استضاف البعوض في اليمن ضيفا يتمتع بالوعي والذكاء والمهارة، لا بل بالدهاء! يلقب البعوض هذا الضيف بالزعيم.. كان هذا الزعيم يعطي حشود البعوض محاضرات قيمة، وكان يسدي إليهم النصح، الاقتراحات ونظريات عن كيفية البقاء والاستمرار في الحياة بمستوى معيشي أفضل، كذلك كان يلفت نظر البعوض الكسول إلى إدراك عدوهم الحقيقي ودراسته جيدا- وهو بطبيعة الحال، الإنسان. هذا الإنسان الذي يخترع في كل آونة وأخرى أنواع جديدة من الأسلحة التي يحارب بها البعوض وهي دائما افتك من سابقتها.. هذا الإنسان الذي لا يكل ولا يمل من محاربه البعوض.. والكلام للزعيم.. هذا العدو الدموي الشرس.. هذا المخلوق هو أيضا غبي واعمي لأنه يحارب العدو الخطأ! يقول الزعيم هذا بينما تهز البعوض رؤوسها في تأييد واستهزاء. كان الزعيم يحقن دماء البعوض بالكراهية والحقد للإنسان.. وذلك بلا شك تصرف مسئول وحكيم.. كان الزعيم يوحي للبعوض بالإبداع ويلقنهن بأن البعوضة حياتها قصيرة.. ومن حقها أن تحياها حرة طليقة.. مجردة من أي مخاوف من أن قناص بشري قد يصفعها باليد البلاستيكية التي نضرب بها الذباب والبعوض حتى الموت أو يرشها بمبيد حشري نفاذ و خانق. كان الزعيم يحرص في نهاية كل محاضره أن يذكر شباب البعوض بأن البعوضة في نهاية الأمر لا تستطيع أن تفعل أكثر من قصار جهدها في الحفاظ على حياتها و أن الموت بضربه يد بلاستيكية أو الموت بمبيد حشري هو المصير المحتوم لكل البعوض.. غير انه يكرر بأن من حق البعوض أن يتمتع بطعم الصحة والسعادة وأن يجرب مذاق النجاح والأمان! كان اخطر ما يقوله الزعيم هو أن الإنسان لا يحق له أن يستهدف البعوض في مجازر جماعية لمجرد انه يمتص قطرة دم واحده فقط من الإنسان.. ماذا في ذلك؟؟ والحديث للزعيم فعلى حد علم الزعيم لا يتضرر الإنسان من فقدان قطرة الدم هذه أي ضرر يذكر ولا يخسر أي خسارة فادحه.. من حق كل الكائنات الحية أن تنمو وتترعرع فلماذا يريد هذا الإنسان البغيض أن يسلبنا هذا الحق؟ كانت هذه المحاضرات قد فعلت فعلها في شد الهمم و تقوية العزائم وبدأ البعوض بمهاجمة الإنسان بشراسة وغل اكبر.. أما الزعيم فقد احتل مكانة الأب الروحي لدى حشود البعوض.. بدأت بعض البعوض تتقرب منه وتجامله بأن تذهب هي وتلدغ إنسان ثم تأتي بقطرة الدم حتى فم الزعيم.. توقف الزعيم عن الطيران و نسي تماما كيف يلدغ.. ازداد وزنه حيث أصبح أثقل من أن يطير. نظرا لتلك الهجمات الشرسة بدأ الإنسان بدوره بتكثيف وسائل القضاء علي البعوض حتى اختفت منها البيوت تماما..أحضر الناس مبيدات حشرية أكثر فتكا و مضارب كهربائية تقتل البعوضة بشحنه صاعقه. لم يبقي احد سوي الزعيم يحاول جاهدا أن يختبئ عند النوافذ حيث لم يعد قادرا على الطيران أو الهروب.. بمرور الوقت بدأ يشعر بالجوع وكان قد فقد الذاكرة ونسي تماما كيف يطعم نفسه! لم يعد هناك بعوضه واحده لخدمته.. ارحموا عزيز قوم .. لم يتمالك الزعيم نفسه من شدة الجوع والعجز فبكي.. أي زعيم وأين الحشود التي كان هو زعيمها؟ فجأة... رأى الزعيم أمامه على الأرض ظل لإنسان ينحني فوقه رافعا ذراعه إلى الأعلى ممسكا بشيء لعله مضرب كهربائي.. يا الله جاء الأجل وحل المصير المحتوم الذي كلم عنه تلاميذه.. وكان الزعيم أسمن من أن يطير واوهن من يفر.. فابتسم ابتسامه كسيره وقال للرجل أمامه، "ماذا لو تفاوضنا؟" توقف الرجل عن تنفيذ نيته بضرب الزعيم. واصل الزعيم حديثه قائلا: "أعطني دقيقه واحده فقط لأسألك أخر سؤال في حياتي.." قاطعه الرجل " هيا انطق بسرعة.. زوجتي تعاني من ملاريا و لا أجد قيمة علاجها و أنا والأولاد لدينا أجزاء من أجسامنا متورمة وحمراء بسبب لدغاتكم.. أيتها البعوضة القذرة بسرعة و إلا قتلتك". التقط الزعيم أنفاسه عندما سمح له بالحديث فربما أقنعه بأنه يحارب العدو الخطأ فينجو بحياته.. قال الزعيم: "فقط أريد أن أسألك سؤال برئ من حشره مسكينة، لا حول لها ولا قوه.. لماذا تريد أن تقتلني؟؟ "أجاب الرجل بحدة: "ألا تفهم أيها الغبي؟ قلت لك زوجتي تعاني من الملاريا ونحن أجسامنا متورمة و... لدينا ما يكفينا و يفيض لتصديره للخارج من الهموم والمعاناة والصراع للحفاظ على قوتنا أو كرامتنا أما أن نخسر كلاهما فذلك أمر عسير. نحن لا ينقصنا لدغ بعوض.. سيكون ذلك مما يقال عنه القشة التي قصمت ظهر أل.. لن أقول البعير ولكنها ظهورنا نحن" أجابه الزعيم " اها... ولكن اسمح لي أن أقول لك أنكم بني البشر لا زلتم أحياء ترزقون.. ولا تؤاخذني إذا قلت لك أنكم تحيون حياه أفضل بكثير من حياتنا نحن البعوض. إنكم تكسبون الأموال وتحبونها حبا جما.. تمتلكون البيوت لا بل قصور وعمارات.. تشترون السيارات وأحدث الأجهزة الالكترونية والموبايلات.. إنكم تسافرون حول الأرض.. زوجاتكم تشتري الأثواب والمجوهرات والعطورات وأولادكم يلعبون و يشاهدون الكرتون.. يدرسون في أفضل المدارس وعندما يكبرون يذهبون لدراسة الجامعة في الخارج..تتزوجون و تفرحون.. وإذا مرضتم تتعالجون..تأكلون الفواكه واللحوم وما لذ وطاب من الحلويات.. لا مقارنه.. لا مقارنه. أين نحن منكم؟ يجب ألاّ تحاول نكران ذلك لأنك ستكون كمن يحاول إخفاء الشمس بيده.. إذن؟؟ إذا لدغناكم فإننا لا نضركم بينما قطرة الدم تعيننا على البقاء أحياء.." رد الرجل "من هؤلاء الذين تتكلم عنهم أنا لا أعرفهم؟ أنهم ليسوا نحن.. ما أعرفه هو أن البعوض ضار لأنه يمتص دم الإنسان ولذلك يجب القضاء على فصيلتكم كاملة". نظر الزعيم إلى الرجل بعينين قويتين.. مخيفتين وأرتفع صوته قائلا: "حقيقة أنا مستغرب للغاية.. أنت فعلا تحيرني.. هل يعقل بأنك لا تعقل و لو حتى قليلا بأن من يمتصون دمكم إلى حد الجفاف و التشقق هو ليس نحن البعوض وإنما أبناء جنسكم من البشر! هل يصدق أنكم البشر قد وصلتم إلى القمر وتحاربوننا نحن البعوض وتتركون أبناء جنسكم؟ آبائكم، إخوانكم، أولادكم المهم ذريتكم يسرقونكم بدون محاكم ولا مشانق لا حتى اعتراض أو كلمه عيب. هل فعلا انتم لا تدركون بأن من يحتاج للضرب بسياط من نار.. هم أصحابكم؟ أولئك الذين نهبوكم وانتفعوا وحدهم بثروات هي في الأصل ثرواتكم؟ دفعوكم دفعا للسؤال واستجداء ما هو أساسا ملككم؟ أولئك الذين اقتلعوا من قلوبكم الأمل بأن تحققوا في المستقبل بعض أحلامكم.. أولئك الذين كنسوا الصبر من أيامكم والابتسام من شفاهكم؟ استأصلوا الحماس والطموح من عقول شبابكم وسكبوا الظلام في أبصاركم. أولئك الذين أجبروكم أن تكفروا و تيأسوا وقد كانت مليئة بالإيمان قلوبكم ..أولئك الذين يعانون من سوء الهضم بينما أنتم تتنازعون وتلملمون فتاتهم.. أولئك الذين أكلوا الموائد كلها و أذنوا لكلابهم و رقيقهم أن يلتقطوا البقايا و أمروكم أن تشهقوا وتزفروا... وأن حذار، حذار أن تقلقوا منامهم! أنا أيها الرجل لا أري كيف أنت أعمي لا تري؟ لا أستوعب كيف أن كل هذا الظلم لم يجعلك تستوعب.. تحاربوننا نحن البعوض وتتركونها تسرح وتمرح تلك الوحوش الضارية... أعدائكم. أيها الإنسان ها هنا، أنا مشفق عليك و أريد أن ابكي. أرجوك اتركني افعل.. أنا قلبي شديد الشفقة. يا الله كم أنت مسكين.. تدور حول نفسك لتوفير قوتك فمتي تسترد انتمائك لوطنك وتسعى لتزهو به.. أنت لا وقت لديك، جعلوا حب الوطن ترف بعيد جدا عن أهدافكم.. شئ محزن فعلا أن تحاربوا العدو الخطأ.. وأن لا تعرفوا من هو فعلا عدوكم"!! كان الرجل قد أحنى جبينه... من ثقل الآلام وحينئذ خرجت البعوضة سيرا على الأقدام. * لأول مرة تنشر بالعربية، فقد نشرت بالانجليزية في "يمن تايمز"عام 2005