"جودو الإمارات" يحقق 4 ميداليات في بطولة آسيا    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    المجلس الانتقالي بشبوة يرفض قرار الخونجي حيدان بتعيين مسئول أمني    هبوط المعدن الأصفر بعد موجة جني الأرباح    نبذه عن شركة الزنداني للأسماك وكبار أعضائها (أسماء)    إيفرتون يصعق ليفربول ويوجه ضربة قاتلة لسعيه للفوز بالبريميرليغ    الإصلاحيين يسرقون جنازة الشيخ "حسن كيليش" التي حضرها أردوغان وينسبوها للزنداني    اشهر الجامعات الأوربية تستعين بخبرات بروفسيور يمني متخصص في مجال الأمن المعلوماتي    الإطاحة بشاب أطلق النار على مسؤول أمني في تعز وقاوم السلطات    طلاق فنان شهير من زوجته بعد 12 عامًا على الزواج    الثالثة خلال ساعات.. عملية عسكرية للحوثيين في البحر الأحمر وتدمير طائرة    رئيس الاتحاد الدولي للسباحة يهنئ الخليفي بمناسبه انتخابه رئيسًا للاتحاد العربي    الوجع كبير.. وزير يمني يكشف سبب تجاهل مليشيا الحوثي وفاة الشيخ الزنداني رغم تعزيتها في رحيل شخصيات أخرى    حقيقة وفاة ''عبده الجندي'' بصنعاء    رجال القبائل ينفذوا وقفات احتجاجية لمنع الحوثيين افتتاح مصنع للمبيدات المسرطنة في صنعاء    تضامن حضرموت يظفر بنقاط مباراته أمام النخبة ويترقب مواجهة منافسه أهلي الغيل على صراع البطاقة الثانية    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    سيئون تشهد تأبين فقيد العمل الانساني والاجتماعي والخيري / محمد سالم باسعيدة    الزنداني يلتقي بمؤسس تنظيم الاخوان حسن البنا في القاهرة وعمره 7 سنوات    حضرموت هي الجنوب والجنوب حضرموت    لغزٌ يُحير الجميع: جثة مشنوقة في شبكة باص بحضرموت!(صورة)    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    اليونايتد يتخطى شيفيلد برباعية وليفربول يسقط امام ايفرتون في ديربي المدينة    لأول مرة.. زراعة البن في مصر وهكذا جاءت نتيجة التجارب الرسمية    رئيس كاك بنك يبعث برقية عزاء ومواساة لمحافظ لحج اللواء "أحمد عبدالله تركي" بوفاة نجله شايع    الخطوط الجوية اليمنية تصدر توضيحا هاما    عبد المجيد الزنداني.. حضور مبكر في ميادين التعليم    وحدة حماية الأراضي بعدن تُؤكد انفتاحها على جميع المواطنين.. وتدعو للتواصل لتقديم أي شكاوى أو معلومات.    "صدمة في شبوة: مسلحون مجهولون يخطفون رجل أعمال بارز    البحسني يثير الجدل بعد حديثه عن "القائد الحقيقي" لتحرير ساحل حضرموت: هذا ما شاهدته بعيني!    إصابة مدني بانفجار لغم حوثي في ميدي غربي حجة    مليشيا الحوثي تختطف 4 من موظفي مكتب النقل بالحديدة    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    الديوان الملكي السعودي: دخول خادم الحرمين الشريفين مستشفى الملك فيصل لإجراء فحوصات روتينية    يوكوهاما يصل لنهائي دوري أبطال آسيا    رئيس رابطة الليغا يفتح الباب للتوسع العالمي    صحيفة مصرية تكشف عن زيارة سرية للارياني إلى إسرائيل    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    الذهب يستقر مع انحسار مخاوف تصاعد الصراع في الشرق الأوسط    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    «كاك بنك» فرع شبوة يكرم شركتي العماري وابو سند وأولاده لشراكتهما المتميزة في صرف حوالات كاك حواله    قيادة البعث القومي تعزي الإصلاح في رحيل الشيخ الزنداني وتشيد بأدواره المشهودة    «كاك بنك» يكرم شركة المفلحي للصرافة تقديراً لشراكتها المتميزة في صرف الحوالات الصادرة عبر منتج كاك حوالة    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    الاعاصير والفيضانات والحد من اضرارها!!    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و183    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    دعاء مستجاب لكل شيء    مستشار الرئيس الزبيدي: مصفاة نفط خاصة في شبوة مطلبا عادلًا وحقا مشروعا    مع الوثائق عملا بحق الرد    لماذا يشجع معظم اليمنيين فريق (البرشا)؟    لحظة يازمن    - عاجل فنان اليمن الكبير ايواب طارش يدخل غرفة العمليات اقرا السبب    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مقدمة كتاب: فتنة طائفية ..أم شرارة الصراع على الهوية
نشر في المساء يوم 26 - 03 - 2013

المؤلف: عبد الله الطحاوي - دار النشر : الشروق الدولية
كيف بدأت قصتي مع هذا الملف ؟ ربما هي الصدفة وحدها التي جمعت بيني وبينه، فأنا أزهري وصحفي كان يعمل في جريدة ذات توجه إسلامي وأكتب في موضوعات متنوعة، لكن ساقتني الظروف سوقا نحو هذا الاتجاه ..وحتى الآن لا أعرف السبب!!

تعرفت على صديقي الباحث العزيز سامح فوزي الذي كان يعمل صحفيا في تلك الفترة في جريدة وطني، كان يزور جريدتنا يقلب في الأرشيف، كان يبحث في ملفاتها يبدو أنه كان منشغلا بعمل بحث ما. تنوعت بيننا اللقاءات والحوارات ، وكان هو بوابتي إلى ذلك المجهول ..

