سالم علي بامثقال يتكون المجتمع من أفراد، ومن مفردات الأفراد الفرد ، وإن كل فرد من أفراد المجتمع ، له صداقات كثيرة ومتنوعة . فهل كل فرد في هذا المجتمع ، يعرفون ويثمنون مدى معنى الصداقة ؟ وهل يعيرونها الاهتمام ؟ الصداقة شيء جميل ، فهي كالحلي ذو لمعانٍ وبريق ، ومعدنٍ ثمين ، فلا يتلذذ بها إلا من اكتسبها ، وعرف معناها وقدرها ، فهي كالقصر الذي شمخ في بنيانه ، تأسس على الصدق ، وقوة جدرانه الإخلاص ، وسقفه التفاني . فإن الصديق المخلص والصدوق ، يصبح مثل صندوق الكنوز ، الذي يحفظ فيه كل ثمين ، إذا وضع فيه سراً حفظ ، فما أجمل تلك الصداقة . فإن حسن الاختيار ليس بالأمر السهل واليسير( لأن ليس كل ما يلمعُ ذهباً) فالمعاشرة هي الوسيلة التي تبين المعادن ، والوقت كفيل بمعرفة ، في أن من تصادقه يستحق أن يطلق عليه لقب صديق أم لا . فما أروع المثلُ العامي الجميل ، فهو يصور جمال معناه ، فلو عمل به كل فرد من أفراد هذا المجتمع ، لتستطع التمييز والإدراك في لمعنى الصداقة ، وهو(الدقيقُ يضعُ وسط منخال الدقيق ، فيخرج منه ماكان صافي ونقي ، ويبقى به مهو غير صالح ورديء ) فلو كل واحد منا أدرك معناها وفطنها ، لتبين له جلياً من ذا الذي يسحق صداقتي وتكون له وساماً يتلألأ به . فالشريعة الغراء بينت مدى أهمية الصديق الحسن، وجعلت لها مكانة عالية ، كيف لا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم القائل ( مثل الجليس الصالح وجليس السوء ، كحامل المسك ونافخ الكير ، فحامل المسك إما أن تجد منه ريحاً طيبةً وإما أن يبتاعك ، ونافخ الكير إما ان تجد منه ريحاً خبيثة وإما أن يحرق ثيابك) فإنه من تأمل في هذا الحديث النبوي الكريم وعمل بمقتضاه ستنجلى عن سحابة صداقته الغمة ، وستتضحُ من على صداقته الرؤية ، ويعجبني قول القائل (( ستعلم غداً إذا أنجلى الغبارُ أتحتك فرسٌ أم حمارٌ )) فالصديق من يدودُ عنك الشر ، ويرسم لك طريقُ الخير ، فهو أول من تراه في ساعة العسرة ومعيناً لك في ساعة النصرة . وأذكر في هذا المقام ما قاله نبينا المعلم الرشيد والسراج المنير في الحديث (( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً )) فإن من أساسيات الصداقة، الصفات الحسنة وحسن الخلق فهي تكمن في الصدق والإيثار وحسن التعامل فلقد قرنها النبي صلى الله عليه وسلم بالتقوى كما جاء فالحديث الشريف حين قال ( أتقي الله حيث ما كنت ، واتبع السيئة الحسنة تمحوها وخالق الناس بخلق حسن ) وأيضا التجرد من الكبر والغرور وحب النفس والحسد والبغضاء فهي من الصفات الذميمة التي تشين صاحبها أين ما حل أو ارتحل والتي إذا اكتشفت في صفات أحدٍ صار بها منبوذاً ومذموماً وكان عرضةً للاشمئزاز في عيون الآخرين وسبباً من الفرار منه كفرار الفريسة من الأسد . فالاهتمام بالصديق الحسن يزيدك رفعةً وعلواً وسؤدد ، فقد تكون محسوداً على حسن الاختيار فلا تلتفت ولا تعبأ بحسد الحاسدين . ويعجبني قول الشاعر الذي جسد بأبياته خطورة حسد الحاسد ما في قلبه من سويداء الضغينة حين قال : حسدوا الفتى إن لم ينالوا سعيهُ *** فالناس أعداء له وخصومُ كضرائر الحسناء قلنا لوجهها *** حسداً وبغياً إنه لذميمُ وقول القائل : وشكوت من ظلم الوشاة ولم تجد *** ذا سؤددٍ إلا أصيب بحُسَّدِ لا زلتَ يا صبغ الكرامِ محسَّداً *** والتافهُ المسكين غير محَسَّدِ وقول القائل : ( لله در الحسد ما أعدله بدء بصاحبه فقتله ) ويتمثل أيضا في معنى الصداقة ، ويتلخص في من قال ( رب أخٍ لم تلده أمك) إذا أمنته ضرب لك أروع صوراً في الأمانة وإذا حدثك فلا يخرج من فيه إلا طيب القول ذرراً ، وإن غبت عنه كنَّ لك في صدره حباً كبيراً واشتياقا أليماً ، وسعادة عند اللقاء . فكم نفتقد مثل هذه الصداقة فلا نجدها إلا في النادر القليل فهو الصديق المخلص كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( الأخُ مرآة أخيه) يُقوِّم قوامه إذا أعوج ، وينصح له إذا زلّ ، ويذكره إذا غفل فهذه النوع من الصداقة هي من جواهر الأخوة ، فهي مثل الدانة التي لا تنالُ إلا بعد عناء شديد ولا يدركها إلا من وقر في نفسه جلالة قدرها وعظيم ثمنها . فمع هذا وذاك مما ذكر أنفاً قد يطرأ الخلاف بين صديقين ممن تحلا بهذه الصداقة الناذرة ، فالخلاف لا يخلو منه أحد لأنه سنة كونية قدرها الله جل ولا وسنها كما قال في محكم التنزيل ( ولا يزالون مختلفين إلا ما رحم ربك * ولذلك خلقهم) ولكن حسن التعامل مع الخلاف بالحكمة والرويََّة وطرد حظوظ النفس وعدم اتباع الهوى . بهذا التعامل مهما ارتفعت أمواج الخلاف لابد من وصول سفينة الحب والصداقة إلى بر الأمان . فأختم هذه الكلمات بما أبهر به الإمام الشافعي رحمه الله تعالي عقول المتواضعين وأخرس ألسنة المتكبرين الذين لا يعرفون سوى لغة الكبرياء في التعامل مع الخلاف حين طرق الإمام الشافعي رحمة الله باب أحد العلماء من نظرائه وقال له : (( ألا يسعنا أن نكون إخواناً متحابين ولو أختلفنا في مسألة )) فرحم الله الإمام الشافعي كم هو حليماً مع الآخرين حين الخصومة فهو مدرسة لتربية النفوس وتزكيتها .