منذ بداية عصر النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر، شرع الأوروبيون في السفر داخل القارة الأوروبية وخارجها. فاتجه جزء منهم غرباً صوب الأمريكتين، وفضّل بعضهم الإبحار في اتجاه الشرق، لاسيما إلى البلدان التي تطل على السواحل الجنوبية والشرقية للبحر الأبيض المتوسط، ومنهم من واصل السفر في اتجاه الشرق الأقصى، ومن بين هؤلاء من توقف في موانئ الجزيرة العربية، وحاول بعض المغامرين الدخول إليها لزيارة مدنها أو استكشاف صحاريها. فشبه الجزيرة العربية جذبت اهتمام كثير من الرحالة والحجاج والتجار والمغامرين والباحثين من مختلف أرجاء العالم، وذلك لما تمتلكه من مزايا دينية وجغرافية وحضارية واقتصادية. فهي مهد الرسل والديانات السماوية. وجعلها موقعها الجغرافي مركزا للطرق الرئيسة للتجارة في قلب العالم القديم، وفيها ظهر عدد من أشهر الحضارات في العالم. وإذا كانت اليوم تعد احد أهم مخازن النفط ففي الأمس كانت أهم مراكز تصدير البخور واللبان الذي تحتاجه المعابد في روما وأثينا. ومن المعلوم أن معظم الرحالة الغربيين الذين زاروا الجزيرة العربية قد سجلوا ملاحظات عنها في دراسات أو كتب. ومنهم من قٌام خلال رحلته باقتناء عدد من المخطوطات العربية والقطع الأثرية ونقلها معه للغرب. وكثيرة هي تلك الكتب والدراسات التي ألفها الرحّالة الغربيون عن الجزيرة العربية. بعضهم كتب عنها بشكل عام، ومنهم من اكتفى بتناول جزء منها أو إحدى مدنها. وهناك عدد من الغربيين الذين في سياق دراستهم للشرق قاموا أولا بقراءة مسحية لأكبر عدد من الكتابات التي ألفها من سبقهم من الغربيين في الكتابة عن الشرق أو عن جزء منه. (مثل فريا ستارك فان در ميولن). ومن بين هؤلاء: الباحثة الفرنسية الباحثة جاكلين بيرن التي قضت معظم عمرها في دراسة تاريخ جنوب الجزيرة العربية وبعض مناطق القرن الإفريقي. وتركت لنا نحو 900 دراسة وكتاب ووثيقة عن جنوب الجزيرة العربية والجزيرة العربية بشكل عام ومن أبرزها كتابها الشهير: (اكتشاف جزيرة العرب؛ خمسة قرون من العلم والمغامرة). ورغم أن معظم الذين تخصصوا في آثار الجزيرة العربية قد استفادوا كثيرا مما كتبته جاكلين بيرن فمن الصعب أن نجد اليوم مقالة أو دراسة عنها. لهذا رأينا أن نكرس هذه السطور للحديث أولا عن دورها في التنقيب عن الآثار في شبوة عاصمة مملكة حضرموت، وثانيا: عن كتابها: (اكتشاف جزيرة العرب؛ خمسة قرون من المغامرة والعلم). أولا: جاكلين بيرن والتنقيب في شبوة ولدت جاكلين بيرن عام 1918في (نوييي-سور-سين) إحدى ضواحي باريس. وتحصلت على شهادة الليسانس في الفلسفة من جامعة السوربون سنة 1939. وكان من زملاء دراستها في السوربون جان بول سارتر وصديقه بول نيزان مؤلف كتاب (عدن العربية). وبسبب اهتمامها بتاريخ الجزيرة العربية ولاسيما جنوبها شرعت في قراءة كل ما كتب عنها والتحقت بقسم الدراسات الشرقية في جامعة لوفان الفرنسية وتحصلت منه على ليسانس عام 1951. ومنذ عام 1957 وحتى وفاتها عام 1990 أصبحت مديرة بحث في المركز الفرنسي الوطني للبحث العلمي الذي فرغها للبحث الميداني في أثيوبيا وجنوب الجزيرة العربية. وخلال عقد السبعينات من القرن الماضي استقرت جاكلين بيرن في عدن وتحديدا في الهيئة العامة للآثار وقامت بتشكيل فريق علمي للتنقيب عن آثار مدينة شبوة عاصمة مملكة حضرموت. ومن المعلوم أن اهتمام الأفراد والمؤسسات العلمية الغربية بمدينة شبوة القديمة قد بدأ منذ القرن