بدأت علاقتي مع الكثير من الأقباط، حاورا ومعايشة، كنت أتساءل وسامح يجيب ، كان متحمسا لي وأنا اقتربت منه إنسانيا بشكل كبير وجمعتنا لقاءات وخبرات كثيرة . وكانت البداية مع سامح لكن المسيرة تعمقت أكثر عبر العديد من الشخصيات المهمة مثل الأنبا موسى أسقف الشباب والأستاذة رفيق حبيب وسمير مرقس واندريا زكي ونبيل صمويل وحنا جريس وسميرة لوقا وهاني لبيب وغيرهم العشرات من المثقفين ورجال الدين والشباب والشيوخ والسيدات حيث خبرت تلك التجمعات ووعيت مدى تنوعها وتعددها، ليظل هذا التنوع والتعدد داخل الجماعة القبطية هو الضمانة الرئيسية للمواطنة ، لأنه إذا تحول الأقباط إلى جماعة واحدة مصمتة ذات لون واحد سيكون الخطر الكبير . ويلفت النظر كثيرا للمتأمل في الأقباط هو الوزن النسبي لقطاع المهنيين من مهندسين وأطباء وصيادلة ومحاسبين وأغلبهم لهم من الأشغال الخاصة والمكاتب الاختصاصية المهمة الحاضرة في صلب الحياة المصرية وركيزة نشاطهم الخبراتي والمادي مع كل المجتمع وبالتالي هو معنيون بشكل اكبر بالاختلاط وعدم التمايز لأن هذا ينعكس بالإيجاب عليهم ، وهم ضمانة كبيرة للتعايش والتسامح .

كان يستوقفني كثيرا مشهد حفل الإفطار السنوي الذي أحضره داخل الكاتدرائية بالعباسية ..وأنت داخل إلى الكاتدرائية في لحظة الغروب وأنت صائم؛ ينتابك شعور غير عادي.. فأمامك مسجد النور يرتفع بشموخ وبجواره الكاتدرائية ببنائها الزاهي.. كل قد علم صلاته وتسبيحه ويفصل الله بين الجميع يوم القيامة وهو أحكم الحاكمين..

كان يلفت نظري أنه إفطار وحدة لكن كل واحد يفطر وحده . فقد كان يحرص المنظمون على إبراز الطابع الرسمي ، وقاموا بالفصل بين ممثلي المؤسسات بوضع لوحات مكتوب عليها أسماء الإدارات والهيئات مثل رجال القضاء وقيادات النيابة والداخلية، وأمن الدولة، والحراسات الخاصة ورجال الأعمال، والفن والإعلام، والمجتمع المدني، ورجال الدين الإسلامي، والطوائف الأخرى .رجال الكناس والطوائف والإدارة ..

كانت أزمة وفاء قسطنطين في أوجها، عندما اقتربت من عالم الكنيسة، والمظاهرات تملا ساحة الكاتدرائية، المشهد كان مرعبا، ويبدو أن قوة الحدث تدفع الأمور بشكل متسارع نحو الهاوية. ذهبت إلى هناك كان الشباب غاضبا إلى حد الاحتقان، يبدو أن خلف هذه المشكلات ما هو أعمق وأسخن ..

كان هناك من يحاول التهدئة ، وهناك من يصلي، وهناك من يوزع الطعام، وكانت لحظة السكون الشديدة عندما كان يشرع الأنبا يؤانس في الصلاة ..كان يحط الهدوء .. الدكتور سليم العوا يرى أن حدث وفاء قسطنطين هو حدث فارق ،قبل وفاء وبعد وفاء. وعبثا حاولت أن أقابلها في الدير الذي تتواجد فيه، وأكثر من مرة أحظى بوعد ثم يتبين لي أن الملف برمته بيد البابا الذي يمنع أي انسان سوى رجال الدين من الاتصال بها، وحتى الآن تظل حادثة وفاء قسطنطين حدثا فريدا ومهما ، وتتحمل فيه الجهات الكنسية عبئا كبيرا ، تراكماته لن تنتهي ، وتداعياته لن تتوقف .

ثم جاءت أيضا أحداث السي دي والمسرحية التي مثلت في إحدى الكنائس والتي تسببت في إشعال مظاهرات أخرى في الإسكندرية، وتطور الأمور أكثر مما ينبغي ..طالب البعض من البابا أن يعتذر لكنه رفض بشد، كانت الحجة أن البابا إذا اعتذر( ) مرة فإنه مطالب بتكرار ذلك في كل مرة وهو ما يجرح مقامه عند البعض في حين الاعتذار وهو قدر الكبار دائما ،بل ويرسخ مقام المودة بين الإسلام والمسيحية المؤسس على الجدل بالتي هي أحسن )بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُون) )المائدة82 ("..وفي تلك المواقف وغيرها كان يتراءى لي كثيرا الفرق بين سلوك الناسك ، وسلوك الزعيم ، بين من يترك ردائه للمتعلقين به، ومن يتشبث بالمواقع حتى لا يتمدد الخصم، من يتمسك بالبشارة ، ومن يدخل في تضاغط سياسي واجتماعي من أجل المكتسبات . إنه سيان كما يقول الأب متى المسكين أن تطلب الكنيسة القوة من السلطان الزمني، أو تحض على الاستهتار بقوة السلطان الزمنى، لأن فى الأولى خروجًا على اختصاص الكنيسة، وفى الثانية خروجًا على منطق المسيح ووقوعا فى دينونة الله، إن الحض على الاستهتار بسلطة الدولة متمثلة فى السلطان الزمني، هو تشجيع للشر، لأن الكنيسة لا ينبغي أبدًا أن تأخذ موقف العداء من الدولة والوطنية، ومصدر الخطر أن الذين يلقنون الدين للجميع يبنون الفرقة والتحيز والانقسام والتكتل .. هكذا تكلم الناسك المعتزل متى المسكين.


كنت في كل حدث أراني مدفوعا بواجب ما، وهو إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولم يكن أمامي سوى الأنبا موسى أسقف الشباب أحاوره ، وهو يمتلك من الود والسماحة والصفاء رصيدا يمكنه من التعامل مع الأمور بحكمة ، لم يكن صداميا ، ولا انعزاليا ، شخص وطني بامتياز . كان بعد كل حوار يتصل بي يشكرني على موضوعيتي البالغة على حد تعبيره.

