر أن القرار يمثل رداً دبلوماسياً بليغاً، على التجاوزات التي صدرت عن الحزب الحاكم في تركيا مؤخراً، في الوقت الذي تلمح فيه دوائر أمنية عدة إلى "وقائع في غاية الخطورة، تورطت فيها السفارة التركية في القاهرة، بعضها يمس الأمن القومي المصري"، في إشارة تفسر كثيراً من الأنباء التي ترددت مؤخراً، حول عمليات تمويل ضخمة لتنظيمات تمت "عبر حقائب دبلوماسية"، وتم إنفاقها في أعمال عنف ضد قوات الشرطة والجيش . في سبتمبر/أيلول الماضي بكى "أردوغان" في أحد البرامج التلفزيونية التي تبث عبر القمر الصناعي التركي، وهو يسترجع جزءاً من بيان ألقاه القيادي البارز بجماعة الإخوان، محمد البلتاجي، يرثي فيه ابنته التي تقول الجماعة إنها لقيت حتفها أثناء عملية فض "اعتصام رابعة" في أغسطس/آب الماضي، وهي الدموع التي وصفها زعيم حزب الشعب المعارض كمال أوغلو بقوله، إنها "دموع كاذبة، تستهدف كسب تعاطف الأتراك" الذين كانت تنهال عليهم حينذاك قنابل الغاز المسيلة للدموع وطلقات الخرطوش في تظاهرات ميدان تقسيم الشهيرة . يرى كثير من المصريين اليوم أن أردوغان سوف يبكي عن حق قريباً، عندما تذهب السكرة وتأتي الفكرة، ليدرك أن "مخلب القط الأمريكي" قد انكسر، وأن مشروع حزبه الذي كان يهدف إلى تمكين حركات الإسلام السياسي في المنطقة العربية، قد ذهب أدراج الرياح بسقوط تجربة الإخوان في مصر، ومن المؤكد أن البكاء سوف يكون حقيقياً هذه المرة، لأن الشريك الأكبر في واشنطن ببساطة، سوف يبحث وقتها عمن يسدد فاتورة التكاليف . * كاتب وباحث في الشؤون السياسية الخليج