التاسع عشر. وتسابق الرحالة والمستكشفون لإعادة تحديد موقعها اليوم. ويبدو أن الألماني هانس هيلفريتس هو أول من وصل إليها في عام 1935. وفي حين فشلت منافسته البريطانية فريا ستارك إلى الوصول إلى مدينة شبوة، نجح المستكشف البريطاني هاري سانت جون فيلبي المعروف بلقبه الحاج عبد الله فيلبي في الوصول إليها في نهاية عام 1936. (انظر كتابينا: حضرموت في كتابات فريا ستارك 2004، والمستكشف هاري سانت جون فيلبي ورحلته إلى حضرموت 2012، ودراستنا: صورة اليمن في كتابات هانس هيلفريتس في كتابنا صورة اليمن في كتابات الغربيين 2010). وقد ضم الفريق الأثري الفرنسي-اليمني للتنقيب في مدينة شبوة عاصمة مملكة حضرموت عددا من العاملين في هيئة الآثار بعدن، وعلى رأسهم د.عزة علي عقيل ود.أحمد بن أحمد باطائع ود. محمد صالح بلعفير وخيران الزبيدي. وتوصلت البعثة منذ بدء حفرياتها الأثرية إلى نتائج علمية واكتشافات أثرية في غاية الأهمية، حيث أظهرت التنقيبات التي قامت بها أن المدينة كانت تضم عدداً لا بأس به من المباني وعدد من المعابد منها المعبد المكرس للإله (سين) والقصر الملكي الشهير (شقر) الذي ورد اسمه في النقوش الحميرية وعلى النقود الحضرمية، ويعود بناؤه إلى حوالى القرن الثالث ق. م. ودلت الرسوم الجدارية التي تم العثور عليها في بقايا القصر على أن الحضارة اليمنية القديمة أبعد ما تكون على الانغلاق وكانت على علاقة قوية في مجال الفنون مع الحضارة اليونانية والرومانية. وبينت تنقيبات البعثة في الموقع أن مدينة شبوة كانت الحاضرة الرئيسية لمملكة حضرموت ومركزا لإقامة الملوك، وكانت مدينة محصنة إذ يصل طول سورها الداخلي إلى 1500 متر، بينما يصل طول مجمل نظامها الدفاعي 4200م. وبينت الحفريات التي قامت بها جاكلين بيرن وفريقها العلمي أن مملكة حضرموت القديمة قد شكلت بموقعها المطل على الطرق التجارية البرية والبحرية القديم ومينائها قنا حلقة وصل بين الشرق والغرب. وظلت أرضها تحتفظ بشواهد عدة تبين المستوى الحضاري والرخاء والازدهار الذي بلغته تلك المملكة في عصور ما قبل الميلاد. لذلك ليس غريبا أن يسعى عدد من علماء الآثار والتاريخ والمؤسسات العلمية المحلية والغربية إلى إرسال بعثات أثرية لدراسة آثار وتاريخ تلك المملكة. كما أظهرت المعطيات الأثرية التي توصلت إليها الحفريات والبحوث والدراسات الميدانية التي أجريت في موقع المدينة المستوى الرفيع الذي وصلت اليه مدينة شبوة من غنى وازدهار في الفترة ما بين القرن الرابع قبل الميلاد. وحتى القرن الثالث الميلادي، وكذلك المستوى الهندسي والعمراني الرفيع، حيث بينت الحفريات أن مباني شبوة كانت تصل إلى عدة طوابق، وأن طريقة بنائها تتم على أساس من الحجر وترتفع على هيكل خشب محشو بالطين إلى عدة طوابق. وكشفت الحفريات في شبوة عن آثار أخرى تعود الى أوائل الألف الأول قبل الميلاد، وتعطينا تصوراً كاملاً عن فترة تأسيس المدن القديمة أي في بداية الألف الأول ق. م، وكذلك الممالك والنظام السياسي والاجتماعي ونشأة الكتابة بخط المسند وتطورها في القرن الثامن قبل الميلاد وهو ما يتعارض مع بعض ما سبق أن ردده قبل ذلك بعض المؤرخين الذين لم يعتمدوا على الحفريات في أطروحاتهم. وتجدر الإشارة إلى أن عددا آخر من الفرنسيين واصل أعمال التنقيب في شبوة؛ منهم فرانسوا بريتون ومنير عربش. وقد قامت الدكتورة عزة علي عقيل وفرانسوا بريتون بإعداد كتاب عن نتائج الحفريات في شبوة وتم نشره عام 1996.