وفي إحدى الحوارات تطرق نيافته إلى الحق القانوني الذي تمتلكه الكنيسة من أجل تمكينهم من النصح لمن يسلم ، ورد على نيافته المستشار طارق البشري مناقشا ومحاورا في حواره معي عن الولاية السياسية التي تمارسها الكنيسة على الأقباط ، وأن ما حدث يعد سابقة وخرقا للقانون والدستور ، ودارت رحى الحوارات والمواقف.

أثناء عملي وتجوالي كانت تترسخ لدي قناعات أن للأقلية عقل خاص، وكذلك للأغلبية ، بل وللدولة عقل ، وثمة سياقات معينة حينما تتصل العقول يؤدي إلى عقل الطائفية ومنطقها الذي يحكم المشهد، يقول اللاهوتي البارز جورج حبيب بيباوي تنحو عقلية الأقلية إلى الأحلام الرؤية التي تتمثل في تدخل الله ودعمه، هذه الأحلام تَسهُم في انتهاء الضغوط، وخلق مجتمع جديد تختفي فيه فكرة التمييز الديني. من هنا فان هذه الأحلام الرؤية ، تعكس رؤية دينية ذات دلالات سياسية واجتماعية وثقافية. إنها تمثل هروباً من الواقع الحالي بضغوطه، إلى مستقبل مثالي بأحلامه. وهنا عندما تنقل الأقلية فكرها وحياتها من العالم نفسه، إلى العالم الآخر، والمستوى السمائي، فإن التاريخ يتوقف تماماً ويصبح الفكر محصوراً فيما هو غير قابل للتحليل والدراسة .

ويضيف اللاهوتي أندريا زكي إن تزايد الضغوط على الأقلية يجعل من المعجزات العامة تأكيداً على أن الله مع هذه الجماعة، وأنه يتدخل لصالحها. فحينما تتعرض الأقلية لضغوط، تشكك في إيمانها وعقيدتها وتهددها بالزوال، تأتي المعجزات العامة لتقدم يقيناً للأقلية، بالحماية الإلهية. ولعل الحديث المتكرر عن اختبارات فردية وجماعية لظهورات ومعجزات القديسين في النصف الثاني من القرن العشرين تعكس هذه السمة.

ويرى أن واحدة من أهم المتناقضات التي تشكل عقل الأقلية، هو الهوية الدينية. ففي الوقت الذي تحتاج فيه الأقلية إلى دفع المجتمع نحو هوية قومية، تنزلق هي إلى الاحتماء بالهوية الدينية، هذا التناقض يخلق فكراً مزدوجاً يؤثر في مصداقية الانتماء القومي. ومن جانب آخر تشعر الأقلية دائماً بخطر الذوبان القومي، مما يجعلها تؤكد على هويتها الدينية. هذا الموقف المُعقد يُحدث بلبلة وفي بعض الحالات قد يُشجِّع انتماءات دينية ذات توجه متطرف، يستخدم الهوية الدينية لأسباب سياسية.

ويستمر القس الدكتور في دراسة عقل الأقلية حين يلجأ إلى الانغلاق اللغوي الذي يشكل ثقافة فرعية. وترى الأقلية في استخدام لغة خاصة، نوعاً من التميز. لكن هذا التميز يؤدي في مرات كثيرة إلى نوع من الانغلاق وسوء الفهم. ولعل خير دليل على هذا الانغلاق اللغوي هو الطريقة التي تقدم بها الكنيسة عقيدتها عن الثالوث في مجتمع إسلامي. فنحن نعرف أن هذه العقيدة تبلورت صياغتها اللاهوتية بوضوح في القرن الرابع الميلادي. وتم استخدام تعبيرات مثل "أقنوم"، للتعبير عن وحدانية الله المتعدد في ذاته. ومع أن هذه المفردات اللغوية (مثل أقنوم) كانت ذات دلالة في الوقت الذي استخدمتها الكنيسة، فإن تغيير البيئة الثقافية، وقيام الحضارة العربية الإسلامية، كان يتطلب من الكنيسة إعادة صياغة نفس الفكرة اللاهوتية في مفردات جديدة.فاللغة تلعب دوراً هاماً في صياغة التواصل، لذلك فالكنيسة تحتاج أن تتكلم لغة يفهمها العامة. إن خلق ثقافة خاصة منغلقة، يؤدي إلى الانعزال والتغريب والتهميش، لذلك فالكنيسة مدعوة لإعادة النظر في اللغة التي تستخدمها، لكي تكون قادرةً على بناء الجسور، والتعامل والتواجد الخلاَّق.

يتوهم عقل الأقلية أحيانا أن الانتماء للديانة المسيحية الأرثوذكسية منتج بالضرورة لخصوصية ثقافية جزئية مختلفة عن الخصوصية الغالبة، وأن ثمة ربط متلازم بين الدين والخصوصية في مثل هذه الأجواء طبيعي أن تزدهر أفكار حول النقاء الجنسي والعرقي، والدمج بين القومية والديانة، والكنيسة والهوية ، باعتبار كل هذه الصور معبرا عن جوهر واحد أصيل، يجسده غبطة البطريرك ذاته، جوهر واحد ، يعطي للنفس أمنا ، وللمكافح مشروعية ، وللناسك عمقا ، وللانعزال مبررا ، وللذاكرة نشوة، وإذا كان هناك هوية وقومية وديانة ومؤسسة، فهناك هموم ومطالب وبالتالي أجندة ومسألة ، وجدار عال يحمي الضحية من الجاني ، والأزمة الحاصلة أن هذا التوجه يقدم في عمقه بوصفه مضادا للتوجه العربي الإسلامي، وبعكس محاولة بناء هوية قومية خالصة تتناحر مع المحاولات التي يتبناها التيار السائد المصري والعربي، يتجسد هذا التناحر أكثر عند بروز المشاكل القومية والإقليمية والتشريعية والقانونية، حيث تزيد الفجوة، وتتعمق المواجهة ، وفي الوقت الذي تتصور فيه أنها تحمي نفسها بسياج الانعزال عن المحيط تعرض نفسها لشدائد ومخاطر أكبر.

