عُرف عن الحضارم هجرتهم العظمى إلى شرق آسيا للتجارة وطلب الرزق، وهو ما برعوا فيه وكللوه بحلية ثمينة من أخلاقهم الفاضلة وأمانتهم على وجه الخصوص، مما أقنع الآسيوين على اعتناق الإسلام سلماً على أيدي التجار الحضارم، فكانوا تجاراً ودعاةً في نفس الوقت.. وعُرف عنهم أيضاً – أي الحضارم – هجرتهم إلى أفريقيا في زمن المجاعة والقحط، فكانوا هنالك خير سفير لبلدهم، فعُرف عنهم الأخلاق الحميدة والصفات النبيلة، فنالوا بذلك ثقة الأفارقة ومطرح رضاهم فتزاوجوا وكونوا مجتمعاتهم المشتركة.. وغير بعيدٍ عن ذلك تواجد الحضارم في دول الخليج من أجل لقمة العيش التي عزت في بلدهم. هنا في محافظة أسيوط بجمهورية مصر العربية يتواجد الحضارم بشكل ملفت وواضح جداً، فيستطيع أن يميزهم السكان المحليون المصريون بالرغم من تقارب الدماء، غير أن تواجد الحضارم في أسيوط له خصوصية، فلم يكن للتجارة ولا هرباً من مجاعة، وإنما للعلاج وطلب العلم. محافظة أسيوط.. من محافظات صعيد مصر، يسكنها أكثر من 6 ملايين نسمة على مساحة تقارب 26 الف كيلومتر مربع، وتتكون من 11 مركزاً عاصمتها مدينة أسيوط، واسمها مشتق من الكلمة الفرعونية "سيوت" والتي تعني "الحارس"، تضم تراثاً حضارياً من مختلف العصور الفرعونية والرومانية والقبطية والإسلامية، ولذلك فهي تشتهر بمعالمها الأثرية ومساجدها وكنائسها القبطية. بدأ تواجد الحضارم في مدينة أسيوط في بدايات الألفية الجديدة، وتحديداً في العام 2002م عن طريق توافد طلاب الدراسات العليا المبتعثين إلى جامعة أسيوط – إحدى كبرى جامعات مصر ورمز تقدمها العلمي – ويُبتعث الطلاب إما عن طريق جامعة حضرموت للعلوم والتكنولوجيا أو وزارة الصحة أو عن طريق رجل الخير والإحسان الشيخ المهندس عبدالله أحمد بقشان أو عن طريق النفقة الخاصة.. فكان هؤلاء الطلاب النواة الأولى لتواجد الحضارم في تلكم الديار، وقد كونوا تكتل "رابطة باحثي حضرموت" بأسيوط حيث يقع من أولى مهامهم خدمة الطلاب الحضارم ورعاية شؤونهم وتكريمهم ومساندتهم من مقدمهم إلى أسيوط وحتى مغادرتهم. ولم يعاني الطلاب الحضارم الوافدون أسيوط من أي تمييز، بل بالعكس فقد أكدوا أنهم يعيشون حياةً طبيعية جداً مثلهم مثل المصريين، وخاصةً أن العرق الحضرمي مقارب تماماً لعرق "أهل أسوان" إحدى محافظات صعيد مصر، لدرجة أن بعض المصريين يرحبون بالحضارم بقولهم "أهلاً بأهل أسوان". وكان لمقدم الطلاب الحضارم إلى أسيوط دور كبير جداً في توافد المرضى الحضارم الذين لا يجدون علاجاً ناجعاً يُبرئ أسقامهم في وطنهم حضرموت، فقد سهَّل الطلاب على مرضاهم الحصول على الخدمات العلاجية، فهم مَن يقوم على إرشادهم وتوجيههم ومتابعتهم.. بل وحتى استقبالهم وإسكانهم وتوديعهم، الأمر الذي يشجع المرضى الذين ابتلاهم الله بعللٍ لا يجدون مَن يخلصهم منها من إطبائنا وكادرنا الطبي المحلي الحضرمي، إما لعدم تواجد الطبيب المختص أو لنقص في الكادر والمعدات والبنية التحتية الطبية، وقد يتواجد ذلك كله ولكن يبقى ضعف التشخيص والخبرة الذي يبقي على ألم المريض دهراً في وطنه مما يضاعف الحالة المرضية.. فيعقد العزم ويتوكل على الله ويبحث عن براءة لمرضه في أسيوط أسوةً بأخوانه وبمساندة أنسابه.. فتستقبله الديار المصرية بالرحب والسعة وتفتح له أبواب عياداتها ومستشفياتها على مصراعيها. علاتنا في أسيوط: أكثر الحلات