صارت مدينة أسيوط محلة يمنية يقصدها معظم من تساعده الظروف للطيران من اليمن والسفر إلى مصر لغرض الدراسة في جامعتها التي كادت تغلب عليها السمة اليمنية ، أو لغرض العلاج في عياداتها ومشافيها التي غدا المريض اليمني أبرز زبائنها . ولأنني مقيم مع عائلتي في مدينة القاهرة فقد قررت أن أصطحبهم في رحلة سياحية لأكتشف سر تلك المدينة الجاذبة ، وقد التقيت هناك بكثرة من الحضارم المبتعثين الذين اختاروا الدراسة هناك ومعظمهم مقيم في شقق منفردة مع عائلته ، وآخرون ممن أتى للعلاج وغالبًا ما يقيمون في فندق يدعى زهرة مكة الذي تشبع عماله بمفردات جمة من معجم اللهجة الحضرمية . وفي مقهى مجاور لذلك الفندق تتجمع الوفود الحضرمية من طلاب علم وطلاب شفاء في مسامرات هي أشد ما حسدتهم عليه لأنك حينها تنسى أنك على بعد آلاف الأميال من الوطن ، مقهى تتلاشى عنده المسافات وتلغى الحدود فكأنك قاعد على كرسي مستند على جدار سكة يعقوب . مدينة أسيوط مدينة متقاربة الأحياء لا تعيا فيها الأقدام ، وتستطيع أن تلم بأطرافها في أيام معدودة ، أهلها بسطاء ، مواصلاتها رخيصة ، وأسواقها شعبية ومحدودة ، وعياداتها بها أطباء يعرفون بالإتقان مع قلة الكلفة ، وجامعتها فيها أساتذة يتسمون بالتواضع والتيسير على الدارسين ، كل تلك ميزات يتحدث بها الوافدون حديثًا متواترًا يتناقلها الجميع لاحقًا عن سابق ، وصارت تشكل دعاية لسانية لتلك المدينة المصرية الصعيدية . وإذا ذهبنا نبحث عن رابط تاريخي يجمع بين حضرموتوأسيوط فإنني أتذكر مقالاً كنت قد قرأته في عدد قديم من صحيفة ( فتاة الجزيرة ) العدنية صدر في مطلع الأربعينيات لمستشرق يزعم أن الفراعنة قد قدموا من جنوب جزيرة العرب ومن حضرموت تحديدًا ، كما نشر في أحد المجلات المصرية في الثلاثينيات بحث يصدق تلك الرواية ، فكان أن اطلع عليها الأديب الحضرمي علي باكثير فوقعت من نفسه موقعًا عظيمًا فأنشد قائلاً : أبناء مصر دم العروبة فيكم يجري ويعلو عزة وإباء إن الفراعنة الذين نموكم كانوا لقحطان العلى أبناء فهل الدم الحضرمي للوافدين يحن لأجداده هناك ، وقد قال لي أحد أصدقائي هناك ما أرى أحدًا من أهالي أسيوط إلا وأشعر بألفة نحوه وأشعر أن له نظيرًا في المكلا فالوجوه مألوفة ولا تحس نحوها بالغربة ، فهل هو انطباع خاص به أو هو راسخ في أعماق كل حضرمي يهفو إلى أسيوط . وقد لا حظت أثناء مسيري إلى أسيوط ومنها إلى سوهاج أن كثيرًا من القرى والمراكز تحمل أسماء قبائل عربية لاشك أنها تنتمي في الغالب لأصول يمنية كما يشهد لذلك مؤرخو مصر ، ومن بينها مركز ( صدفا ) الذي تذكرك تسميته بقبيلة الصدف الحضرمية ، بل لاحظت أن أسماء لمناطق هناك تحمل صبغة حضرمية تشبه ( حضرموت ) و( سيحوت ) و( برهوت ) ، ومن بينها مدينة ( أسيوط ) نفسها ، ومثلها مما يجاورها ( منفلوط ) ، ( ديروط ) ، ( سمالوط ) ، وربما غيرها مما لم أره ، والتاء والطاء كما يقول علماء التجويد والأصوات حرفان متجانسان ومخرجهما واحد ، يفرق بينهما التفخيم الذي تميل إليه اللهجة المصرية الصعيدية ، فهل تلك المشابهة اللفظية مجرد مصادفة ؟ وإذا تركنا التاريخ الموغل في القدم وغموضه واستقرأنا التاريخ القريب نجد أن أول وفد زراعي مصري زار حضرموت في منتصف الثلاثينيات كان يرأسه الأستاذ ( سليمان حزّين ) ، وقد كان هذا يشغل منصب رئيس جامعة أسيوط آنذاك ، وفي هذه المناسبة وقف الشاعر الحضرمي عبدالله بن يحيى يقول : قد كنت أسمع عنكم كل مكرمة يا أمة النيل حتى شاهد البصرُ فذاب ما سمعته الأذن في لججٍ من العِيان وطاب الخُبْرُ والخَبَرُ لكن قبل هذا كله تبقى المصلحة المشتركة وتحقق المنفعة المالية لهؤلاء والدراسية والعلاجية لأولئك هو الجامع الأوثق بين أسيوط بجامعتها ومشافيها وبين زائريها من الحضارمة وسائر أبناء اليمن .