وعندما تبدأ مرحلة العد والإحصاء، والسؤال عن الرقم ، تبدأ مرحلة البحث عن حقوق الطائفة كما يقول رفيق حبيب، ومعها يبدأ الحديث عن خطورة تنظيم الأسرة على الجماعة الأقل عددا، ويتزايد الاهتمام بتنمية عدد الجماعة وتضخيم هذا العدد، لأن البحث أصبح جاريا عن حقوق طائفة. ولكن هوية الطائفة لا تغيب عن كل تلك المواقف، فالجماعة المسيحية أسست وضعها باعتبارها الجماعة المصرية الأصلية والممتدة بدون انقطاع تاريخي، وبهذا تعود مسألة الهوية، ففي الهوية المصرية ترى الجماعة المسيحية أن لها ميزة تاريخية، أما في الهوية العربية والإسلامية، فتغيب هذه الميزة. ولكن المشكلة ليست فقط في مسمى الهوية، ولكن المشكلة الأكبر في البحث عن التميز الفعلي، ثقافيا واجتماعيا وحضاريا، فالجماعة المسيحية وهي تشكل تلك الحالة من الوعي، كانت تبني لنفسها تصورا مختلفا عن تصورها للآخر، بحيث تصبح مميزة عن الآخر، بصورة تمنع من ذوبان الطائفة في الوطن، بعد أن أصبحت الطائفة هي الوطن البديل، وربما الوطن الأصلي.

يمكن بالطبع البحث عن أثر أحداث العنف التي وجهت نحو المسيحيين، وقد كان لها أثرا بالفعل. ولكن المشكلة إذا تعلقت بأحداث عنف ترتكب في حق الجماعة المسيحية أو أي فرد منها، فإن المشكلة نفسها تنتهي إذا انتهت تلك الأحداث. ولكن إذا صورت أحداث العنف على أنها موجهة من جماعة الأغلبية الكارهة والمعادية لجماعة الأقلية العددية، فإن الصورة تختلف. لأن مع انتهاء أحداث العنف، نجد أن أثرها يظل مستمرا. والغالب في ما يطرح من تصورات داخل الجماعة المسيحية، هو النظر إلى الجماعة الأقل عددا باعتبار أنها ليست الفاعل الأصلي، وأن كل ما تقوم به هو رد فعل. ولكن المتابع لما يحدث في الظواهر الاجتماعية، يدرك أنه لا توجد جماعة كل سلوكها رد فعل، ولا توجد جماعة كل سلوكها فعل، حتى وإن كانت جماعة الأكثرية العددية.

يمكن القول أن رد فعل الجماعة المسيحية على حادثة موجهة ضدهم، يمكن تجاوزه بقدر ما يمكن علاج أسباب أحداث العنف، ولكن فعل الجماعة المسيحية وقرارها الذاتي الخاص بفصل هويتها عن المجتمع، والمحافظة على حالة التميز عن المجتمع، لا يمكن معالجتها إلا بقرار آخر من الجماعة المسيحية، أو المؤسسة الكنيسة التي ترعى مشروع الطائفة السياسية، أو الوطن البديل. فلا يمكن إقامة سلم اجتماعي في مصر، والجماعة المسيحية ترى أنها تختلف عن أغلب المجتمع، وأنها أفضل من الأغلبية العددية، وأنها مهددة بالفناء من قبل الأغلبية، وأنها تمثل الهوية الأصلية للمجتمع المصري، وترى أن الأغلبية العددية، وهي الجماعة المسلمة، غرباء عن أرض مصر. فالقناعة التي تتشكل على مدار عقود داخل جماعة تغلق أبوابها على نفسها، وتحتمي داخل مؤسستها الخاصة، أي مؤسسة المسيحية والطائفة معا، وهي الكنيسة، يصعب أن تتفكك، حتى وإن لم يعد لها سند أو سبب في الواقع.

وأزمة الهوية تمثل جزءا أساسيا من أزمة العلاقة بين المسلم والمسيحي في مصر، فهي وجه من وجوه المشكلة، وربما تكون الوجه الأهم، ومع ذلك فإن الجماعة المسيحية في مصر تتجه إلى تأكيد هويتها المصرية الخالصة ورفضها للهوية العربية والإسلامية، وكلما تزايدت المشكلات نجد توجها متزايدا نحو فصل هوية الجماعة المسيحية عن الهوية العربية والإسلامية، مما يزيد الفجوة مع الجماعة المسلمة. ومع تزايد تلك الفجوة تزيد المواجهات بين المسلم والمسيحي، ولكن الجماعة المسيحية تتجه لتعميق تلك الفجوة، رغم أن ذلك يعرضها لمواجهات أشد. وتندفع الجماعة المسيحية في طريق يعرضها لمخاطر كبيرة، وتتصور أنها تحمي نفسها من مخاطر تتعرض لها( ).