المرضية التي تفد إلى أسيوط هي حالات مرضى العظام باختلاف عللها، خاصةً وأنه يتواجد في أسيوط أطباء عظام في تخصصات دقيقة جداً فمن متخصص العظام إلى ثاني متخصص في عظام الركبة إلى متخصص في العمود الفقري من ثاني إلى ثالث ورابع مختص في إصابات الرياضة… وهناك مراكز ومستشفيات بحالها مختصة بمعالجة مرضى العظام والعمود الفقري. يليهم الوافدون بحالات الأورام السرطانية.. الذين اعتصرأجسادهم الألم.. فلم يبقي لها شيئاً ولم يذر.. فيفدون إلى أسيوط أملاً في الخلاص من الداء.. والاستمتاع بما تبقى لهم من حياة دون ألم السرطان..فيجدون بُغيتهم في "معهد جنوب مصر للأورام" الذي يستقبل ما يُقارب 2500 حالة ورم سرطاني جديدة سنوياً من صعيد مصر واليمن وغيرها من البقاع.. ويتعامل المعهد مع أكثر من 20 نوع ورم كسرطان الثدي والمثانة وعنق الرحم والرئتين وغيرها.. ويستخدم لذلك العلاج الكيميائي والإشعاعي والتدخل الجراحي. ثم هناك حالات مرضية أخرى تفد إلى أسيوط للعلاج من مثل أمراض القلب والقسطرة والجلطات، فيتواجد لذلك الأطباء الأذكياء المشهود لهم بالخبرة في مجالاتهم.. وتفد أيضاً حالات أمراض الكلى والمسالك البولية وتفتييت الحصوات حيث لا يستغرق الأمر هنا أكثر من 45 دقيقة لتفتييت حصوة بالكلى تخلِّص المريض من ألم الدهر.. كما تفد أيضاً حالات أمراض الذكورة والعقم، وحالات المخ والأعصاب، والنف والأذن والحنجرة، وحتى الأطفال وعمليات التجميل. معاناة أخرى.. تزيد من البلوى: بالرغم من حصول كثير من المرضى – وحتى الطلاب – الوافدين على بغيتهم في أسيوط، تظل هناك هموماً ومشاكل تؤرِّق بالهم وتنكِّد حالهم، نُجمل أهمها فيما يلي: 1. قلة ذات اليد وتخلي الدولة عن رعاياها المرضى.. فأكثر المرضى – إن لم يكن كلهم – قد وفدوا إلى أسيوط عن طريق نفقة خاصة وفروها بعدما استغنوا عن كل ما يملكوه فباعوه لتوفير رحلة العلاج إلى أسيوط، وربما كان هناك فاعلي خير ساهموا في تلك الرحلة ليظفروا ب (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً) هذا سعيد الحظ من توفَّق برحلة الشفاء.. أما وإلا فإن هناك مئات المرضى يرزحون تحت وطأة المرض ولم تتيسر لهم مصاريف السفر. 1. غلاء الأسعار: فقد شهدت الفترة الأخيرة ارتفاعاً رهيباً للأسعار في أسيوط ومصر الثورة عموماً بالرغم من عدم وجود المبرر لذلك، فسعر الدولار قبل الثورة تقريباً هو نفس سعر الدولار بعد الثورة (1 دولار = 6,10 جنيه).. ومن الأمثلة على القفزات الجنونية للأسعار ما يلي: السكن: كان إيجار الشقة (500 جنيه = 18,000 ريال) فأصبحت (2,000 جنيه = 72,000 ريال). * المعيشة: كانت كلفتها الشهرية المتوسطة (700 جنيه = 25,200 ريال) والآن (1,500 جنيه = 54,000 ريال) لا تكفي. * أسعار كشف المعاينة: بعدما كان الطبيب يتقاضى (50 جنيه = 1,800 ريال) أجرة التشخيص والمعاينة في العيادة فأصبح يتقاضى (125 جنيه = 4,500 ريال). * العمليات الجراحية: ومثال على ذلك كانت عملية مفصل الركبة تكلف (3,000 جنيه = 108,000 ريال) أصبحت كلفتها (12.000 جنيه = 432,000 ريال)، بل أن بعض الأطباء بدأوا يسعرون للحضارم بأسعار مرتفعة غير تلك التي يسعرونها للمصريين. * المواصلات: كانت النقليات الداخلية رخيصة جداً تكلف ( 1جنيه = 36 ريال) والآن لا يرضى سائق تاكسي الأجرة بأقل من (3-5 جنيه = 108 – 180 ريال). 