وللأغلبية عقل، سماته في الكمية، وتوهم أن الوزن يلعب وحده دورا ، وتجاهل أن قيمة الوزن لا تظهر الا في السبيكة، التي تتضام مع أوزان وأنواع أخرى ، فيصبح للمركب خصائص جديدة تختلف عن خصائص الانفراد، فمصر مجتمعة تختلف عن مصر المنفردة، وهذا أمر تدلل عليه وقائع كثيرة فلو تكلمنا داخل الخبرة المصرية فيما يتعلق بالبنى الانثروبولوجيا المشتركة، والقواعد الاجتماعية الموجهة، وحضور الدين كمجسد أعلى للقيم ..هل كل هذه الموحدات تركت مجالا للانفراد بأي خواص لأي طرف مصري ليختلف عن الآخر بصرف النظر عن الدين أو الأصل، وإذا حضر لدى الأغلبية الوزن فقط ذهب التعاقد، وانكمش التعايش، وتضاءل الاجتهاد، وأكثر فترات الفقهي الخاص بغير المسلمين ازدهارا مرتبطة بمدى اتساع فكرة التعاقد، بل وحاليا عندما اجتهد وأصل الأساتذة البشري والعوا في مقاربات غير المسلمين في المجتمع الإسلامي كانت في أوج علاقات الحوار والتشارك بين النشطاء الأقباط والإسلاميين .وتاريخيا كان عقل الأقلية عبر التاريخ مبني على التعاقد حق الحضور للأقلية مقابل حق المرجعية للأغلبية، حق المساواة والتمثيل، مقابل الهوية، أي أن المطلبية القبطية كانت تتمحور حول فكرة المساواة الكاملة صار المطلوب أمر آخر بخلاف المساواة،لكن هل قدمت الأغلبية القراءة والبديل الذي يستوعب هموم وهواجس الأقلية ، يجزم عدد من المفكرين الإسلاميين أن دورهم انتهى في تمهيد وتعبيد الطريق للتعايش والمساواة الكاملة، في تلك اللحظة يتبين أن أحد أهم إشكاليات التعايش في مصر، أن يكون للجماعة الوطنية أكثر من وعي لمنظومة وجودها وحركتها فما يراه المسلمون مؤسسا للعدل والمساواة من الخطر أن يكون عند الطرف الثاني داعما للظلم والانتقاص، والعكس أيضا، فنظرة كل طرف للأمر هو مؤشر في نظرة الطرف الآخر، وبالتالي من الواجب توضيح أن انشقاق الوعي يقود لانشقاق المصالح، وتلك هي عتبة الخطر الذي يجب ألا يتجاوزها الجميع.

فالتعايش بين المسلمين والمسيحيين في مصر هو شأن مركب، بمعنى أن حالة التعايش الأساسية لم تنف وجود وعي جمعي سلبي، يمثل حالة النزاع والفتنة الذي يعترض مسيرة تاريخه.هذا الوعي تاريخي ظل موجودا وقابلا للاستدعاء في أي وقت أو لحظات معينة، ومن ثم إذا كان في الطرف الإسلامي أفكارا وحركات متعصبة، فسنجد أنه مع التيار المسيحي المندمج ثمة وعي خاص وتيار مزج الشهادة بالعزلة وينتج سلوكيات متعصبة، هذا الوعي يؤكد ويسترجع -خصوصا في مواقف الصدامات الدامية- سواء ما تم في تاريخ مصر الوسطى بحسب المؤرخ قاسم عبده قاسم، أو في الحقبة السبعينية، والمواجهات المسلحة الموجهة ضدهم من بعض الجماعات الإسلامية المسلحة، حيث رسخت تلك اللحظات هذا الوعي السلبي، ولا نختلف على تصوير هذا السلوك في الكثير منه في إطار رد الفعل من جانب بعض الأطراف المسيحية، لكن بات مهما إعادة رصد بعض المواقف والسلوكيات، حتى نفهم ونفرق ما هو فعل وما هو رد فعل وما هو اختيار لدى الطرفين، وكل طرح له تأثيره.

الإطار الذي يجب أن تتحرك فيه أي مناقشة تخص شئوننا، سواء على المستوى الإسلامي أو المسيحي، حيث تنحاز هذه السطور لمفهوم الجماعة الوطنية بوصفه المعبر الحقيقي عن حالة التعايش المصرية، والمدخل المناسب للتعامل مع مكوناتها وأوزانها.وبالتالي التعامل مع المكون المسيحي بمؤسساته يجب أن يتم التعامل معه باعتباره شأنا وطنيا، وكذلك المكون الإسلامي مؤسسات وتياراته الحركية هي شئون وطنية ليس هناك طارئا أو ضيفا داخل تلك المكونات، المتداخلة مع بعضها البعض، ولا مجال ل "إما أو".

1

كان لدي إحساس عميق بضرورة تعرفي على شخصية المسيح درست سيرته من أدبيات شتى ، لكن للقرآن معه شأن خاصة ميلاد السيد المسيح ، حيث الكون تسابيح وقلب مريم القانتة في تبتل.. هل ننسى هطول الفجر الهادئ الأنوس، وتساقط الرطب الجني.. " قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ ءاتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا . وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا . وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا . وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) ". مريم30-33)
ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي عايش مجتمعا نصوصيا تحكمه الأساطير، وإنسانا ضالا سجين عذابات النفس والمرض.. أعمى وأبرص وأكمه لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم. فكان المسيح والزيت المبارك..

فارتاحت الروح القلقة وذهبت الأوجاع، وارتفعت الأنفس من مجرد نقطة عتماء.. تنادي عتمات العالم أن اتحدي في مجتمع وتشكلي في مؤسسة دينية حرفت الكلم عن مواضعه.. فبذر المسيح الكلمة فأحيا الموت والموات بإذن الله.. فإذا النور يومض وينادي الأنوار الإبراهيمية لتتجمع في يقين يبحر في الأعماق لتصبح الأنفس متأهبة للدخول إلى عتبة التوحيد.

كان بسيطا أضناه الشوق، وجميلا شفه الوجد، أما كلماته ولمساته الإعجازية فهي مزيج بين هذا وذاك.. يألف الحياة وتألفه.. من القران تستطيع أن تشف صورته، لتجد نفسك أمام شخصية مأنوسة الطلعة كما يقول العقاد ويحيط بها السلام من الميلاد إلى الممات إلى يوم يبعث حيا، تشرق روحه بالبر وتترشح من كلماته أنين الروح الغريب وطوبى للغرباء.. سريع الخاطر يقظ الكلمة رهيف العبارة.. وهي إما تشخص داء أو تصف دواء ويقدمها في بلاغة مدهشة كأنها قوارير من روح وريحان.

نشا في يبت نجار في قرية خاملة بين شعب مقهور، ولبساطته الشديدة كان الاستغراب من اختياره مبلغا عن الله، نفس الكلام واجه كل نبي وذات السؤال :لماذا اختار الله هذا البسيط للرسالة؟؟

عالم الاجتماع ماكس فيبر يرى أن الله لم يختر نبيا من طبقة رجال الدين بل من البسطاء المدنيين.. ولما علم أبو عامر الراهب أن الله سيبعث رسولا في مكة استلم صومعة وبات ساجدا ولكن عناية الله كانت تترصد محمدا الراعي اليتيم ليكون أبو القاسم الشاهد.

كان يقول (السبت للإنسان لم يجعل الإنسان للسبت) حيث زالت عبادة الأيام وأبقى عبادة الواحد.. كل الأيام له.. لا لعبادة المواسم وهذا أبلغ نقد للشكليات.

كما انه كان نقطة افتراق بين عالمين اليهود تجار الدين والأسرار ولا الرومان تجار الدولة والاستقرار (مملكتي ليست في هذا العالم ).. كان ضد الشراكة بين التاج والمذبح.

(من اخذ السيف بالسيف هلك) فالمسيح على مذهب بن أدم الأول " لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ" المائدة 28، لكن الكنيسة أشعلت باسم المسيح حربا صليبية دامت 171عاما ومحاكم تفتيش لمدة خمسة قرون فتنوا فيها المؤمنين والمؤمنات، وعندما يموت الدين تحيا الطقوس، وبتواري الإيمان تطفو العاطفة الدينية والتي باسمها يحال بين الإنسان واختياره وتمثل مسرحية تسخر من الرسول، ولأجلها يرد مجنون بطعن راهبة مسنة وتحرق كنائس وصلوات، وبدعواها تذكر العاطفة يحرق السنة والشيعة مساجدهما وتقطع المصاحف..

مجرد أجساد ذات خلايا عصبية تنتظر التحريض لينطلق مركب الشراسة، وإذا ماتت الفكرة بزغ الصنم، وليس بالخبز وحده يحيا الإنسان كما يقول المسيح.. إنما بالمعاني والأفكار كما يرى مالك بن نبي.

يوم السبت وقف المسيح يعظ حاشية الدولة فقرروا جميعا أنه خالف الشريعة لأنه يجلس إلى القذرين، وأنه يمارس العمل يوم السبت، وكان جوابه: إذا سقط خروف لأحدكم في النهر يوم السبت أيتركه أم ينقذه؟ أو ليس الإنسان أهم من الخروف؟؟ أنه قذر في أعينكم ومريض في عيني.. أنا في خدمة المرضى وليس الأصحاء.

الانحراف أمراض اجتماعية تحتاج العلاج قبل العقاب. والعلاج على يد المسيح انطلق من ضرورة تحرير الإنسان من جذبة الأرض بصدمه روحية قوية.. في عبارة وميضة أو مثل بقلب فيه المنطق المعتاد.. فقبل رجم الزانية أمرهم أن يعودوا لأنفسهم لا شيء في الخارج.. المسالة فينا (من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر) لأن الله (لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).

كل هذا يجعلنا نقترب كثيرا من مفتاح شخصية المسيح وهو الوداعة (طوبى للودعاء الرحماء)، فالرحماء يرحمهم الله، ومن لا يرحم لا يرحم، ورحمة الله وسعت كل شيء كما يقول القران وشمسه تشرق على الأشرار والأبرار كما يردد المسيح.

حتى المسيحية المعاصرة مؤسسة على قاعدة الحب المطلق كما يقول متى المسكين وهو مفترض حب للجميع دون النظر للديانة، نفس القاعدة في الإسلام ولكن التأسيس للعدل المطلق كما يقول الشيخ هاني فحص ولو على حساب الأقربين.. فكيف يقتتل العدل مع الحب (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) الرحمن 7.
يقول المسيح: "أيها السامعون، أحبوا أعداءكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، باركوا لاعنيكم، أدعوا لمن يسيئون إليكم. من لطمك على خدك الأيمن فحول له الأيسر. ومن أخذ رداءك فامنحه ثوبك، وكل من سألك فأعطه. ومن أخذ ما في يدك فلا تطالبه، وما تريدون أن يصنعه الناس لكم أصنعوه لهم انتم. وأي فضل لكم إن أحببتم الذين يحبونكم؟ إن الخطاة ليحبون من يحبهم.. بل تحبون أعداءكم وتحسنون وانتم لا ترجون أجركم.. إن أخطأ أخوك فوبِّخه، وان تاب فاغفر له، وان اخطأ إليك سبع مرات وتاب إليك سبع مرات فتقبل منه توبته".

لم يؤسس المسيح كنيسة ولا الحواريون إنما أسسها بولس ولم يكن حواريا ولم يلتقي بالمسيح كما يقول ويلز في(معالم تاريخ الإنسانية) ولكن الأفكار السلامية والمقاومة السلمية باتت ملكا للجميع بل وسنجدها مستبطنة داخل دعوة الرسول السلمية في مكة وفي مقولة أحدا أحد لبلال، او مع غاندي الذي ارتدى الخيش الهندي مرددا مع المسيح (الحياة أفضل من الطعام، والجسد أفضل من اللباس).

أو في ارتفاعه مارتن لوثر كينج محرر الزنوج عندما كان ينادي (لدي حلم) أو(مملكتي ليست في هذا العالم) أو المناضلة السوداء روزا باركس التي تحملت الضرب ورفضت ترك مقعدها في الباص في إحدى الولايات الأمريكية التي تحرم جلوس السود ووقوف البيض (أيها القادة العميان تحاسبون على البعوضة ويبتلعون الجمل). وليس منه بالتأكيد كهنة الزيف والكراهية ولا بوش الذي يؤمن أن بيجن وشارون هم مقدمة مجيء المسيح..!!! ولا القس الأمريكي جيري فولويل الذي قال: "إن الوقوف ضد إسرائيل هو وقوف ضد الله".. ونسي أن المسيح كان يردد ليهود (لو كان أباكم إبراهيم لعملتم عمله).

كان المسيح كما يقول ويلز أشبه بصياد أخلاقي رهيب. أعتزل السلطة وتنحى لها عن ميدانها إلا أنها لم تتركه كما يقول العقاد حيث أقبلت عليه الجموع حتى أحست السلطة.. لاسيما سلطة الدين قبل كل شيء الخطر من ذلك الداعية المحبوب.. وكل داعية محبوب خطر على سلطة التقاليد.. ووقع الاشتباك الحتمي بين سلطة شعارها المبالغة في الاتهام والعقوبة، وبين دعوة شعارها التوبة والغفران.. إما المؤسسة.. وإما المسيح.