1. حالياً بدأت المستشفيات المصرية الحكومية والجامعية التعليمية لا تستقبل الوافدين إلا في حالات الطوارئ فقط غير ذلك لا بدَّ من طبيب يقرر حالة الدخول ولا بدَّ من كفيل مصري للحالة المرضية الوافدة.. الأمر الذي يقلق المرضى ومرافقيهم من تنامي نظام الدخول بالكفيل المعمول به في المملكة العربية السعودية ودول الخليج.. ولا تزال المستشفيات الخاصة تستقبل المرضى الوافدين دون أي تمييز على أساس الجنسية، ولكن يبقى البُعد الشاسع بين المستشفيات الحكومية والمستشفيات الخاصة من حيث الإمكانيات والبنية التحتية وكلفة العلاج الباهضة في المستشفيات الخاصة. 2. ثمة مشكلة أخرى يعاني منها المرضى الوافدين ربما هم تسببوا بانتشارها دون أن يشعروا.. وهي ظاهرة الرشاوي من أجل التخليص.. ففي خضم الأعداد الهائلة من المرضى المتقدمين للمعاينة على طبيب معين، سيأتي دور الوافد الحضرمي بعد شهر أو شهرين، وربما لا يتفهم القائمون على العيادات أن هذا الوافد قادم من اليمن وإقامته هنا مكلفة جداً، فيضطر لرشوتهم مقابل تقديمه، وتسري الرشوة في عدة مقامات يرجو من خلالها الوافد كسب من يتعامل معهم مقابل تخلصه في أسرع وقت ممكن. 3. من المشكلات الحديثة في عصر ما بعد الثورة أن عدد الطلاب الموفودون بدأ بالتناقص، فالمغادرون أكثر بكثير من الوافدين، بل أن الجهات الموفدة لم تعد توفد بعد.. وقد تقدم أهمية وجود الطلاب بأسيوط لما لهم من دور إرشادي وتوجيهي للمرضى. مقابر الأسيوطيين.. تضيق ذرعاً بالحضرميين: وهذه المعضلة كانت من أكثر المشكلات التي تواجه الوافدين الحضارم للعلاج.. فإذا لم يُكتب للمريض الشفاء أو أن المريض نفسه وصل أسيوط في حالة متأخرة جداً واختاره الله إلى جواره.. فإنه لا يكاد يجد قبراً يحتوي رفاثة في بلاد الفراعنة.. فبالرغم من كلفة تجهيز الميت ودفنه والتي تعادل (800 جنيه = 28,800 ريال) يرفض القائمون على مقبرة مستشفى أسيوط الجامعي دفن الموتى الحضارم ويتعذرون بامتلاء المقبرة بجثث الحضارم، فيلجأون إلى دفن موتاهم في مقبرة الوليدية بمنطقة الفساقي شرق أسيوط والتي بدأ القائمون عليها يتضايقون ذرعاً بالجثث الحضرمية، وكانت آخر حالة دفن لميت حضرمي بها في رمضان الفائت، هذا علاوةً على أن طريقة التعامل مع الجثة المتبعة ليست الطريقة الشرعية والمتبعة من قبل الحضارم لدفن موتاهم، فيتم الدفن في مقابر أسيوط بوضع الجثة في غرفة محكمة الإغلاق ولا تفتح إلا بعد ستة أشهر بعدما تحللت الجثة، وتوضع بعدها جثة أخرى وتبقى مغلقة ستة أشهر وهكذا تتراكم الجثث دون لحد. وحالياً السفارة اليمنية في القاهرة سهلت عملية نقل الميت ليُدفن في أرضه بحضرموت، فمن خلال توفير سيارة إسعاف تنطلق من السفارة إلى مكان رقاد الجثة فتنقلها إلى مطار القاهرة لتعود بها إلى أرض الوطن بنفس تذكرة المريض المتوفى، وتكلف عملية النقل هذه ما يقارب (2,000 جنيه =72,000 ريال). مجالس حضرمية: كعادتهم.. الحضارم يجمعهم المهجر.. فهم أينما رحلوا وارتحلوا.. لا بد من مجالس تجمع شتاتهم، فيناقشون أوضاعهم، ويؤازر بعضهم بعضا، ويحنون بنفس واحدة لوطنهم الغالي. ففي أسيوط مثلاً.. تستطيع أن تلحظ تجمعات الحضارم في مناطق: المحطة، الزهراء، النميس، سيتي.. وغيرها، غير أن المكان الذي لا بد أن يؤمه الحضارم ويزورونه هو مقهى زهرة مكة.. فهو قبلتهم الليلية.. مثلما كانت أسيوط قبلتهم العلاجية.