2
كنت دائما أتساءل هل ثمة فرق بين تدين وتدين ؟؟ هل للتدين أنماط وتجسدات تختلف بحسب الظروف والملابسات ؟ متى تنشط موجات التدين ؟ ومتى تخفت ؟ لماذا ينتعش نمط تديني معين في فترة ما ويتوارى نمط آخر ؟؟ ماذا نفهم مثلا من اكتساح الشارع المصري لموجة من التدين السلفي، ومحاولات بعض الأقباط تغيير طوائفهم الدينية ؟؟ وأن يتجول بعض الشباب المسيحي بحثاً عن نمط وعظي يحقق لهم إشباعا روحيا واجتماعيا؟؟ ويبدو السؤال الملح لماذا تعود العذراء من جديد على قباب الكنائس الأرثوذكسية ؟؟ ولماذا يفضل البعض التدين الحركي في فترة ما ثم ينصرفون عنه في فترة أخرى ..؟ السؤال لا يستدعي تحليلا علميا لنمط التدين الرسمي في صوره الرسمية والمؤسسية أو الحركية ،بل نمط لتدين شعبي يظهر ويختفي و يتشابه لدى المسلمين والأقباط ، وهو التشابه الذي لاحظه كل دراسي تراث الاعتقاد المصري الشعبي ؟؟



من المهم أن نعرف أن الظواهر الدينية لها جذرها الكتابي والنصي، ولكنها لا تنكشف إلا في أجواء اجتماعية وثقافية، وعندما يتجلى الدين في تلك المكونات يصبح من المهم دراسة الوعاء الحاضن للظاهرة الذي يوجه مساراها، ويجسد تجليها سواء كانت فعلا أو ردا لفعل.. ومصر منذ أكثر من أربعين عاما واجهت موجات من التدين ، يبدأ بموجات روحية شديدة الانفعال، ثم تستقر في تدين عقائدي منظم قائم على الحشد، ثم يدخل في مرحلة ترشيدية تقنن فيها الخبرة والرحلة الدينية .. هو ليس تصنيف حدي بل متداخل أحيانا،لكن هذا لا يمنع من تمايز وسطوة لنمط تديني على نمط آخر ويمكن رصد أنماطا من التدين بدأت أولى معالمها قبل نكسة 67 بقليل ..وهذه السطور تستعرض وتتقصى تحولات موجات التدين في الشارع المصري في تلك الفترة.

في يوم الثلاثاء 2 ابريل الموافق 1968 تكرر حدوث ما يعرف بظاهرة العذراء على جدران وقباب بعض الكنائس الأرثوذوكسية، وصاحب هذا الأمر ضجة عارمة، مست الرأي العام، أدت إلى نزوع القيادة السياسية نحو هذا الولع؛ فقام الرئيس الراحل عبد الناصر بزيارة لكنيسة الزيتون تحريا لظهور العذراء ، داخل حرصه الديني العام الذي شاب بعض سلوكياته السياسية في تلك الفترة، في الصلاة بمسجد الحسين وحضور بعض المناسبات الدينية.قال البيان البابوي الصادر في 4 مايو من نفس العام "صاحب هذا الظهور أمران هامان : الأول انتعاش روح الإيمان بالله والعالم الآخر والقديسين واشراق نور معرفة الله على كثيرين كانوا بعيدين عنه ، مما أدى إلى توبة العددين وتغير حياتهم ". وعندما سئل الانبا غريغويوس أسقف البحث العلمي وقتها عن سبب ظهور العدرا قال "لأجل تعزية المصريين في محنتهم" في تلك الآونة عاد رفات مارمرقس الرسولي من روما، وفي احتفاء مهيب دفن في القاهرة ، يتوج هذا النزوع الروحي الذي دب في الكنيسة .

وفي نفس الفترة كان السوسيولوجي سيد عويس عاكف على دراسة وتحليل ظاهرة إرسال الرسائل إلى الإمام الشافعي وهي ظاهرة تفجرت في المجتمع المصري في تلك الفترة ، وخرجت نتائج عويس التي حللت مضمون تلك الرسائل أنها تهدف إلى تحقيق الآمال وتخفيف الآلام والمظالم.

وعلى المستوى الحركي كان سيد قطب قبل ذلك بسنوات قليلة يحذر البشرية في معالمه من الهاوية، وأن المجتمعات المسلمة دخلت في نفق الجاهلية ، ولا خلاص إلا بالقاعدة المؤمنة النقية، وكانت زينب الغزالي ترى في أيام من حياتها أنه في رؤية تدبيرية إلهية أمام تلك القاعدة المؤمنة ثلاث عشر سنة حتى يتم تمكينها.. وكان طبيعيا بعد ذلك بقليل أن يذهب الشيخ عبد الحليم محمود كما أشيع حينها للرئيس السادات ليبشره بالنصر بناء على رؤية من الرسول ص ..كما تزعم الراويات.

بدا أن ثمة نزوعا نحو السماء ، يخلب لب الجميع ، كانت هزيمة 67 ضربة عسكرية وروحية أيضا ، أحدثت فراغا وانكسارا ، وتفكك اليقين وانقشعت الأسطورة ، وضاقت الأرض بما رحبت ، أصبح مهما الارتهان بمثل أعلى لتجاوز احباطات الواقع وانتكاساته، وتم تجديد النضال من أجل عقيدة أوضح من الوطن، وانتهاج رسالة أسمى من النهضة، لاسيما أن هذا الارتهان يجعل الفرد يعيد قلب العلاقة بالمحيط ويتبادل معه الدور، ليستهوي الكومبارس دور البطولة، أدان الجميع سلطة مستبدة ومجتمع فاسد وضال، التي أدت إلى هزيمة كبيرة، والحل الإسلام أو الكنيسة وجماعة المؤمنين نقية الشعور في مجتمع ملتبس كما يقول سيد قطب، أو نقية المجتمع داخل صحراء شاسعة كما فعل شكري مصطفى .

لجأ الشعب ساعتها للدين، لم يكن أمامه مشروع او بديل آخر سياسي أو ثقافي ، كان الدين والتدين ضرورة، بل والبعض يظن أن ذلك تم في المجال الاسلامي، ولكن في نفس التوقيت،بدأت تلوح بوادره عند الكنائس المسيحية بكل طوائفها ، في بعث روحي شديد ،فكان "درس الجمعة" داخل الكاتدرائية العباسية ذا أهمية كبيرة في التثقيف القبطي، وصار مناسبة مهمة في حياة الكنيسة القبطية وكان الألوف يتقاطرون لسماع أسقف التعليم الأنبا شنوده، الذي صار كاريزما للشباب القبطي خاصة بعد عام 1967م؛ إذ كانت عظاته تعالج الجوانب الاجتماعية والسياسية في قالب ديني.وتضخم لدي المتدين العام الحس الخوارقي والغيبي واليقين السماوي الشديد، وكل جماعة دينية وطرق تجليها، فمثلا في الإيمان الأرذثوكسي يؤمنون بالشراكات مع القديسين والراحلين، وأن العلاقة لم تنته وبالتالي مثل هذه الظواهر كثيرا ما يتم تناقلها ، الأمر مختلف لدى البروتستانت ، وكل قدّم خلاصه المختلف ، وعمق الراحة المنشودة في وجدان مريديه ، صار الترابط ليس مع مجموع الأمة بل داخل جماعة صغيرة منسجمة قليلا منعزلة أكثر، داخل الكنيسة لا جماعات المؤسسة هي الجماعة الاكبر وداخلها دوائر ،أما في الإسلام يد الله مع الجماعة.


ومع بداية عقد السبعينيات بدأت مرحلة العقيدة صار المسرح معدا للجيل الجديد في الكنيسة، والحركات الإسلامية فقد تغيرت القاعدة الاجتماعية وسيطرت على المشهد وجوه شابة مثقفة، استفادت من التدوير الاجتماعي الناصري؛ وتبدلت تركيبة القيادة داخل المجتمع المصري.ربما تصح مقولة "لن يصبح الأقباط أيتاما بعد اليوم" عنوانا لتلك المرحلة في حياة الكنيسة المصرية، حيث بدأت عملية التوحد بين الكنيسة وشعبها تتجسد فعليا في حيز الواقع تغذيها غريزة الاحتماء والأمان، لتصبح خط الدفاع الأول.

صاحب هذه التغيرات الهيكلية تغير مناخي عام حيث صار الدين هو الملاذ الوحيد للمصريين الذين حولوا أنظارهم تجاه القيادات الدينية الجديدة من أجل أن تمارس استحقاقات المرحلة، وارتفعت وتيرة الفخار بالقساوسة الذين لا يخافون ويدافعون عن العقائد سرًّا وجهرًا،وانتشرت أسماء القديسيين المضطهدين والمقاومين.

كانت معالم التدين في تلك المرحلة حركيا، والعمل وسط الشباب والحركة داخل الجامعة وما لايتم الواجب إلا به فهو واجب، وكل دين وله حركته ،وله تفسيراته الحركية الخاصة ، فكانت لجنة التوعبة الدبنبة الطلابية الإسلامية ، والاسرالقبطية والاكشن جروب البروتستانتية ، وكل حركة بقدر ما محافظة أكثر هي سلفية أكثر وأكثر، كان غالي شكري يلاحظ أن جماعة الأمة القبطية لم تنته ولم تنفصل عن ذهنيات بعض الأقباط، ويرى أنها ظلت وجدانًا هائمًا، وتبحث عن البدائل للتواجد والتجسد، وهي تتوارى خلف أي جماعة انعزالية، حيث يعاد إنتاجها من جديد، وهو ما ظهر جليًّا في خطاب أقباط المهجر في السبعينيات .

وهو تدين وعظي روحي شديد الانفعال نشط فيه عدد من الوعاظ كشك والمحلاوي وذكريا بطرس ومنيس عبد النور، يقدمون عدداً من الشعارات والتفسيرات الدينية حول الخلاص والتوبة والفلاح بالعودة إلى الله ،أو الامتلاء بروح القدس ، أو التكريس الكامل لله ، وعظ هدفه إزاحة قلق الجماهير وتوترها .

وهو تدين شبابي يقوده شباب مع الشباب وازدهرت في تلك الفترات المعسكرات الروحية لدى الإسلاميين والمسيحيين عبر المعسكرات والمؤتمرات التي كانت تقيمها الكنيسة الإنجيلية من أجل الشباب في بيت السلام بالعجمي والذي لعب دوراً كبيراً في هذه الصحوة، حيث كان يختلي الشباب مع القادة الدينيين من أجل النهوض بهم روحياً وثقافياً.

وهو تدين المواجهة العنيفة الذي برز فيه التيارات الجهادية ،ورموزه المطورة لأفكار سيد قطب ومن رموزه صالح سرية وحزب التحرير وجماعة الفنية العسكرية وعبد السلام فرج وسالم رحال وعبود الزمر وازدهار تدين خلاصي حالم "مهدوي" جذري الرؤية والوسيلة .وفي عام 1972م، ولعلها المرة الأولى التي تحرك فيها الأقباط في مظاهرة من 400 شخص يريد 100 منهم ملابس دينية كهنوتية بعد أن اتفق مجمع الكهنة بالقاهرة بإقامة الصلوات بمقر الجمعية التي أحرقت بالخانكة سيرا على الأقدام مرددين التراتيل وقال البابا: "قررت
الديمقراطية
طباعة | إرسال
اضف تعليقك على الفيس بوك
تعليقك على الخبر
ننبه الى ان التعليقات هنا تعبر عن كاتبها فقط ولا يتبناها الموقع، كما ننبه الى ان التعليقات الجارحة او المسيئة سيتم حذفها من الموقع
اسمك :
ايميلك :
الحد المسموح به للتعليق من الحروف هو 500 حرف حرف متبقى
التعليق :
ارسل هذا الخبر الى صديق
اسمك :
ايميلك :
ايميل صديقك
ملاحظات :


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.